المسألة الأولى: قال: [ وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر ].
وهذا فيه أولاً: القيام إلى الصلاة، وقد سبق مراراً أن القيام إلى الصلاة مع القدرة من أركان الصلاة؛ لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] إلى آخر الآية، والإجماع على أن القيام إلى الصلاة فرض على القادر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ).
وهي تكبيرة الإحرام وهي فرض، ركن عند جماهير أهل العلم خلافاً لمن لم ير ذلك من السلف، وخلافاً لـأبي حنيفة الذي يرى أن الدخول في الصلاة يتم بأي صفة فيها تعظيم لله، كأن تقول: (الله أعظم) أو (الله أجل)، بل النصوص تدل على أنه يجب أن يقول هذا اللفظ بذاته: الله أكبر.
ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عن الصلاة: ( مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، أي: أنه إذا كبر حرم عليه ما يحرم في الصلاة: من الالتفات عن القبلة، والكلام، والأكل، والشرب .. وغير ذلك، وتحليلها التسليم، أي: أنه إذا سلم حل له ما حرم عليه في الصلاة من ذلك.
والحديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وهو كما قال .
فهو دليل على أن الصلاة إنما يحرم الإنسان بها بلفظ: (الله أكبر) لا بغيره من الألفاظ.
ولذلك جاء أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد ) إلى آخر الحديث، وذلك كله لا يتم إلا إذا كان الإمام يجهر بالتكبيرات، تكبيرة الإحرام وغيرها من تكبيرات الانتقال؛ ليتسنى للمأمومين سماع صوته واتباع التكبير بعده والانتقال بعده أيضاً.
أي: غير الإمام، وذلك يشمل المأموم والمنفرد، فإن السنة في حقهم أن يخفوا جميع التكبيرات: تكبيرة الإحرام، وتكبيرات الانتقال؛ لأنه لا معنى لجهرهم بها، فليس أحد يتبعهم في الصلاة ليسمعهم أو يكبر بتكبيرهم، ولكن في حقهم أن يخفوا ذلك، وهذا هو المأثور عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أنهم كانوا يخفون تلك التكبيرات.
(عند ابتداء التكبير) أي: تكبيرة الإحرام، أو التكبيرات الأخرى التي يشرع فيها الرفع، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر في المتفق عليه أنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا كبر للصلاة -يعني تكبيرة الإحرام- وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: سمع الله لمن حمده، وكان لا يفعل ذلك في السجود ) هذا حديث ابن عمر رضي الله عنه وهو متفق عليه، وقد صرح فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا كبر للصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع.
وفي حديث ابن عمر أولاً: أن التكبير إلى حذو منكبيه، وفيه أيضاً أنه يرفع يديه عند ابتداء الصلاة، عند تكبيرة الإحرام، وأما موضع الرفع فقد يرفع مع التكبير، قد يرفع مع التكبير وهو الغالب، أو قبله أو بعده، كل هذه الأحوال الثلاثة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ربما رفع يديه قبل التكبير أو بعده أو معه وهو الغالب، ولهذا قال هاهنا: [ ويرفع يديه عند ابتداء التكبير إلى حذو منكبيه ] لحديث ابن عمر السابق، [ أو إلى فروع أذنيه ]، أي: أنه يجعل أصابعه إلى أطراف أذنيه، وهذا أيضاً جاء عند مسلم عن مالك بن الحويرث أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( رفع يديه إلى فروع أذنيه ).
قال بعض أهل العلم: إن أسفل الكف يكون حذو المنكبين، وأطراف الأصابع إلى فروع الأذنين؛ وذلك جمعاً بين النصوص، والأولى -والله تعالى أعلم- أن يحمل هذا على تعدد الأحوال، فأحياناً يرفع يديه إلى حذو منكبيه، وأحياناً يرفعهما إلى فروع أذنيه.
(ويجعلهما) أي: يديه، (تحت سرته)، إذا انتهى من رفعهما فإنه يضعهما تحت السرة على ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى، وقد جاء في ذلك حديث عند أبي داود عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه [ كان يجعل يده اليمنى على اليسرى تحت سرته ]، الحديث رواه البيهقي أيضاً وغيره، وهو حديث ضعيف، وهو أحد الأقوال في المذهب، وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت السرة.
