اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المرسلات (4) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: ها نحن مع خاتمة سورة المرسلات المكية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:41-50].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات:41], بعد ما أعلمنا تعالى بما للكافرين والمشركين والمجرمين من أنواع العذاب وصنوف الشقاء في جهنم بين لنا تعالى ما يئول إليه المسلمون, ويعود أمرهم إليه في الجنة، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات:41]. والمتقون ليسوا البيض ولا السود, ولا العرب ولا العجم, ولا الأولين ولا الآخرين, وإنما هم المؤمنون في كل زمان ومكان إذا اتقوا ربهم, فأدوا ما أوجب عليهم، وتخلوا عما نهاهم عنه. هؤلاء هم المتقون.
وقوله: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64], فسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الحياة الدنيا بأنها ( الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له ). فيبشر بها قبل أن يموت. واليوم جاءني أحد الأبناء وقال لي: رأيت البارحة أني جئت للحلقة, وما وجدت أحداً فيها, ولم أجد شيخاً فيها، فبكيت. فقلت: أبشر! فهي عكس ما رأيت، فالحلقة مملوءة, وأنت من الفرحين المسرورين. والحمد لله.
وتحيتهم هي: سلام عليكم. فإذا أكلوا وشبعوا ما يقولون: ارفعوا هذه الصحاف، ولا ارفعوا هذه الكئوس، ولا غير ذلك، وإنما يقولون فقط: الحمد لله رب العالمين, ووالله ما يبقى إناء بين أيديهم. هؤلاء أهل الجنة.
وأهل الجنة ليسوا العرب ولا العجم, وإنما هم المؤمنون المتقون في أي زمان ومكان كانوا، بدليل هذا الخبر الصادق, فهو خبر الخالق الرازق, العليم الحكيم, فهو يقول: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ [المرسلات:41-42].
ودخول الجنة يحتاج إلى طاعة الله وطاعة رسوله. وبيان هذا يحتاج إلى دراسة أعوام؛ حتى نعرف كل ما يحب الله, فنعرف كل كلمة يحبها، ونعرف كل حركة يحبها الله ونتحركها. فنحقق طاعة الله وطاعة رسوله, وذلك بفعل ما أوجب, وترك ما حرم ونهى.
وطلب العلم فريضة، ووالله لن يكون جاهل ولياً لله أبداً، ومستحيل أن يوجد ولي من أولياء الله وهو جاهل، فهذا ما يمكن أبداً، بل لا بد وأن يعرف ما يحب الله ويفعله؛ طاعة لله، ويعرف ما حرم الله ويتركه؛ طاعة لله، وبذلك تتم الولاية، وقد قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] الله، ويخافونه ولا يعصونه، بل يفعلون ما أوجب فعله، ويتركون ما حرم فعله. وهذا لا بد له من العلم.
واليهود والنصارى والمجوس والكافرون إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل, وذهبوا إلى السينما والملاهي, والملاعب واللهو الباطل, والخمر والسكر, وما إلى ذلك. وأنتم أيها المؤمنون! عليكم أن تذهبوا إلى بيوت الله، وهم والله ما ذهبوا إليها ولا عرفوها، بل يعيش الرجل منهم في القرية أربعين سنة ولا يجلس مجلساً كهذا, ولا يسمع لله ولا عن رسوله. وهذا لن يكون عالماً, بل مستحيل هذا.
والمحسنون ضد المسيئين، فيقال: هذا محسن وهذا مسيء. والمحسن هو: الذي يحسن عبادة الله ويتقنها, ويجودها ويؤديها كما أمر الله. والمسيء هو: الذي يسيء فيها, ويقدم ويؤخر, ويزيد وينقص بالباطل، ولذلك فهي لا تزكي نفسه ولا تطهرها، بل الإحسان في العمل وإتقانه وتجويده وتحسينه هو الذي ينتج الزكاة والطهر للنفس البشرية.
قال تعالى: إن سبب دخول الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات:43]. وهو أن ذاك العمل كان مزكياً لنفوسهم, مطهراً لها. وسبب ذلك هو: إحسانهم له، وإتقانهم وتجويدهم لذلك العمل, فهو الذي أنتج هذه الطاقة, ألا وهي زكاة النفس وطهارتها، واقرءوا قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10], أي: قد أفلح وشق طريقه إلى الجنة من زكى نفسه، أي: طيبها وطهرها، وهو لم يطيبها بمواد الصابون والماء, فهي ليست مواد التزكية والتطهير للنفس, وإنما هي الإيمان وصالح الأعمال، ومواد تزكية الأجسام والثياب الماء والصابون، وأما الروح فتزكيتها ليس بالماء ولا بالصابون، ولكن بالإيمان وصالح الأعمال.
