إسلام ويب

سلسلة فلسطين الجهاد بالمالللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حث الله سبحانه على الإنفاق في سبيله، وجعل ذلك من أبواب الجهاد فيه، فإن للمنفق عند الله أجراً عظيماً؛ وما ذلك إلا لأن الإنسان جبل على حبه للمال، فهو بإنفاقه يثبت حبه لله ولرسوله، والإنفاق نتيجته المباشرة هي الجنة، وقد سطر الصحابة رضي الله عنهم أروع النماذج في الإنفاق في سبيل الله لنصرة دينه، ولنا فيهم أسوة حسنة.

    1.   

    المال بين فطرة الإنسان بالشح فيه ووجوب إنفاقه في وجوهه

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم والقسوة، والغفلة والعيلة، والذلة والمسكنة، ونعوذ بك يا ربنا! من الفقر والكفر والفسوق، والشقاق والنفاق، والسمعة والرياء، اللهم إنا نعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول.

    وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    والحمد لله رب العالمين.

    أما بعد:

    فمع المحاضرة العاشرة من المحاضرات المتعلقة بقضية فلسطين، وذكرنا في المحاضرات السابقة وسيلتين هامتين في نصرة القضية الفلسطينية، ذكرنا وسيلة تصحيح المفاهيم، وذكرنا وسيلة قتل الهزيمة النفسية والإحباط عند المسلمين، وكلامنا السابق وإن كان ظاهره كلاماً إلا أنه ينطوي عليه عمل كبير، فالمخطئ في فهم القضية لا يعمل لها، أو قد يعمل بطريقة تؤخّرها وتعطّلها، أو على أكثر تقدير فإنه قد يعالج جزئيات ويترك جزئيات أهم، ثم هو إن فهمها بطريقة صحيحة سليمة، لكن أصيب بداء الإحباط وهو داء قاتل ومرض عضال فإنه لن يتحرك، ويصبح كالفلاسفة في كل وادٍ يهيمون، يقولون ما لا يفعلون، يقبلون بالتنظير والتفكير، فإذا جاءوا إلى ميدان العمل ظهر فشلهم وبطلت نظرياتهم، والمسلم ليس كذلك، فهم القضية لا بد أن يتبع بتحريك لها، ستسألون عن علمكم والله، ستسألون عن علمكم.

    روى الترمذي والطبراني رحمهما الله: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه).

    ففهم قضية فلسطين لا بد كما ذكرنا أن يتبع بتحريك لها وبتفهيم لمن حولك، وبحركة دءوبة لا سكون فيها، وبتعب وكد لا راحة فيهما، وكذلك قتل الهزيمة النفسية، إن كنت قد تشبعت بالأمل، وتمكن اليقين بالنصر من قلبك، وسرت روح العزيمة في كل أوصالك؛ فانقل هذا إلى غيرك، وابعث الأمل في نفوس اليائسين، ومد يدك إليهم، وحرك عزائمهم، وكن لهم شعلة لا تنطفئ، وشجرة لا تذبل، ونهراً عذباً سلسبيلاً لا يتوقف عن السريان، بذاك يتحول الفهم والأمل إلى حركة وعمل.

    إن كلماتنا تظل صوراً باهتة وأجساداً هامدة لا حراك فيها، حتى إذا عملنا من أجلها ومتنا في سبيلها دبت فيها الحياة، فصارت كياناً هائلاً متحركاً يصلح ما أفسده الناس، ويبني ما هدمه الناس، ويعمّر ما دمّره الناس؛ بذاك يصبح الفهم والأمل سلاحين ماضيين نافذين يحملهما المؤمن في حياته وإلى أن يموت، بل إنه والله لا يموت، فإذا كان الجسد قد كتبت عليه الوفاة فإن الفكرة قد تعيش إلى يوم القيامة، يجني المؤمن من ثوابها وفضلها وخيرها وهو هناك راقد في قبره.

    روى الإمام مسلم رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، فإذا أدركت أن الفهم والأمل وسيلتان ناجحتان ناجعتان في حل قضية فلسطين، وحل قضايا المسلمين قاطبة، فهاك وسيلة ثالثة ناجعة ناجحة أيضاً ستصلح حالهم، وتصلح حالك قبلهم، وستسعد قلوبهم، وتسعد قلبك معهم، تعالوا ندخل الأرض المقدسة التي كتب الله لنا، نأخذ لقطات من هناك، وأترك لفطنتكم وحصافتكم تحديد اسم الوسيلة الثالثة.

    اللقطة الأولى: رجل يعول عشرة يعمل خارج مدينته، يخرج كل يوم إلى عمله فإذا بالمعابر مغلقة، والمدينة محاصرة، فيعود إلى أهله خالي الوفاض.

    اللقطة الثانية: شيخ يملك متجراً لا يستطيع أن يفتحه إلا قليلاً، فالحالة الأمنية حرجة جداً، أبناء يهود يعيثون في الأرض فساداً، وإن فتحه يوماً ما اشترى منه إلا القليل، فالمال قد قل في الأيدي، والفقر قد عم الأرض.

    اللقطة الثالثة: خمس عائلات بالأمس قصف منزلهم وبدد متاعهم وضاعت أملاكهم، وهم يبحثون عن مأوى، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.

    اللقطة الرابعة: عائلة مكونة من أب يتجاوز الستين، وتسعة أبناء أكبرهم في السادسة والعشرين، الأب لا يعمل، والابن يعول، خرج الابن في مسيرة غاضبة يحمل حجراً يواجه يهود، فإذا به يتلقى رصاصة في صدره فيلقى ربه، وتفقد العائلة عائلها.

    وهاك لقطة خامسة: رجال من أمتنا مجاهدون صابرون، باعوا أرواحهم لله واشتروا الجنة، يريدون سلاحاً أقوى من الحجر، لكن في هذه الظروف ارتفع ثمن السلاح وقلت مصادره، وقد لا يشتري إلا من يهودي بأضعاف أضعاف ثمنه، والرجال المجاهدون لا يستطيعونه، فيتركون السلاح ويحملون الحجر.