والقول الثاني: أنه يضع اليمنى على اليسرى فوق السرة، وهو مذهب الجمهور الشافعي وغيره.
والقول الثالث: أنه يضعهما فوق صدره، وهذا منقول عن الإمام أحمد وفقهاء أهل الحديث، وهو أصح ما ورد، فقد جاء عند ابن خزيمة وأحمد وغيرهما عن وائل بن حجر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى وضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ) والحديث بهذا اللفظ حسنه الترمذي، وهو أصح ما ورد في الباب، والقول بوضعهما فوق السرة قريب من ذلك، فهذا يشبه مذهب الجمهور فيما سبق وهو أصح ما ورد.
أما وضع اليمنى على اليسرى فهو ثابت بالسنة الصحيحة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة ) وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما.
إذاً: لا إشكال في وضع اليمنى على اليسرى، وإنما الإشكال أين يضعهما: تحت السرة أم يرسلهما أم فوق السرة أم فوق الصدر؟ والأقرب ما ذكرت فيما سلف.
أما إرسال اليدين -وقد نقل من مذهب المالكية- فهذا ليس عليه دليل، وإنما نقل أن مالكاً رحمه الله كان يرسل لعذر عنده، وإلا فإن السنة وضع اليمنى على اليسرى كما سبق.
وهذا يصدق على ما قبل الركوع وما بعده، فإنه يضع يده اليمنى على اليسرى فوق السرة أو فوق الصدر بعد تكبيرة الإحرام وبعد الركوع أيضاً، فإذا رفع من الركوع استحب له أن يفعل ذلك، ومما يدل عليه ما رواه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال: [ كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة ]، وقوله: (في الصلاة) هذا يشمل ما قبل الركوع وما بعده، والله تعالى أعلم.
أي أنه يطأطئ رأسه وينظر إلى موضع سجوده، سواء كان قائماً أو راكعاً أو قاعداً، سواء كان عند الكعبة أو غيرها، وذلك لحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( إذا كبر طأطأ رأسه ورمى ببصره نحو الأرض )، والحديث رواه الحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وهو كما قال .
وقد جاء في بعض الروايات: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ما كان بصره يخالف موضع سجوده )، لما دخل الكعبة وصلى فيها ما كان بصره يخالف موضع سجوده، فدل ذلك على أنه سواء كان في الكعبة أو مشاهداً لها أو في غيرها وفي كل حال، أنه ينظر إلى موضع السجود، وذلك أكمل في الخشوع، وهو حال المحتاج الذليل المفتقر إلى الله جل وتعالى.
ولذلك أيضاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- عن أن يرفع الإنسان بصره إلى السماء، بل اشتد قوله في ذلك حتى قال صلى الله عليه وسلم: ( لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم )، فشدد في ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك دفع لما يشغل المصلي مما يكون في قبلته من الأشكال والصور والرسوم والأحوال وغيرها التي قد تخطف بصره، ولهذا جاء في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة، فلما انصرف منها. قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى
وهذا هو دعاء الاستفتاح، وقد جاء موقوفاً عند مسلم رحمه الله تعالى عن عمر رضي الله عنه، وجاء مرفوعاً عن أبي سعيد عند الخمسة وغيرهم، وسنده جاء مرفوعاً عن أبي سعيد رضي الله عنه عند النسائي وابن السني وغيرهما، وسنده فيه مقال، لكن له طرق يقوي بعضها بعضاً .
وهذا الاستفتاح هو الذي اختاره الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقد رجحه الإمام ابن القيم في زاد المعاد وغيره من نحو عشرة وجوه، منها: اشتماله على ألوان الذكر من التسبيح والثناء والدعاء والتوحيد وغير ذلك، ولو استفتح بغير ذلك من الأدعية الواردة كان ذلك حسناً، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد )، ولو دعا بغير ذلك مثل: ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )، أو غير ذلك من ألوان الاستفتاح التي بلغت ما يزيد على اثني عشر نوعاً؛ فكل ذلك لا حرج فيه، وإن كان الكثير منها إنما ثبت في صلاة النافلة في قيام الليل، لكن إذا ثبت في صلاة النافلة فالأصل جوازه في غيرها، وأكثر ما كان يقول صلى الله عليه وسلم: إما (سبحانك اللهم وبحمدك)، أو (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) ونحوهما.
والسنة أن يسر بذلك، ولو جهر به للتعليم فلا حرج، فإن عمر رضي الله عنه جهر بذلك -كما في الحديث الصحيح- من أجل أن يعلم المأمومين هذا الدعاء والذكر، ويبين لهم مشروعيته.
وذلك لقول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، وهو أمر يدل على تأكد ذلك، أنه ينبغي للمصلي والقارئ أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولو زاد: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) فحسن؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه كان ذلك حسناً؛ لأنه رواه الخمسة عن أبي سعيد الخدري بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه )، والهمز: هو نوع من الجنون، والنفخ: هو الكبر، والنفث: هو الشعر، الشعر الباطل المذموم الذي يكون معصية ومخالفة.
فاستعاذ بالله تعالى من هذه الأشياء كلها، ولو جمع هذا وذاك فقال: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) كان ذلك أكمل ألوان الاستعاذة.
وهل يستعيذ بالله تعالى في كل ركعة، باعتبار أن كل ركعة فيها قرآن، أم يستعيذ بالله تعالى في الركعة الأولى؟
وجهان في المذهب وغيره، والأقرب أنه إنما يستعيذ في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام وبعد دعاء الاستفتاح؛ لأن هذا هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينقل عنه -فيما أعلم- أنه كان يستعيذ بالله في غيرها.
وذلك -أي: قول بسم الله الرحمن الرحيم- ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر، كما في حديث أنس وغيره أنه ذكر أنهم لم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وجاء في بعض الطرق: ( لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها )، وفي بعضها أنهم ( لم يكونوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم )، والمعنى: أنهم لم يكونوا يجهرون بها، وإلا فقد اتفقت الرواية أنهم يقولونها، لكن الغالب أنهم يسرون بها، وإلا فإنها تقال في أول القراءة في الصلاة.
أي: مما سبق، سواء دعاء الاستفتاح أو الاستعاذة أو قول: بسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لقول أنس رضي الله عنه: ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم و أبي بكر عمر
أما قراءة الفاتحة فهي ركن في الصلاة في حق الإمام والمنفرد؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه -حديث عبادة بن الصامت -: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) وقال في الحديث الآخر: ( كل صلاة لا يقرأ فيها بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] -أي: بسورة الفاتحة- فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج ) أي: ناقصة، والأحاديث في وجوب قراءة الفاتحة كثيرة جداً، ومنها: حديث عبادة وهو الذي ساق المصنف رحمه الله تعالى لفظه حين قال: [فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها -أي: بالفاتحة- إلا المأموم، فإن قراءة الإمام له قراءة].
وقوله: [ فإن قراءة الإمام له قراءة ]، هذا لفظ حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رواه ابن ماجه والدارقطني وأحمد وابن أبي شيبة والطحاوي وغيرهم، وحسنه غير واحد، وقواه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته القيمة في القراءة خلف الإمام، وكذلك قوى بعض أسانيده البوصيري في تعليقه على سنن ابن ماجه : ( من كان له إمام فقراءته له قراءة ) وضعفه آخرون، والحديث له شواهد وطرق كثيرة تقويه، وهو دليل على أن قراءة الإمام قراءة لمن خلفه، خاصة في الصلاة الجهرية، فإذا جهر الإمام أسر المأموم وسكت؛ ولذلك قال الله عز وتعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي [ رواه أهل السنن وصححه مسلم وهو صحيح ]، قال: ( وإذا قرأ فأنصتوا )، فهو دليل على أنه إذا قرأ الإمام وجب على المأموم الإنصات مطلقاً، فإن سكت الإمام قرأ، فإن قرأ سكت هو، حتى الفاتحة لا يتعين على المأموم قراءتها في الصلاة الجهرية، إلا إذا سكت الإمام وأعطى المأمومين وقتاً يقرءون فيه الفاتحة.
وهذا من المواضع التي قال فيها الأصوليون: إنه لا مجال فيها للاحتياط، فإن بعض العلماء يقول: يجب عليه قراءة الفاتحة بكل حال سكت الإمام أو لم يسكت، وبعضهم يقول: يجب عليه السكوت بكل حال سواء في الفاتحة أو في غيرها، فإن أرضى هؤلاء قال أولئك: خالفت السنة وفعلت أمراً محرماً، فلا بد فيها من الاجتهاد، واختيار أحد الأقوال مراعاة لدليله.
والأظهر والله تعالى أعلم أن الأدلة -وهي كثيرة جداً- تدل على أنه إذا كان مأموماً فإنه ينبغي أن يسكت إذا قرأ إمامه، وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فعليهم ولكم ) فدل على أن صلاة الإمام صلاة لمن خلفه، ومعلوم أن الإمام يتحمل عمن خلفه أشياء كثيرة، فهذا من هذا.
فالأقرب -والله تعالى أعلم- أنه لا يقرأ المأموم الفاتحة إلا إن كان الإمام يسكت فإنه يقرأ حينئذ.
ومما يقوي ذلك: أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسكت بعد قراءة الفاتحة ليقرأها المأمومون من بعده، أما حديث سمرة فإنه فيه حفظ سكتتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، الأولى بعد تكبيرة الإحرام والثانية قبل الركوع، أما السكتة بعد الفاتحة فإنها شاذة لا تثبت ولا تصح .
أما المقصود بالسكتات فإنها السكتة الأولى التي بعد تكبيرة الإحرام، والسكتة الثانية التي بعد الانتهاء من القراءة وقبل الركوع، وذكر بعضهم سكتة ثالثة بعد قراءة الفاتحة وقبل الشروع في السورة بعدها، ولكن هذه لا تثبت ولا تصح.
أما ظن بعضهم أنها السكتات بين الآيات فهذا بعيد؛ لأنه إذا طالبنا المأموم بالقراءة في السكتات التي تكون بين الآيات؛ فإن ذلك يترتب عليه انشغال المأموم عن متابعة إمامه وعن فهم ما يقرأ، فإنه ينازعه القراءة وينتظر سكوته حتى يشرع في آية يقرؤها، وغالباً أن تلك السكتات لا يكون فيها مجال كاف لقراءة آية أو ما زاد عليها، فإنما المقصود بالسكتات ما بعد تكبيرة الإحرام، وما بعد قراءة الفاتحة، وما قبل الركوع.
(وفيما لا يجهر به) أي: كصلاة الظهر والعصر، أو كالثالثة من المغرب، أو كالثالثة والرابعة من العشاء، هذا هو ما لا يجهر فيه كما سوف يأتي.
أي: بعد الفاتحة، وهذه السورة مستحبة بالإجماع، وليست واجبة عند أحد من أهل العلم فيما أعلم، فهي تقرأ استحباباً في الأولى والثانية من الظهر والعصر والمغرب وكذلك في العشاء، وقال بعضهم: يستحب أن يقرأ أيضاً في الثالثة والرابعة أحياناً, كما جاء ذلك في صلاة الظهر والعصر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث أبي سعيد وأبي قتادة وغيرهما، وهو قول جيد حسن، أن يقرأ أحياناً في الثالثة والرابعة سورة قصيرة.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر بطوال المفصل، فكان يقرأ بـ (ق)، ومن المعلوم أن المفصل من سورة (ق) إلى (الناس)، وإنما سمي المفصل لقصر سوره، هذا هو المشهور المعروف، وقيل: من الحجرات، وقيل غير ذلك، وهو المفصل إلى سورة الناس، وينقسم إلى أقسام: الطوال والأوساط والقصار، وهو معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قرأ في الفجر بسورة (ق) وقرأ فيها بسورة (الم تنزيل) السجدة، وقرأ فيها بنحو ذلك من الطوال، وهذا هو الهدي الثابت المستقر عنه صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك جاء عن سليمان بن يسار : [ أن رجلاً في المدينة إماماً كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بأوساطه، وفي الصبح بطواله، فصلى خلفه أبو هريرة رضي الله عنه، فلما انصرف قال: ما رأيت إماماً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا ] والحديث رواه النسائي وإسناده صحيح.
هذا هو الغالب من فعله صلى الله عليه وآله وسلم، وربما قرأ في الفجر صلى الله عليه وسلم بأوساط المفصل، كما قرأ بـ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، وربما قرأ بالقصار أيضاً عليه الصلاة والسلام، قرأ في الفجر إِذَا زُلْزِلَتِ [الزلزلة:1]، بل قرأ فيها -كما عند النسائي من حديث عقبة - بـ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1].
والدليل على ذلك حديث سليمان بن يسار السابق في قصة ذلك الإمام الذي في المدينة [ وكان يقرأ في المغرب بقصار المفصل ]، وهذا ليس كثيراً، ليس هو الغالب -والله تعالى أعلم- غلبة شديدة، فإنه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، وقرأ فيها بطوال المفصل وقرأ فيها بأوساطه، بل قرأ فيها بطولى الطوليين، وكان صلى الله عليه وسلم ينوع في صلاة المغرب، فيقرأ بالقصار والأوساط والطوال، وهذا هو الذي تدل عليه السنة.
يعني: في الظهر والعصر والعشاء، وكان هذا هو الغالب من فعله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا هو الغالب، وقد قرأ صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر بالسماء والطارق، وسبح والغاشية، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، وكذلك في العشاء ونحوها، فهذا هو الغالب من فعله صلى الله عليه وسلم، وأمر به أصحابه كما أمر به معاذاً رضي الله عنه وكان يصلي في قومه بني سلمة، والظهر أطول من العصر كما دلت على ذلك الأحاديث المتفق عليها، والأولى أيضاً أطول من الثانية.
أما الجهر في تلك الركعات فإنه ثابت مستفيض عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا كانوا يسمعون قراءته وينقلونها نقلاً متواتراً مستفيضاً عن أصحابه رضي الله تعالى عنهم، ولهذا أجمع العلماء على استحباب الجهر فيما جهر به النبي صلى الله عليه وسلم والإسرار فيما أسر فيه، وأبو هريرة رضي الله عنه يقول: [ في كل صلاة قراءة، فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم ]، فكان يسمعهم القراءة في صلاة الصبح وفي الأوليين من صلاة المغرب والعشاء، ويسر فيما سوى ذلك، يسر بصلاة الظهر وصلاة العصر، وفي الثالثة من المغرب، وفي الأخيرتين من العشاء، ومع أنه يسر فإنه كان يجهر أحياناً بالآية، كما في قوله رضي الله عنه: ( يسمعنا الآية أحياناً )، أي أن ذلك هو الغالب ولكنه قد يجهر بالآية من صلاة الظهر أو العصر، فدل ذلك على أن مسألة الجهر والإسرار على سبيل السنية والاستحباب، وهو إجماع -فيما أعلم- نقله ابن قدامة في المغني وغيره من أهل العلم، أنه لو جهر في موضع الإسرار أو أسر في موضع الجهر لم يكن عليه في ذلك حرج، إلا أن يكون ذلك على سبيل النسيان؛ فإنه يستحب له عند جماعة من الفقهاء أن يسجد للسهو.
هذا تكبير للركوع، وهو تكبير انتقال، يكبر مع الحركة، أي: يكبر مع انتقاله للركوع، يكبر معه ويركع ويرفع يديه حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه، كما رفعهما عند تكبيرة الإحرام.
وهذا هو الركوع، وهو ركن لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، وقال: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، فهو ركن في الصلاة، وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته كما في الحديث المتفق عليه.
وصفة الركوع: أن يضع يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع، كما في حديث وائل بن حجر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ركع فرج أصابعه، وإذا سجد ضمها ) والحديث رواه الحاكم وصححه.
والمقصود بتفريج الأصابع: أن يجعلها على ركبته جميعاً، خلافاً للتطبيق الذي كان مشروعاً ثم نسخ، وكان ابن مسعود يقول به رضي الله عنه.
والتطبيق: هو أن يضع يديه ظهر إحداهما على الأخرى بين ركبتيه، فهذا هو التطبيق، وهو منسوخ بالأحاديث الصحاح، والسنة أن يلقم يديه ركبتيه كما جاء في حديث وائل، ومثله أيضاً حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه الذي رواه أبو داود وغيره، وفيه: ( أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره ) أي: ثناه وحناه وسواه؛ ولهذا قال المصنف رحمه الله: [ ويمد ظهره ] مداً بحيث لا يكون ظهره منحنياً أو محدودباً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود ).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر، وقال أبو حميد : ( وهصر ظهره ).
قال: [ ويجعل رأسه حياله ] أي: حيال ظهره مساوياً له؛ ولهذا جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم أنها قالت: ( وكان إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه -أي: يخفضه- ولكن بين ذلك )، بحيث يكون رأسه مساوياً لظهره.
وذلك لحديث ابن عباس الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب )، قال عليه الصلاة والسلام: ( إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب ) يعني: قولوا: سبحان رب العظيم، ( ولما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه عقبة بن عامر -: اجعلوها في ركوعكم ) وهو حديث صحيح رواه أحمد وأهل السنن، ( اجعلوها في ركوعكم )، وهذا دليل على أنه يجب على المصلي أن يقول: سبحان ربي العظيم؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: ( فعظموا فيه الرب )، وقوله: ( اجعلوها في ركوعكم ) فضلاً عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك، والواجب -والله تعالى أعلم- واحدة، وأدنى الكمال ثلاث؛ لما جاء في مسند الخلال وغيره أنه قال: إنه أمر بذلك ثلاثاً وقال: وذلك أدناه، أنه أمر بالتسبيح ثلاثاً وقال: وذلك أدناه.
فأدنى الكمال ثلاث والواجب واحدة، وإن زاد إلى عشر فذلك حسن.
هذا في حق الإمام أنه يرفع رأسه من الركوع ويقول مع رفعه: سمع الله لمن حمده، ويرفع يديه كرفعه الأول؛ وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يرفع يديه كما ذكر ابن عمر في الحديث المتفق عليه -وذكرته قبل قليل- أنه يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع، يرفعهما إلى منكبيه أو إلى فروع أذنيه.
وإن قال: (اللهم ربنا ولك الحمد) فحسن؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن قال: (اللهم ربنا لك الحمد) فذلك ثابت أيضاً، فتبين أن في ذلك ثلاث صيغ كلها ثابتة: اللهم ربنا ولك الحمد، وهذه أكملها، اللهم ربنا لك الحمد، أو ربنا ولك الحمد.
[ ثم يقول: ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ].
أي: أنه يحمد الله تعالى حمداً كثيراً؛ ولذلك جاء في بعض ألفاظ الحديث: ( حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه )، وذلك ثابت أيضاً.
( ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد ) يعني: من مخلوقاتك غير السماوات وغير الأرض، وهذا قد رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وزاد: ( أحق ما قال عبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )، فيستحب أن يقول هذا الدعاء كله، وقوله: (أحق ما قال عبد وكلنا لك عبد) أي: أن الكلام الحق المصيب الذي يقوله العبد -وكلنا عبيد لك- هو أنه لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، فأنت المانع المعطي، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، فذو الحظ والغنى والمال والدنيا والجاه والنصيب لا يمنعه ولا ينفعه منه ذلك، إنما ينفعه عمله الصالح، هذا معنى قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، أي: لا ينفع صاحب الغنى منك الغنى، ولا ينفع صاحب المال منك المال، ولا ينفع صاحب الجاه منك الجاه، ما ينفعه منك إلا عمله الصالح وطاعته وقربته وتقواه.
هذا المعنى وهو دعاء مشروع -كما ذكرت- للإمام والمأموم والمنفرد، أن يقولوا جميعاً: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال عبد -وكلنا لك عبد- اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
هذا فيه شيئان: الأول: أن المأموم لا يستحب له أن يقول: سمع الله لمن حمده، خلافاً لمن استحب ذلك من الشافعية وغيرهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد )، فهذا دليل على أنه يجب على الإمام أن يقول: سمع الله لمن حمده، ويجب على المأموم أن يقول: ربنا ولك الحمد، فلا يقول: سمع الله لمن حمده، بل هذا ذكر خاص بالإمام.
هذا أمر وهو صحيح في قوله: يقتصر المأموم على قول: ربنا ولك الحمد، أي: فلا يقول: سمع الله لمن حمده، وهذا هو قول الجمهور وهو الأصح دليلاً.