والنفس كما تزكو بالإيمان وصالح الأعمال فإنها تتدسى وتخبث, وتنتن وتتعفن، وتصبح كأرواح الشياطين, وذلك بالشرك والإجرام, والذنوب والآثام، فقد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فهيا نعمل، فالفرصة متاحة، فنحن لا ندري هل نصبح أو لا نصبح، فيجب أن نزكي أنفسنا بالإيمان وصالح الأعمال، وبالابتعاد البعد الكامل عن الشرك والذنوب والآثام.
قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:45]! فويل يوم القيامة للمكذبين بالبعث والجزاء! والمكذبين بلقاء الله والدار الآخرة! والمكذبين بكتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم!
ثم قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:47].
وهذه الآية مكية. ولما قبلت ثقيف في الطائف الإسلام اشترطوا ألا يصلوا وألا يركعوا، وألا يمدوا أعناقهم هكذا؛ حتى لا يذلوا ويهونوا، فرد الرسول عليهم بقوله: ( لا صلاة لمن لم يركع ولم يسجد فيها ). وهذه الآية: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48], تتناولهم.
وهنا لطيفة علمية فخذوها, وهي: كان الإمام مالك هنا في المسجد. ومالك هو صاحب المذهب المالكي، فقد كان دخل بعد العصر وجلس, وإذا بصبي يقول له: قم يا رجل! صل, فقبل أن تجلس اركع، فما كان منه إلا أن قام فصلى؛ وهذا لقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]. فقال: خفت من هذا، مع أنه كان يرى أنه لا صلاة بعد العصر. فهو لما جلس قال له الصبي: يا عم! أو يا شيخ! قم اركع، فقام فركع، فقيل: لم يا مالك ؟! فقال: خشيت من قول الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]. فامتثلت أمر الله عز وجل. فهذا الصبي أدب مالكاً .
ثم قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:49].
وقوله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ [المرسلات:50], أي: بعد هذا القرآن الكريم يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50]؟ أي: لن يؤمنوا بشيء أبداً. فلنؤمن بكتاب الله.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء ] أي: يوم القيامة [ بذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه المؤمنين المتقين المحسنين ] وما يجري فيه من حساب، وما يتم فيه من جزاء. فهذه الآيات الأولى قررت هذا المبدأ، وهو ركن الإيمان السادس.
[ ثانياً: بيان نعيم أهل التقوى والإحسان وفضلهما، أي: فضل التقوى والإحسان ] والإيمان والتقوى والعمل الصالح. فبين تعالى هذا.
[ ثالثاً: صدق القرآن في أخباره, إذ وعيد الله لأكابر مجرمي مكة نفذ بعد أقل من خمس سنوات ] وهلكوا كما قال تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا [المرسلات:46]. وما هي إلا أيام وأهلكهم الله.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ من دخل مسجداً وأهله يصلون فليدخل معهم في صلاتهم, وإن كان قد صلى؛ حتى لا يكون غيره راكعاً ] لله [ وهو غير راكع، وقد جاء في الصحيح هذا المعنى ] فافهموا هذه الحقيقة, وهي: أنه أيما مؤمن يدخل مسجداً والناس يصلون وقد صلى فينبغي أن يدخل معهم, ويركع معهم؛ خشية أن يكون ممن قال الله فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]. فإذا صليت الظهر ودخلت ووجدت قوماً يصلون العصر فادخل معهم، وإذا لم تكن قد صليت الظهر ووجدتهم يصلون العصر فصل معهم العصر، ثم صل الظهر والعصر، ولا تجلس بدون أن تصلي، بل لا بد أن تصلي، حتى صلاة الصبح، فإذا صليت الصبح في مسجد وأتيت إلى المسجد ووجدتهم يصلون فلا تجلس، بل صل معهم؛ حتى لا تكون ممن إذا قيل لهم: اركعوا لا يركعون.
وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة المرسلات (4) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net