    إخواني في الله! أتظنون هذه اللقطات نادرة؟ أتظنون أننا بذلنا مجهوداً حتى نجدها؟ أبداً والله هذه لقطات متكررة في كل مدينة وقرية وشارع، بل في كل بيت، هذه فلسطين الأرض المقدسة، وهؤلاء إخواننا آباؤنا أمهاتنا أبناؤنا، هذه لقطات تحتاج إلى تفاعل تشترك كلها في علاج واحد، علاجها هو الوسيلة الثالثة التي تركتها لفطنتكم، وأعلم أن فطنتكم عظيمة، تلك الوسيلة هي: بذل المال، آه مالي أرى وجوهاً قد تغيرت وعيوناً قد تحيرت، وكأني أسمع من هنا دقات قلوبكم وحركات أنفاسكم، ماذا حصل يا إخوة؟! أخ يقول لي: كان الكلام في المفاهيم جيداً، لا حل إلا بالمال؟! سبحان الله! وإلا كيف نريد أن ننقل القضية من دور الكلام إلى دور العمل.

    أخي في الله! إذا كنت تشعر في قلبك بحب شديد للمال، وتعلق كبير به، ورغبة في الاحتفاظ به وتنميته؛ فاعلم أن هذا شيء طبيعي تماماً، بل إن العجيب ألا تشعر بذلك، هذا التعلق بالمال أمر لا يتعارض بالمرة مع الفطرة السليمة، وأنا أعذرك تماماً في هذا الحب؛ لأنه فطرة، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذرك، بل إن الله عز وجل يعذرك، لا تتعجل وتعال نسبح سوياً في آيات الله عز وجل:

    أرأيت قوله تعالى في وصفه لبني آدم: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، والله يا إخوة! بدون أن تعرف معنى كلمة (جمّا) فإنك ستفهم مقصودها هكذا بثقلها (جمّا).

    يقول ابن كثير في معناها: جمّاً أي: كثيراً فاحشاً. أي: أن الإنسان جبل على حب المال حباً كثيراً فاحشاً، هذا وصف الله الخبير بما خلق، العليم ببواطن النفس وما تخفي الصدور.

    بل انظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف بوضوح أسرار النفس البشرية، رسول عظيم، فقيه ماهر، طبيب حاذق صلى الله عليه وسلم، يضع إصبعه بسهولة على موطن الداء، ويصف بلسانه العذب كيف الدواء، كم تعبنا من علماء صوروا لنا الصالحين كملائكة ليست لهم نفوس البشر لا يخطئون ولا يعصون، لا يفترون عن عبادة، ولا يركنون إلى راحة أبداً، الإسلام دين يعترف بنقائص النفس البشرية، فلا يوجد بلا أخطاء إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يوجد بلا شهوات إلا الله سبحانه وتعالى.

    انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني رحمهما الله: عن زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة)، ماذا كان سيعمل حينها؟ ما هي الخطوة الإيجابية التالية لامتلاكك واديين من ذهب وفضة؟ وفي رواية: (واديان من ذهب)، لو أنك تملك هذا المال الذي لم يتح بعد لبشر ماذا كنت فاعلاً؟ انظر إلى وصفه صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى إليهما آخر -سبحان الله- ولا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)، انظر إلى روعة التشخيص في كلامه صلى الله عليه وسلم، غريزة التملك وغريزة الكنز وغريزة السيطرة أمور داخلية أصيلة متشعبة في النفس متغلغلة في الوجدان.

    بل انظر إلى الآية الربانية العجيبة -وكل آيات الله عجيبة- ما قرأتها إلا ووقفت مبهوراً أمامها عاجزاً عن تخيل كامل أبعادها، يخاطب رب العزة جل شأنه بني آدم، فيقول: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100]، سبحان الله! هل تتخيل خزائن الرحمة الإلهية؟ إنه لمن المستحيل أن تحيط بها، إن السماوات والأرض وما بينهما لأمر هين بسيط في هذه الخزائن الإلهية، لو أن ابن آدم يملك هذه الخزائن، وترك لهواه وفطرته وطبيعته دون تعديل أو توجيه ولا تهذيب، ماذا يفعل؟ لأمسك خشية الإنفاق، هي لا تنتهي ولن تنتهي، لكن من فطرته الإمساك: وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100].

    يقول ابن عباس وقتادة رضي الله عنهما: أي: بخيلاً منوعاً.

    إذاً: القضية عسيرة والإنفاق صعب، ولا يعجبني أبداً أن يتكلم الواعظ عن الإنفاق، وكأنه أمر يسير بسيط، من لم يفعله كان دليلاً على فساد فطرته أو ضياع دينه أبداً، الأمر فعلاً عسير شاق.

    سؤال لكم: أي الشيئين أغلى: نفسك أم مالك؟ نعم، أراكم جميعاً تجيبون: النفس أغلى، وهذا حقيقي، النفس إن ذهبت فلن تعود إلى يوم القيامة، لكن المال يذهب ويجيء. اتركوا هذه النقطة جانباً، وتعالوا أحدثكم عن بحث قمت به في آيات القرآن الكريم المعجز.

    جمع الله عز وجل بين النفس والمال في أمور الجهاد ثمان مرات، وجدت في هذا الجمع أمراً عجيباً، وجدت أن الله قدم المال على النفس سبع مرات، وكأنه أشق وأصعب مثل: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [التوبة:20]، ومثل: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [التوبة:44]، والآية الوحيدة التي قدم الله فيها النفس على المال كانت: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ... [التوبة:111] إلى آخر الآية، هنا قدم الله النفس؛ لأنه هو سبحانه وتعالى الذي يشتري ويعلم أيهما أغلى النفس أم المال، بمعنى: أن الإنسان من شدة تمسكه بالمال قد يتحرج من الجهاد به أكثر من تحرجه من الجهاد بنفسه، وهذا له تطبيق كبير واسع في الواقع، وجدناه في أنفسنا وفيمن حولنا، وجدنا من يقدم كنز ماله على نفسه وراحتها ومتعتها، قد يخاطر المرء بسمعته من أجل المال، وتلويث السمعة إيذاء للنفس، قد يخاطر المرء بحريته من أجل المال، وتقييد الحرية إيذاء للنفس، قد يخاطر المرء بإراقة ماء وجهه من أجل المال، وإراقة ماء الوجه إيذاء للنفس، قد يخاطر المرء بإخوانه وأحبابه بل وبأبنائه من أجل المال، يتركهم أعواماً وأعواماً يعمل بعيداً وحيداً حزيناً مسكيناً من أجل المال، وترك الأهل والأحباب إيذاء للنفس، بل قد يخاطر الرجل بحياته ونفسه من أجل المال، وهذا ليس مجرد إيذاء للنفس بل تضييع لها، نشاهده كثيراً.

    أرأيتم المرتزقة كيف يقاتلون في المعارك الضارية من أجل المال؟ أرأيتم السائق كيف يقود سيارته وهو يغالب النعاس، فلا يركن إلى راحة معرضاً حياته وحياة من معه للضياع من أجل المال؟ أرأيتم مريض القلب طبيباً كان أو مهندساً أو تاجراً كيف لا يكف عن إرهاق في عمله وهو يعلم أنه يعرض نفسه للموت من أجل المال؟

    الحكمة في كون حب المال فطرة في الإنسان

    حب المال متغلغل تماماً في النفس البشرية، مسيطر تماماً على جنباتها، لماذا يا إخوة؟! لماذا يخلق الله جلت قدرته وتعاظمت حكمته الإنسان على هذه الجبلة؟ لماذا يفطره على هذه الفطرة؟ ما الحكمة الربانية الجليلة وراء ذلك؟

    هذا ما أسميه بفلسفة الابتلاء، الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته ذرأ في النفس أموراً متأصلة فيها، وعظم جداً في حبها، وهنا لما علم سبحانه وتعالى أنك أصبحت تحبها حباً جمّاً ولا تطيق لها فراقاً، طلب منك أن تعطيها في سبيله وتنفقها من أجله؛ حتى تثبت أنك تقدم حب الله على حب شيء مؤصّل عميق في الفطرة، وهذا دليل الصدق في حب الله، فلو طلب الله من الخلق دفع شيء بسيط زهيد لنجح في الاختبار الصادقون والكاذبون، والأمر ليس تمثيلية هزلية، الاختبار حقيقي وجاد، بل هو عسير وشاق؛ ولكونه عسيراً وشاقاً فإن المكافأة سخية، والجائزة عظيمة، بل هي أعظم من أن يتخيلها البشر أو تخطر على أذهانهم، إنها الجنة التي لو أدركتم حقيقتها لذبتم اشتياقاً إليها، ولما طابت لكم حياة على الأرض، لو أدركتم حقيقتها ما خاطرتم بها ولو كان الثمن خزائن الأرض وكنوز الدنيا بأسرها.

    ترجمة هذا: أنك تجد في نفسك حباً فطرياً وميلاً غريزياً للمال، ثم يطلب الله منك أن تنفقه في سبيله، هنا لا بد أن تعقد مقارنة سريعة حتمية في داخلك: أيهما تحب أكثر المال أم الله؟ نعم يا إخوة! هذه هي الحقيقة بكاملها: المال أم الله؟ كل إنسان يقول بلسانه: أختار الله على ما سواه، لكن لا بد أن يصدق العمل قول اللسان، وإلا فما معنى الاختبار؟

    ترجمة هذا أيضاً: أنك تجد في نفسك حباً فطرياً للآباء والأبناء والأزواج والعشيرة، ثم يأتي موقف إما أن ترضي فيه الأحباب، وإما أن ترضي فيه الله، وعليك أن تعقد مقارنة سريعة: الأحباب أم الله؟ وتذكر أن الإجابة ستكون بالفعل لا بالقول، الأمر جد خطير والقضية مصيرية في حياة الإنسان: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ [التوبة:24]، انتبهنا إلى المقارنة، أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ [التوبة:24].

    فالجهاد جزء من حب الله ورسوله لكن ماذا يذكر في هذا المقام؛ حتى يلفت النظر إلى قضية الفعل لا القول؟ لا يكفي أن تقول: أحب الله أكثر، لا بد من الجهاد في سبيله وبذل هذه الأشياء الثمانية المذكورة في الآية، وماذا يحدث لو لم تفعل؟ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].

    1.   

    وسائل التحفيز على الإنفاق

    أنا في هذه المحاضرة أريد أن أحفزكم إلى معاكسة فطرتكم، ومخالفة ميلكم، ومقاومة غريزتكم، وهو أمر كما ترون من الصعوبة بمكان؛ ولكوني أعلم أني أضعف من أن أحفزكم بقولي فقد آثرت أن أحفزكم بقول العليم ببواطنكم الخبير بخفايا نفوسكم، القدير على تصريف قلوبكم.

    أذكر لكم طريقة الله عز وجل في التحفيز على الإنفاق، وهي طريقة عجيبة فريدة معجزة جديرة بأن تدرس بعمق وتفقه وعناية، طريقة تختلف كثيراً عن طريقته سبحانه وتعالى في التحفيز على أمور الخير الأخرى، طريقة تشعرك فعلاً أن قضية إنفاق المال قضية محورية في مسألة الابتلاء والاختبار، بل هي قضية محورية في إثبات صدق إيمان العبد؛ ولكونه يعلم سبحانه أن إخراج المال شاق وعسير، نوَّع سبحانه وتعالى في طريقته، وعلم رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وسائل فريدة لهذا الأمر.

    القناعة بأن الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال

    تعالوا نشرب حتى نرتوي من آيات الله عز وجل ومن حديث حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.

    أولاً: جعل سبحانه وتعالى الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال، فعلى سبيل المثال يقول سبحانه وتعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133-134]، أول صفة تذكر للمتقين: (الذين ينفقون في السراء والضراء)، يقول ابن كثير رحمه الله: أي: في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال.

    ويبدو فعلاً يا إخوة! أننا نعاني من قصور شديد في فهم كنه الجنة، فالجنة كلمة كان لها فعل عجيب في نفوس الصحابة، فكانوا يستعذبون العذاب في سبيلها، ويستمتعون بالموت من أجلها، الجنة كثيراً ما تتردد على أسماعنا فلا تحدث في قلوبنا ما كانت تحدثه في قلوبهم، ولا بد أن نقف مع أنفسنا لحظات فنسألها: لماذا لا تحدث كلمة الجنة في قلوبنا ما كانت تحدث في قلوب السابقين؟

    هذه الآية نفسها سمعها -كما سمعناها الآن- عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه في غزوة بدر، فماذا فعلت فيه؟ روى الإمام مسلم رحمه الله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟! -الكلمة أصابت قلبه يا إخوة لا أذنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها)، صلى الله عليه وسلم.

    فهذه بشرى من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، (فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن -ليتقوى على المعركة- ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة)، حياة طويلة جداً، وما هي إلا دقائق تفصله عن الجنة.

    قال أنس بن مالك : (فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل)، موعده الجنة يا إخوة! فكيف يصبر على الحياة؟!

    بل تعالوا إلى ما هو في رأيي أشد موقفاً.

    بيعة العقبة الثانية موقف هائل. روى الإمام أحمد رحمه الله: عن جابر رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! علام نبايعك؟)، فتعالوا لنرى بنود بيعة العقبة الثانية ونرى كم هي صعبة وعسيرة وشاقة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)، شروط قاسية وخطيرة، وعهد غليظ ومؤكد، وهنا قبل أن يبايعوا كما في رواية ابن إسحاق : يقول العباس بن عبادة بن نضلة رضي الله عنه وأرضاه لقومه ينبههم إلى خطورة البيعة: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.

    انتبه إلى نهكة الأموال وقتل الأشراف، انظروا إلى المال والنفس وكونهما ركيزتين أساسيتين لابتلاء المؤمن.

    قالوا: فما لنا بذلك يا سول الله! إن نحن وفينا بذلك؟! يا ترى ما هو الثمن لكل هذه التضحيات النادرة والأحمال الثقيلة، والتبعات العظيمة؟ واسمعوا وانتبهوا يا إخوة! لما قاله صلى الله عليه وسلم، قال كلمة واحدة، قال: (الجنة)، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.

    يا إخوة! اقرءوا تاريخ الإسلام هل في الدنيا مثل هذا الموقف، باعوا كل شيء باعوا كل شيء يملكونه من نفس ومال وراحة وأمن وأهل وديار، واشتروا شيئاً واحداً ألا وهو الجنة، نزلت الكلمة برداً وسلاماً على الأنصار، فاطمأنت القلوب وخشعت الأبصار وسكنت الجوارح، الجنة وما أدراك ما الجنة!

    روى الإمام مسلم رحمه الله: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب! فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت رب! فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله)، هل هذا فقط؟ أبداً، (فيقول الله عز وجل: ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب! قال موسى عليه السلام: ربي فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلن ترى عين ولن تسمع أذن ولن يخطر على قلب بشر، قال صلى الله عليه وسلم: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]).

    طبعاً احذر أن تؤمل على هذا المقعد الأخير في الجنة؛ لأنه إذا ضاع منك فإنها ستكون مشكلة خطيرة، ولكن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس)، اللهم إنا نسألك الفردوس!

    والحديث عن الجنة يطول ويطول، ولا بد أن نراجع معلوماتنا ومعايشتنا وأحوالنا مع الجنة، وأنا على يقين من أنه لو تعاظمت الجنة في صدورنا لهان علينا كثيراً ما نحن بصدد المجاهدة لتحقيقه، كانت هذه وسيلة ربانية للتحفيز على الإنفاق الجنة.

    الجمع بين الإنفاق في سبيل الله وبين الصلاة

    غير ذلك: الوسيلة الثانية من التحفيز: الجمع بين الإنفاق في سبيل الله وبين الصلاة، كثيراً ما جمع الله بينهما في قرآنه سبحانه وتعالى، ومن المعروف أن الصلاة عماد الدين، فيأخذ الإنفاق في سبيل الله من القلب حيزاً يقترب من حيز الصلاة، مثل قوله: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]، صفات أساسية مجبول عليها الإنسان: الهلع، والجزع، والمنع أي: البخل، ثم ما هو الاستثناء؟ إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22-23]، إذاً الصلاة أول شيء ثم قال: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].

    وانظر إلى فقه أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ذاك الرجل الذي لا تنقضي عجائبه، لما حدثت الردة وكان من المرتدين من ارتد فقط بمنع الزكاة، وكان بعض الصحابة يرى أنهم ما داموا قد شهدوا أنه لا إلا الله وأن محمداً رسول الله فلا يقاتلون، ولفقه الصديق رضي الله عنه -وهو يعلم أن الجميع متفقون على أن منكر الصلاة كافر- لاحظ أن الله قد جمع بين الزكاة أو الإنفاق وبين الصلاة في مواضع كثيرة جداً في القرآن الكريم، فقال قولته الحكيمة: لا أفرّق بين شيئين جمعهما الله. ومن هنا نعلم أنه إذا كان حكم إنكار الصلاة كفر والله قد جمع بين الصلاة والزكاة كثيراً. إذاً: إنكار الزكاة كفر.

    المهم عندنا أن نفهم أن هذا الجمع بين الصلاة والإنفاق لم يتكرر بين الصلاة وشيء آخر؛ مما يحفز المؤمن على الاهتمام والتدريب على عملية الإنفاق.

    التحذير من التسويف والتأجيل

    الوسيلة الثالثة من وسائل التحفيز: التحذير من التسويف والتأجيل. وهذه آفة خطيرة، فالشيطان لا يأتي الصالحين ويقول لهم: لا تدفعوا أموالكم لفلسطين، ولكن يأتي ويقول: فلتدفع غداً أو بعد غد، أو فلتدفع بعد أن تشتري كذا وكذا، أو فلتدفع بعد أن يأتي لك مبلغ كذا وكذا. إذاً: الشيطان يستعمل وسيلة التسويف ولا شك أنها فعّالة، استمع إلى قوله تعالى يحفزك على الإنفاق: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10]، سبحان الله! المال مال الله ثم نحن نسوف، قال: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].

    إذاً: لو خطر على ذهنك الآن أن تدفع شيئاً لأهلك في فلسطين فأخرجه الساعة ولو قبل أن تنتهي المحاضرة، حدد الآن بينك وبين نفسك أو بينك وبين الله رقماً ستدفعه اليوم، إن لم تكن تحتفظ به في جيبك الآن لا تسوف، وإن جاءك الموت قبل أن تصل إلى بيتك ومالك فستؤجر بنيتك. تصدق فقد تكون هذه الصدقة هي المرجّحة لكفة الحسنات، فتسعد سعادة لا شقاء بعدها.

    مضاعفة الحسنات للمتصدقين

    الوسيلة الرابعة من وسائل التحفيز: مضاعفة الحسنات بشكل فريد، فإننا في كل أمور الخير قد اعتدنا أن تضاعف الحسنات إلى عشر أمثالها كما في قوله سبحانه وتعالى مثلاً: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، أما في الإنفاق فالأمر مختلف؛ ذلك لأن الإنسان جبل كما ذكرنا على حب المال، ويحتاج إلى دوافع كبيرة ومحفزات عظيمة؛ ولذلك يزيد الله في أجر الإنفاق أكثر من أمور الخير الأخرى، فقد ضاعف الله أجر الصدقة إلى سبعمائة، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، فهذا والله يا إخوة! مشروع اقتصادي هائل، فلو أنفقت ألف جنيه لأهل فلسطين كان المردود عليك ما يوازي سبعمائة ألف جنيه، فقد توافق على أن تضع ألف جنيه في مشروع دنيوي يعود عليك بألفين مثلاً، ولا تضعها في مشروع رباني يعود عليك بسبعمائة ألف؟ مع أن المشروع الأول الدنيوي غير مضمون، والمشروع الثاني الرباني مضمون لا شك فيه، إذاً: فكر واحمد الله أنك ما زلت حياً وما زالت أمامك الفرصة للاستثمار.

    روى الإمام أحمد والترمذي وصححه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه أو فصيله، حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد)، سبحان الله!

    الإخلاف على المنفق في ماله وزيادته

    الوسيلة الخامسة من وسائل التحفيز: قد يقول شخص: الحسنات الأخروية شيء عظيم، لكن إذا أنفقت على أهل فلسطين فسأحتاج أنا إلى من ينفق علي، فهذه وجهة نظر منه، إذ يعتقد أن ماله سينتهي بإنفاقه في سبيل الله، لكن الله يطمئنه بالتعويض في الدنيا قبل الآخرة: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39]، نعم. هو يخلفه في الدنيا قبل الآخرة.

    بل اسمع إلى الحديث العجيب الذي يدل على التحفيز الرباني بالتعويض. روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال تعالى: أَنفق يا ابن آدم أُنفق عليك)، سبحان الله! إذا أنفقت على أهل فلسطين أنفق الله علي! والله رضيت بك يا ربي! منفقاً علي.

    الصدقة لا تنقص من مال العبد

    الوسيلة السادسة من وسائل التحفيز: بعض الناس ما زال متشككاً ويقول: في جيبي الآن عشرة جنيه مثلاً، وسأعطي فلسطين خمسة، فكيف تصبح العشرة كما هي عشرة؟!

    سبحان الله! ألم يعدك ربك بأنه يخلفه في الدنيا؟ فإن كان ما زال في القلب شيء، تأتي الوسيلة السادسة العجيبة: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين الذي لم يكذب في حياته قط، والذي لم يجرؤ أعداؤه فضلاً عن أحبابه أن يتهموه بالكذب يقسم لك أن الصدقة لن تنقص من مالك، بمعنى: أنه لا بد وحتماً أن يتم التعويض في الدنيا قبل الآخرة، والتعويض إما بمال قادم أو برفع أمر كنت ستنفق فيه حتماً، والمسلمون لا يحتاجون لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقسم صلى الله عليه وسلم على أشياء يكون في قلوب بعض المسلمين منها شك؛ وذلك تأكيداً وتحفيزاً لمن تزعزع قلبه واهتز يقينه.

    روى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً الإمام أحمد : عن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقه)، الثانية: (ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)، فهي جميعاً أمور تحتاج إلى كثير يقين وعظيم عقيدة.

    إخواني في الله! هل ما زال في قلوب بعضكم شك؟ هل ما زلت متشبثاً بالمال؟ إن كان كذلك فهاك وسيلة سابعة من وسائل التحفيز الرباني:

    نجد أن الله عز وجل في موضوع الحث على الإنفاق يستعمل ألفاظاً عجيبة لا يتخيلها الناس ولا يتوقعونها، وانظر إليه يا عبد الله! كيف ينادي عليك وعلى عباد الله الآخرين متلطفاً متحبباً: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].

    سبحانك يا رب! كم أنت كريم! المال مالك، والعبيد عبيدك، ثم أنت سبحانك تستقرضنا من مالك! ماذا تعطينا إذا أقرضناك أموالنا؟ ضاعفت لنا أضعافاً كثيرة. سبحان الله! إن إلهاً بهذه الصفات لجدير أن يعبد وأن يحب وأن يعظم وأن يبجل، والآية فعلاً عجيبة وسياقها مبهر، وكما تعجبنا لها فقد تعجب لها الصحابة، لكن انظر إلى التعجب الإيجابي من الصحابة.

    روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إنه لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله! وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح ! قال: أرني يدك يا رسول الله!)، فانظروا الإيجابية والحسم، لم يتردد ولم يتأخر ولم يسوّف، قال عبد الله بن مسعود : (فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي -أي: حديقتي وأرضي-)، قال عبد الله بن مسعود : وهو حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح وناداها: يا أم الدحداح ! قالت: لبيك، قال: اخرجي فإني قد أقرضته ربي عز وجل، فهذا عطاء في كرم وقرار في حسم، لقد كان أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه معطاءً بشكل عجيب.

    روى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة أبي الدحداح رضي الله عنه قال: كم من عذق معلق في الجنة لـأبي الدحداح)، أي: كم من نخيل لـأبي الدحداح رضي الله عنه في الجنة.

    يذكر الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم سبب ذلك فيقول: إن يتيماً خاصم أبا لبابة رضي الله عنه في نخلة فبكى الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي لبابة : (أعطه إياها ولك بها عذق في الجنة)، فقال: لا، فسمع أبو الدحداح فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له، ثم قال: يا رسول الله ألي بها عذق إن أعطيتها اليتيم؟ قال: (نعم)، ثم قال: (كم من عذق معلق في الجنة لـأبي الدحداح)، وهاقد مضت الأيام وذهب أبو الدحداح والغلام والحائط وذهبت النخلة، ولكن ماذا بقي؟ بقي عذق أبي الدحداح في الجنة، مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].

    وانظروا إلى الفارق الكبير بين رد فعل أبي الدحداح عند نزول الآية الكريمة: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، وبين رد فعل اليهود؛ وهذا إنما لتفرقوا طبيعة اليهود الذين نحن نتعامل معهم.

    لما نزلت الآية نفسها قال اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض، انظروا إلى سوء الأدب وفظاظة اللفظ ووقاحة الفعل، فأنزل الله عز وجل: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181].

    الإنفاق اختبار لصاحبه في اختياره ربه أو الشيطان

    أخي! هل ما زال في القلب شك؟ إن كان هناك شك فهاك وسيلة ثامنة لطيفة، لكن مخوفة، فالله عز وجل يجعل الإنفاق اختباراً تختار فيه الله أو الشيطان، يقول الله عز وجل: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]، فانظر أيهما تصدق؟

    سألتك مالاً لفلسطين فجاء الشيطان فقال: لا تنفق كثيراً لئلا تفتقر، ما زلت تحتاج إلى كذا وكذا وكذا، ما زال هناك طعام وشراب، ما زال هناك بيت وسيارة، ما زال هناك سفر ومشاريع، ما زالت هناك زوجة وأولاد، ويعظم المسألة في ذهنك تماماً، حتى تثاقل إلى الأرض، وترضى بالحياة الدنيا من الآخرة.

    ثم من الناحية الأخرى فإن الله يعدك أن يخلفك خيراً مما أنفقت في الدنيا والآخرة، ويبارك لك في مالك وأهلك، ويضاعف لك أضعافاً كثيرة، وفوق ذلك رحمة وتوبة ومغفرة، وفوق ذلك جنة ونعيم، فعليك أن تعرض المقارنة على ذهنك بسرعة كسرعة أبي الدحداح ، فستمر الأيام وتذهب أنت ويذهب المال، ويذهب أهل فلسطين، ولا يبقى شيء إلا ما عند الله، فآثروا ما يبقى ويدوم على ما يفنى وينعدم.

    كانت هذه بعض أساليب القرآن المعجزة في التحفيز على مسألة شاقة على النفس، وهي مسألة إخراج المال في سبيل الله، وأنا في اعتقادي أن إنفاق المال بعد هذا التحفيز هي مرحلة من مراحل الإيمان، ودرجة من درجات الرقي إلى الله عز وجل، فالدرجة قد تعلوها درجات، فالرجل إذا حفز أنفق، وإذا استنفر نفر، وإذا دعي أجاب، فتكون الزيادة بعد هذا أنه يرتقي من مرحلة من يحفز على الإنفاق إلى مرحلة من يرغب في الإنفاق ويبحث عنه، ويتمنى أن لو يجد له سبيلاً يجود فيه بما في يده طمعاً لما في يد الله عز وجل.

    1.   

    نماذج من إنفاق الصحابة في غزواتهم مع رسول الله وصدقهم في ذلك

    حتى نفهم الصورة تعالوا نغوص في أعماق التاريخ، نذهب إلى المعسكر الدائم للإيمان، نذهب إلى المدينة المنورة، نذهب إلى ساحة واسعة يجلس فيها خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه ويساره وأمامه مجموعات ومجموعات من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، يحفزهم صلى الله عليه وسلم على الإنفاق تجهيزاً لجيش عظيم في وقت عصيب، اشتد فيه الحر، وعظم فيه الخطب طال فيه السفر، وقلت فيه المادة، وحان وقت القطاف، لكن لا بد من المغادرة، هذا التجهيز تجهيز جيش العسرة، ترى ماذا فعلوا حتى ينزل الله في حقهم: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117]؟ لكن قبل أن نرى فعلهم، ونستمتع بصحبتهم تعالوا نعقد مقارنة عجيبة وقياساً غريباً، وأعطوني أذهانكم.

    مقارنة بين تبوك وفلسطين: تخيل معي بهدوء لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرنا وحدث أمران في وقت متزامن: أمر فلسطين على ما هي عليه الآن من وضع، وأمر تبوك على ما كانت عليه من وضع، وطاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكفي إلا لإخراج جيش واحد، ترى ماذا سيكون موقفه؟ أتراه يختار تبوك؟ أم تراه يختار فلسطين؟ أتراه يحفز على تبوك أم تراه يحفز على فلسطين؟ إن تبوك كانت لمقتل رسولين من المسلمين في أرض الشام في طريقهم إلى قيصر، وفلسطين قتل فيها في سنة واحدة 800 شخص.

    تبوك كان الجيش الروماني يتجهز لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل الجزيرة العربية بعد، بل كان جيش الروم في أرض الشام ولم تكن أرضاً إسلامية آنذاك.

    فلسطين يعيث فيها الجيش اليهودي القذر فساداً، والجيش اليهودي في أرض إسلامية لا يحتل فقط، بل يستبدل أهل فلسطين بأهله!

    تبوك لم يخرج فيها مسلم من داره، فلسطين أخرج نصف أهل البلد من ديارهم، وربنا يأمر وعلينا الطاعة فيقول: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [البقرة:191].

    تبوك كانت تهديداً ولم يحدث بعد قتال، وفلسطين تعاني من حرب ضارية قائمة بالفعل، وربنا يأمر وعلينا الطاعة، فيقول: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة:190].

    تبوك لم تكن بها مقدسات إسلامية، بل كان بها ديار الظالمين ديار ثمود، أما فلسطين ففيها الأقصى ثالث الحرمين وأولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فشتان في اعتقادي بين الموقفين، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرنا لاختار فلسطين على تبوك إن كان لا بد من الاختيار، فقضية فلسطين أشد خطورة، وكلتا القضيتين خطير.

    رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه كان مشغولاً بإنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى الرومان؛ لكون الرومان بدءوا في قتل من أسلم من أهل الشام، وهذه قضية خطيرة وتجاوزات كبيرة، وفي نفس الوقت قتل مسيلمة الكذاب مدعي النبوة رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب بن زيد رضي الله عنه، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كان عليه أن يختار هل يرسل جيشاً إلى الرومان الذين بدءوا يعيثون في الأرض فساداً، ويقتلون المسلمين، ويغيرون على قبائلهم وأرضهم، أم يرسل جيشاً للثأر لقتل رجل؟ فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل جيشاً للرومان، هكذا فقه الموازنات وفقه الأولويات.

    وانظروا ماذا فعل الصحابة الكرام في تبوك، وتخيلوا كيف كانوا سيفعلون لفلسطين.

    فتح الرسول صلى الله عليه وسلم باب التبرع علانية حتى يحفز المسلمون بعضهم بعضاً، وكان أول القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ قام فقال: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك سروراً عظيماً، فهذا عطاء كثير، ثم فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن عفان ثانية يزيد الأجر لنفسه قال: علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، وسعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم سعادة عظيمة حتى إنه قال: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)، ولم يسكن عثمان ولم يطمئن، بل أخذ يدفع من جديد حتى وصل ما تبرع به إلى ثلاثمائة بعير، وفي رواية: تسعمائة بعير ومائة فرس، ثم ذهب إلى بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها متعجباً.

    أبو بكر الصديق رضي الله عنه الرجل العجيب أتى بأربعة آلاف درهم، قد يقول قائل: إنها أقل بكثير مما جاء به عثمان . لكنها سبحان الله! تعتبر أكثر نسبياً من عطاء عثمان ؛ لأنها كل مال أبي بكر الصديق ، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: (وماذا أبقيت لأهلك؟ قال له في يقين: أبقيت لهم الله ورسوله).

    أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد أتى بنصف ماله، وهذا كثير بل كثير جداً.

    أما عبد الرحمن بن عوف فقد أتى بمائتي أوقية من الفضة، وهذا أيضاً كثير، يشترون الجنة يا إخوة! ما أزهد الثمن وما أعظم السلعة: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، وأتت النساء بالحلي، فالكل يشارك قضية إسلامية تشغل كل فئات الأمة، حتى الفقراء الذين لا يملكون إلا قوت يومهم جاءوا بالوسق والوسقين من التمر يجهزون به الجيش الكبير، نعم. قليل، لكن هذا كل ما يملكونه، فيطعمون جندياً أياماً قد لا يعني هذا في نظر بعض الناس شيئاً، لكنها تعني بالنسبة لهم الكثير، وتعني أيضاً عند الله الكثير والكثير.

    وكان المنافقون يسخرون من هذه العطايا البسيطة، فأنزل الله دفاعاً عظيماً في كتابه عن هؤلاء الفقراء المتصدقين، يقول تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]، الله بنفسه هو الذين يرد على سخرية المنافقين.

    جاء البكاءون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون أنفسهم عليه ليجاهدوا معه، فقراء لا يملكون شيئاً وليس عندهم بعير يحملهم، وليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم فأعفاهم صلى الله عليه وسلم عن القتال لعذرهم، لكن ما استطاعوا أن يتحملوا ذلك، بل أخذوا يبكون على فوات فرصة الجهاد بالنفس والمال مع كونهم معذورين عذراً شرعياً مباشراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تاقت النفوس إلى البذل، وتاقت إلى الجهاد، وتاقت إلى الجنة، فأنزل الله فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92]، طراز فريد عجيب من البشر.

    من هؤلاء البكائين علبة بن زيد رضي الله عنه، تولى وهو يبكي، ثم ذهب إلى بيته، ولما جاء الليل قام يصلي ويبكي ويقول: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض.

    أرأيتم يا إخوة بماذا يتصدق! يتصدق من حسناته، هذه الأنواع من الأذى التي لحقت به من إخوانه ستتحول إلى حسنات يوم القيامة، هو لا يملك شيئاً من مال أو بعير، فيتصدق بالشيء الوحيد الذي يملكه، يتصدق بحقه على إخوانه، ثم أصبح علبة بن زيد ، وذهب لصلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين المتصدق هذه الليلة؟)، ثم قال: (أين المتصدق فليقم؟)، فقام إليه علبة فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة)، الله! صدق مع الله يقابل بكرم من الله، حمية حقيقة للدين حتى وإن كان فقيراً معدماً، وسخاء وعطاء ورحمة من إله رحيم منان سبحانه وتعالى.

    1.   

    همسات في أذن كل من يتبرع لفلسطين

    والآن همسات في أذنك أيها المتبرع لفلسطين! المشتاق إلى الجهاد والجنة! أخي المنفق في سبيل الله! اجعل التبرع لفلسطين قضية ثابتة في حياتك وعملاً رئيساً تعيشه كل يوم، اقتطع نسبة ثابتة من دخلك الشهري أو اليومي أو الموسمي، لا تنتظر حتى تتراكم الأموال فيصعب عليك الأمر، أولاً بأول تهدم نفسك والشيطان.

    أخي المنفق في سبيل الله! لا تكتفي بتبرعك وحدك. حفز الآخرين على التبرع، فإنه من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، اكفل أسرة فلسطينية كل شهر، وإن لم تكن لك طاقة بمفردك اجمع من الآخرين، وحفزهم والأجر بينكم.

    أخي المنفق في سبيل الله! رب أولادك على الاهتمام بفلسطين وبقضايا العالم الإسلامي أجمع، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، إذا جاءك ولدك الصغير بدرهم لفلسطين فلا ترده، ودرب نفوسهم على العطاء واشرح لهم بأسلوب مبسط حال أطفال فلسطين.

    أخي المنفق في سبيل الله! اجعل يوماً في الأسبوع لفلسطين، كل فيه طعاماً بسيطاً، وألفت أنظار الزوجة والأولاد إلى أن طعام هذا اليوم سيذهب إلى فلسطين، وليست الفكرة يا إخوة! في ثمن الأكلة الواحدة، ولكنها تربية على أن يشعر المؤمن بهموم إخوانه.

    أخي المنفق في سبيل الله! إذا مرضت أو مرض أحد أحبابك فتصدق لفلسطين، فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة).

    أخي المنفق في سبيل الله! زكاتك جائزة على أهل فلسطين، بل هي محمودة، ففيهم الفقير والمسكين، وفيهم الغارم، وفيهم المجاهد في سبيل الله، اجمع زكاتك وزكاة من تعرف، وساهم في فلسطين.

    أخي المنفق في سبيل الله! لا تمن بعطيتك ولا تتكبر بها، ولا تعتقد أن هذا فضل منك عليهم، بل اعلم أن عطاءك فضل من الله عليك، وكرم من الله إليك، ورحمة من الله بك.

    سألت رجلاً من الأثرياء أن يتذكر أهل فلسطين بشيء من ماله، فشمخ بأنفه ورفع هامته وأخرج محفظته، وعبث فيها قليلاً بأصابعه، ثم أخرج في النهاية من ثناياها مبلغاً زهيداً، ثم قال بشك وريبة: أتمنى أن تصل لفلسطين.

    يا أخي! اعلم أن الله إن لم يرزقهم عن طريقك فسيرزقهم عن طريق غيرك، وتضيع عليك أنت الفرصة، واعلم أنك إن أخرجت المال في سبيل الله فهو لك أجر وصدقة، وإن لم تخرجه ولم يكن من نصيبك سوف يخرج في شيء آخر؛ ويضيع عليك الأجر والصدقة.

    يا ابن آدم! لا تظن أن رزقك سيزيد باكتنازك، رزقك مكتوب بتمامه وأنت في بطن أمك.

    أخي المنفق في سبيل الله! لا ترائي فإن الأعمال بالنيات، أخلص النية لله وجددها دائماً، فلا تجعل مع الله شريكاً فيها، يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].

    أخي المنفق في سبيل الله! لا تسوف، فإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، بادر فور دخول الفكرة إلى قلبك، فالأنفاس معدودة والساعة آتية لا ريب فيها، واحذر من سنة الاستبدال، فإن لله أعمالاً لا بد أن تقضى بك أو بغيرك.

    هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

    وختاماً:

    أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله! يا من يباهي بك الله ملائكته لعملك وقلبك لا لصورتك وجسمك! يا من رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاً! يا من تثق في وعد الله! ووعد الله لا يتبدل ولا يتغير، ألا تشتاق إلى جهاد وشهادة؟ إن كنت لا تستطيعه ألا تريد أن تجهز غازياً أو تخلفه في أهله؟ ألا تشتاق إلى أن تكفل يتيماً، فترسم على وجهه بسمة، وتحشر إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتصقاً به التصاق السبابة بالوسطى؟ ألا تشتاق إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء؟

    أخي وحبيبي! إن كنت غنياً فهذا شكر النعمة، وإن كنت فقيراً فرب درهم سبق ألف درهم، واعلم يا أخي! أن الله قسم الأعمال بين عباده، وكان نصيبك النصيب الأيسر، عليهم في فلسطين أن يدفعوا أرواحهم، وعليك أنت في بيتك الآمن أن تدفع مالك. فارض بما قسم الله لك من العمل يرفع عنك من البلاء ما لا تطيق.

    أخي وحبيبي! كم هو قصير هذا العمر، فأخشى عليك من ليلة ليس لها صباح، يجيء فيها الموت بغتة كعادته فتقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، أخشى عليك من لحظة تقول فيها: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، ها أنت وكأنك رجعت فاعمل ليوم لا رجعة فيه.

    أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله! أتركك الآن وموعدنا الجنة إن شاء الله.

    فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    وجزاكم الله خيراً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767202703