المسألة الثانية: أن بعض الفقهاء يقولون: إن المأموم يقول: ربنا ولك الحمد ويسكت، فلا يقول: حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد.. إلى آخر الدعاء، وهذا أخذوه من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: ( وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد ) ولم يزد على ذلك، والصواب: أن الزيادة مشروعة، وهي مأخوذة من النصوص الأخرى التي ذكرتها كحديث أبي سعيد وغيره، وقد جاء في صحيح البخاري أن رجلاً قال في الصلاة: ( ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من الذي قالها؟ فقال الرجل: أنا ولم أرد إلا الخير، فقال: لقد رأيت سبعين ملكاً يبتدرونها ).
ثم يخر ساجداً، أي: يهوي إلى الأرض عن قيام ساجداً مكبراً، ويكون التكبير حينئذ في أثناء خروره، في أول ما يهوي إلى السجود، ولا يلزم أن يطيل التكبير بحيث يمتد إلى السجود للمشقة في ذلك، وعدم نقل السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، بل السنة أن يكبر تكبيراً معتاداً يبدؤه أول ما يهوي إلى السجود، ثم لا يرفع يديه في ذلك على الصحيح؛ لحديث ابن عمر قال: وكان لا يفعل ذلك في السجود.
وذلك للحديث الوارد فيه وهو حديث وائل بن حجر : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك، وهو الذي رجحه جماعة، وهو رواية مشهورة في المذهب، واختارها الإمام ابن القيم رحمه الله ونصرها في زاد المعاد، واختارها جماعة من فقهائنا المعاصرين كـابن باز وابن عثيمين وغيرهما.
والقول الثاني: أنه إذا أهوى إلى الأرض فالسنة أن يقدم يديه ثم ركبتيه ثم جبهته وأنفه، وقد جاء ذلك في حديث إسناده جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه )، والحديث رواه الثلاثة، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام : وهو أقوى من حديث وائل بن حجر، ثم قال: فإن له شاهداً من حديث عبد الله بن عمر، وحديث ابن عمر صححه ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقاً موقوفاً .
إذاً: ماذا يقدم الإنسان: يديه أو ركبتيه؟
قولان مشهوران، والإمام ابن تيمية رحمه الله ذكر ذلك ولم يظهر منه ترجيح واضح في هذه المسألة، والأظهر -والله تعالى أعلم- أن الأمر في ذلك واسع، إن قدم يديه أو قدم ركبتيه، فالأمر واسع، المهم ألا يتشبه بالبعير فيبرك بروكاً، أي أنه يهوي إلى الأرض دفعة واحدة، وينزل إليها بسرعة وبانحطاط ويهبط بثقله إلى الأرض، بل ينبغي أن ينزل نزولاً تدريجياً هادئاً، سواء قدم يديه أو قدم ركبتيه.
أي: هذه صفة السجود؛ وذلك لأنه هو المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أبو حميد الساعدي في سنن أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جافى عضديه عن إبطيه )، وفي حديث البراء أيضاً الذي وصف سجود النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه وضع يديه على الأرض ورفع عجيزته )، وجاءت في ذلك أحاديث كثيرة، وفي بعضها: ( أنه صلى الله عليه وسلم جخى ).
فالمقصود: أن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يجافي عضديه عن جنبيه، ويجافي بطنه عن فخذيه، ويجعل كل عضو يأخذ حقه في السجود، ويجعل يديه حذو منكبيه، ويستقبل بأطراف أصابعهما القبلة كما جاء في حديث أبي حميد أيضاً.
[ ويكون على أطراف قدميه ].
وتكون أطراف القدمين أيضاً مستقبلة القبلة، كما جاء في حديث ابن عباس المتفق عليه أنه قال: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ) وذكر: الجبهة والأنف واليدين والركبتين وأطراف القدمين.
وهذا ذكر السجود؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، قال: ( اجعلوها في سجودكم )، وكان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ويأمر به، ويكثر في السجود من الدعاء؛ ولهذا قال في الحديث السابق حديث ابن عباس : ( أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء ).
وفي حديث عائشة المتفق عليه أيضاً ( أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ) فذلك أيضاً من الدعاء المشروع في الركوع وفي السجود، وكذلك كان يقول: ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح ) في الركوع وفي السجود.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره: ( إذا سجد أحدكم فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً وذلك أدناه ) كما ذكرته قبل قليل، وقد رواه الأثرم أيضاً.
والواجب من ذلك عند جماعة من أهل العلم واحدة، وأدنى الكمال ثلاث، ولو زاد إلى عشر فلا حرج، وقال الكثيرون: إن ذلك ذكر مستحب وليس بواجب، وما سبق من الأدلة ظاهره أمر يقتضي الوجوب.
من السجود إلى الجلسة بين السجدتين، يرفع رأسه مكبراً فيجعل التكبير مقارناً في الرفع، ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه: ( يكبر حين يركع، ويكبر حين يهوي، ويكبر حين يقوم من الثنتين )، فدل ذلك على أن التكبير في الغالب يكون مصاحباً لعملية الانتقال ليس قبلها ولا بعدها.
ولهذا قال: [ ثم يرفع رأسه مكبراً ] أي: من السجود.
وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزيد على ذلك، فكان يقول: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني ) والحديث رواه الأربعة إلا النسائي وسنده جيد .
وجاء أيضاً أنه كان يقول: ( رب اغفر لي، رب اغفر لي )، وذكر الحافظ رحمه الله في تخريجه لأحاديث الأذكار أنه كان يقول: ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير )، وعلى كل حال فالجلسة بين السجدتين من مواطن الذكر والدعاء، فيقول فيها هذا الدعاء ولو زاد دعاء من جنس الدعاء المشروع لم يكن في ذلك حرج، فلو قال كما يقول بعض الناس: (رب اغفر لي ولوالدي)، لم يكن في ذلك حرج.
وهذه هي الجلسة المستحبة في الجلوس بين السجدتين، وهو الغالب من فعله عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في حديث ابن عباس عند مسلم استحباب جلسة الإقعاء وأن ذلك من السنة، والإقعاء المستحب عند بعض أهل العلم هو أن ينصب قدميه ويقعد فوقهما، ولا بأس أن يفعل ذلك أحياناً قليلة، وإلا فإن الغالب -كما سبق- هو الافتراش.
أما الإقعاء المنهي عنه فهو أن يفضي بمقعدته إلى الأرض وينصب ساقيه كما أفعل أنا الآن، فهذا إقعاء منهي عنه، ومثل ذلك أيضاً: أن ينصب قدميه ويقعد بينهما فإن ذلك منهي عنه أيضاً.
في الغد إن شاء الله عندنا بقية صفة الصلاة، وكذلك عندنا أركان الصلاة وواجباتها.
الجواب: نعم، الإمام ابن القيم رحمه الله ذكر أن الحديث مقلوب كما في زاد المعاد، وهذا قول، اجتهاد رآه الإمام رحمه الله، وهو قول قوي لا شك في ذلك، والقول الآخر قوي أيضاً، والأمر في ذلك واسع.
الجواب: نعم، هو إذا ركع، إذا ركع لو صب عليه الماء لاستقر.
الجواب: لأنه لم يرد أمر صريح في ذلك لا صارف له حتى نقول بالوجوب.
الجواب: لا حرج في هذا، لكن السنة أن يغير وينوع، ولهذا أنكر بعض الصحابة على مروان لما كان يداوم على قراءة قصار السور في صلاة المغرب.
الجواب: لا يقال؛ لأنه ممكن أن يبين للناس عدم الوجوب بقوله لا بفعله.
الجواب: إغماض العينين كرهه بعض الفقهاء وقالوا: إنه من فعل اليهود، وقال آخرون: إن كان في إغماض العينين تحقيق للخشوع لوجود شيء يصرفه عن ذلك فلا حرج فيه، وهو الأقرب، وهو منقول بنحوه عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
الجواب: هذا كتاب جمع فيه أدلة فقه الأحناف، فهو كتاب مفيد من حيث الأدلة، وقد يوجد فيه بعض الأحاديث التي يستدل بها الأحناف وقد لا توجد في كثير من الكتب.
الجواب: إن كان المأمومون لا يشق عليهم ذلك أو أخبرهم به فلا بأس.
الجواب: هناك خلاف قوي: هل هي من الفاتحة أم ليست من الفاتحة، وعلى كل حال لا بأس أن يجهر بها الإمام أحياناً.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر