إن عباد الله المتقين لربهم، المشفقين من العرض عليه يوم القيامة، يأتمرون بأمره سبحانه، ويجتنبون نهيه، ويقيمون حدوده، فيستحقون بذلك رضوانه وجنته، أما المكذبون فهم في خوضهم يلعبون، فلا يقيمون شعيرة ولا يحفظون شريعة، وإذا جاءهم الأمر من أمر الله ورسوله إذا هم عنه يعرضون، وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، فكان جزاؤهم المحتوم أن يصلوا عذاب الجحيم.
الحمد لله, نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه, ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: ها نحن مع خاتمة سورة المرسلات المكية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
[المرسلات:41-50].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ
[المرسلات:41], بعد ما أعلمنا تعالى بما للكافرين والمشركين والمجرمين من أنواع العذاب وصنوف الشقاء في جهنم بين لنا تعالى ما يئول إليه المسلمون, ويعود أمرهم إليه في الجنة، فقال:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ
[المرسلات:41]. والمتقون ليسوا البيض ولا السود, ولا العرب ولا العجم, ولا الأولين ولا الآخرين, وإنما هم المؤمنون في كل زمان ومكان إذا اتقوا ربهم, فأدوا ما أوجب عليهم، وتخلوا عما نهاهم عنه. هؤلاء هم المتقون.
الطريق الموصل للتقوى
نقول ونكرر القول: يا عبد الله! لن تستطيع أن تكون من المتقين إلا إذا آمنت حق الإيمان, وبلغت درجة اليقين، وآمنت بالله ولقائه، وآمنت بالله ورسوله، وآمنت بالله وكتابه، ثم عليك أن تعلم ما يأمرك الله به؛ لتفعله، وتعلم ما نهاك عنه؛ لتتركه، وإلا فلن تكون ولياً تقياً. وقد قال تعالى في سورة يونس المكية:
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 
[يونس:62]. وهم
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 
[يونس:63-64]. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
طلب العلم فريضة على كل مسلم ). والمسلمة تابعة للمسلم. وهذا العلم ليس طعاماً ولا شراباً, ولا كساء ولا لباساً, وإنما هذا العلم هو معرفة ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال, والصفات والذوات؛ لنفعل محبوبه طاعة له، وكذلك العلم بما يكره الله وبما حرم من الاعتقاد الباطل والقول الفاسد, والعمل السيئ والصفة المذمومة؛ لنتجنب ذلك ونتركه. وبذلك نفوز بولاية الله، ونصبح لا خوف علينا ولا حزن, ووالله لنبشرن بهذا في الدنيا قبل الآخرة, فبشراك يا عبد الله الولي!
وقوله:
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ
[يونس:64], فسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الحياة الدنيا بأنها ( الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له ). فيبشر بها قبل أن يموت. واليوم جاءني أحد الأبناء وقال لي: رأيت البارحة أني جئت للحلقة, وما وجدت أحداً فيها, ولم أجد شيخاً فيها، فبكيت. فقلت: أبشر! فهي عكس ما رأيت، فالحلقة مملوءة, وأنت من الفرحين المسرورين. والحمد لله.
معنى قوله تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون)
قال تعالى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ 
[المرسلات:41] جمع ظل. وظلال الأشجار هناك لا يعرف مداها إلا الله, وهذه الأشجار في الجنة دار السلام، والجنة فوق السماء السابعة. فالمتقين يوم القيامة
فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ 
[المرسلات:41]. وفي الجنة أربع عيون: عين العسل، وعين الخمر، وعين الماء, وعين الخمر, وهي عبارة عن أنهار تجري. وأما الكافرون والمشركون فهم في جحيم وسموم وحميم.
قال تعالى مخبراً أن الملائكة تقول للمؤمنين في الجنة ويقول لهم كذلك الرب تبارك وتعالى:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 
[المرسلات:43]. فكلوا واشربوا. وهذه دعوة لترقيتهم وتطهيرهم, وزيادة فرحهم وسعادتهم، فيقول لهم:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا 
[المرسلات:43]. ولا يضرهم ذلك الأكل والشرب أبداً، بل كله هناء، ولا مغص يصيبهم منه, ولا بول ولا غائط أبداً. ولذلك يقول لهم:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا 
[المرسلات:43]. وعلل لذلك بقوله:
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 
[المرسلات:43]. وقد كانوا يعملون والله الرباط والجهاد، والإنفاق في سبيل الله وإقام الصلاة، وبر الوالدين والإحسان, وغير ذلك من كل ما أوجب الله. فهذه الكرامة
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 
[المرسلات:43]. والذين لا يعملون لا يدخلون الجنة والله؛ لأنهم ليسوا أهلاً لها أبداً.
ودخول الجنة يحتاج إلى طاعة الله وطاعة رسوله. وبيان هذا يحتاج إلى دراسة أعوام؛ حتى نعرف كل ما يحب الله, فنعرف كل كلمة يحبها، ونعرف كل حركة يحبها الله ونتحركها. فنحقق طاعة الله وطاعة رسوله, وذلك بفعل ما أوجب, وترك ما حرم ونهى.
وطلب العلم فريضة، ووالله لن يكون جاهل ولياً لله أبداً، ومستحيل أن يوجد ولي من أولياء الله وهو جاهل، فهذا ما يمكن أبداً، بل لا بد وأن يعرف ما يحب الله ويفعله؛ طاعة لله، ويعرف ما حرم الله ويتركه؛ طاعة لله، وبذلك تتم الولاية، وقد قال تعالى:
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
[يونس:63] الله، ويخافونه ولا يعصونه، بل يفعلون ما أوجب فعله، ويتركون ما حرم فعله. وهذا لا بد له من العلم.
الطريق إلى التعلم
قلنا آلاف المرات: ليس صعباً أن ندرس ونتعلم, ولا يقل أحد: أنا مشغول في زراعتي، وهذا في صناعته، وهذا في تجارته، فلا يمكننا أن نتعلم, لأننا نقول: إذا دقت الساعة السادسة مساءً فعلينا أن نوقف العمل، فالفلاح يلقي مسحاته، والصانع يلقي آلته، والتاجر يغلق باب دكانه، ويتوضئون ويأتون إلى بيت ربهم، ويصلون المغرب كما صلينا، ثم يجلسون كجلوسنا هذا، ويعلمون ليلة آية من كتاب الله, وليلة حديثاً من أحاديث رسول الله وذلك طول العام، بل طول العمر، ووالله لن يبقى جاهل، حتى لو كان ما يعرف الألف ولا الباء ولا التاء، وبالتعلم بالسماع والمعرفة فقط يصبح من أعلم الناس، ومثل ذلك أصحاب رسول الله, فقد كان أحدهم ما يكتب ولا يقرأ. وليس هناك طريق غير هذا. وليس في هذا صعوبة.
واليهود والنصارى والمجوس والكافرون إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل, وذهبوا إلى السينما والملاهي, والملاعب واللهو الباطل, والخمر والسكر, وما إلى ذلك. وأنتم أيها المؤمنون! عليكم أن تذهبوا إلى بيوت الله، وهم والله ما ذهبوا إليها ولا عرفوها، بل يعيش الرجل منهم في القرية أربعين سنة ولا يجلس مجلساً كهذا, ولا يسمع لله ولا عن رسوله. وهذا لن يكون عالماً, بل مستحيل هذا.
قال تعالى:
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ 
[المرسلات:44]. فقوله:
إِنَّا 
[المرسلات:44], أي: رب العزة والجلال والكمال كما جزينا المتقين
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ 
[المرسلات:44]. فاللهم اجعلنا من المحسنين.
والمحسنون ضد المسيئين، فيقال: هذا محسن وهذا مسيء. والمحسن هو: الذي يحسن عبادة الله ويتقنها, ويجودها ويؤديها كما أمر الله. والمسيء هو: الذي يسيء فيها, ويقدم ويؤخر, ويزيد وينقص بالباطل، ولذلك فهي لا تزكي نفسه ولا تطهرها، بل الإحسان في العمل وإتقانه وتجويده وتحسينه هو الذي ينتج الزكاة والطهر للنفس البشرية.
قال تعالى: إن سبب دخول الجنة
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
[المرسلات:43]. وهو أن ذاك العمل كان مزكياً لنفوسهم, مطهراً لها. وسبب ذلك هو: إحسانهم له، وإتقانهم وتجويدهم لذلك العمل, فهو الذي أنتج هذه الطاقة, ألا وهي زكاة النفس وطهارتها، واقرءوا قوله تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
[الشمس:9-10], أي: قد أفلح وشق طريقه إلى الجنة من زكى نفسه، أي: طيبها وطهرها، وهو لم يطيبها بمواد الصابون والماء, فهي ليست مواد التزكية والتطهير للنفس, وإنما هي الإيمان وصالح الأعمال، ومواد تزكية الأجسام والثياب الماء والصابون، وأما الروح فتزكيتها ليس بالماء ولا بالصابون، ولكن بالإيمان وصالح الأعمال.
والنفس كما تزكو بالإيمان وصالح الأعمال فإنها تتدسى وتخبث, وتنتن وتتعفن، وتصبح كأرواح الشياطين, وذلك بالشرك والإجرام, والذنوب والآثام، فقد قال تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
[الشمس:9-10]. فهيا نعمل، فالفرصة متاحة، فنحن لا ندري هل نصبح أو لا نصبح، فيجب أن نزكي أنفسنا بالإيمان وصالح الأعمال، وبالابتعاد البعد الكامل عن الشرك والذنوب والآثام.
قال تعالى:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
[المرسلات:45]! فويل يوم القيامة للمكذبين بالبعث والجزاء! والمكذبين بلقاء الله والدار الآخرة! والمكذبين بكتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم!