أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
نستكمل بفضل الله ما كنا قد بدأناه من حديث حول أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وفي عدد من المحاضرات السابقة ذكرنا الطريق الذي يجب أن يسير فيه من يريد أن يصبح عالماً بعد ذلك، فكل من أراد أن يكون عالماً له طريق محدد، وهناك قواعد ثابتة لابد أن يسير عليها ليصبح في النهاية من العلماء. وذكرنا شيئين في غاية الأهمية، وقلنا: إن هذين الشيئين مهمان جداً لكي تكون عالماً، سواء كنت مسلماً أو غير مسلم، سواء كان هذا المسلم تقياً أم فاجراً، إذا أراد أن يكون عالماً فلابد أن يقوم بشيئين:
أولاً: يعلم قيمة العلم، يعلم قيمة الشيء الذي يكافح من أجل تحصيله، لو كان العلم في عين الإنسان حقيراً لم يبذل فيه مجهوداً، وبالتالي لن يصل إلى علم ذي قيمة.
وذكرنا أن العلماء غير المسلمين كانوا يؤمنون بقيمة العلم، وكانوا يبذلون الوقت والجهد لكي يحصلوا على نتيجة هذا الشيء الثمين الذي قدروه، وذكرنا الأمثلة من حياة أديسون وحياة كلاشنكوف وغيرهما من العلماء الذين أضافوا الاختراعات إلى الإنسانية.
ثانياً: أن من أراد أن يكون عالماً لابد أن يعرف أنه لا يستطاع العلم براحة الجسم، لابد أن تعرف أن الطريق إلى العلم طريق صعب، وأن المجهود المطلوب مجهود كبير جداً، وأوقات طويلة، وأعمار تنفق كلها في سبيل تحصيل هذه الغاية وهي أن تكون عالماً.
هذان الشيئان لابد أن يكونا معك من البداية، لكن من المؤكد أن هناك فرقاً ما بين العالم المسلم والعالم غير المسلم، فهناك صفات معينة لابد أن يتصف بها ويتحلى بها طالب العلم المسلم من البداية، حتى إذا أصبح عالماً أصبح متصفاً ومتشرباً ومتشبعاً تماماً بهذه الصفات، لابد أن تكون هناك صفات تفرق هذا العالم المسلم عن غيره من غير المسلمين، هناك ضوابط وأطر شرعية تحكم حياة العالم المسلم، هناك أخلاق يتحلى بها العالم المسلم حتى يقال عنه: هذا عالم رباني، هذا عالم تقي، هذا عالم يعرف الله عز وجل، يعرف حقه ويعرف حق العباد، عالم يؤدي وظيفته التي أراد الله عز وجل له أن تكون في الأرض.
هذه أخلاقيات هامة جداً، وبدون هذه الأخلاقيات -للأسف الشديد- كل ما حصلناه من علم وإن أصبحنا علماء يصبح يوم القيامة هباء منثوراً، يصبح العلم وبالاً على الإنسان وحجة عليه.
هناك صفات كثيرة جداً، نحاول اليوم إن شاء الله أن نمر على بعض هذه الصفات، والمجال يحتاج إلى تفصيل، فلو قمنا بمجموعة كاملة من المحاضرات في أخلاقيات العلماء فلن يكفي؛ لأننا نتكلم عن كل أخلاقيات الإسلام الأساسية، فالعالم قدوة لابد أن يتصف بكل ما جاء في الإسلام من أخلاق حميدة، لكن هناك بعض الصفات لابد أن يتصف بها بوضوح، بحيث تصبح غالبة على تكوينه وعلى حياته.
والسير في طريق العلم بدون هذه الأخلاق أو في أي طريق يصبح خطراً شديداً على الإنسان.
أول هذه الأخلاق والصفات: الإخلاص، لماذا تتعلم هذا العلم؟ وأي شيء تريد من وراء تحصيل هذا العلم؟ ولماذا تريد أن تصبح عالماً؟ ما هي النيات التي في قلبك؟
إننا في حساباتنا في الدنيا نحاسب فقط على الظاهر، فأنت بالعلم الذي حصلت عليه قد تحصل على وظيفة، تحصل على مال، تحقق منافع دنيوية، يتساوى في ذلك المسلم وغير المسلم: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، لكن الشيء الخطير أن يكون الإنسان المسلم بعدما حضر هذه الدروس وتحمس جداً لقضية العلم وأصبح عالماً من العلماء ويشار إليه، وقال عنه الناس: هذا عالم، هذا هدف الطالب في البداية أو في النهاية، فهدفه إجمالاً أن يشار إليه بالبنان، ويشار إليه بالعلم، ويعرف في وسط الناس بصفة العلم، هذا شيء خطير؛ ولذلك لا تجد كتاباً من كتب السنة أو من كتب المسانيد أو من غيرها إلا ويحرص صاحب الكتاب صاحب الصحيح أو صاحب السنن على أن يبدأ كلامه ويبدأ حديثه وتبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر صفة الإخلاص؛ لأنه بدونها كل شيء سيضمحل ويتلاشى، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)، هذا أول واحد يحكم عليه يوم القيامة أول ما يقضى بين الخلائق، هذا الإنسان الذي مات في الدنيا في أعين الناس مات شهيداً مقاتلاً في قضية عادلة، فهذا في أرفع الدرجات في أعين الناس، لكنه قاتل ليقول عنه الناس: إنه جريء، فقد قيل، ما طلبته حصلته، كذلك أنت ماذا تريد من وراء العلم؟ ماذا تريد من وراء السلطان؟ ماذا تريد من وراء الجاه؟ من وراء الوضع الاجتماعي؟ ما أردته قد تحصل عليه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، لو كنت تريد هذا فقط فقد أخذته، وليس لك في الآخرة نصيب.
الثاني الذي يحكم عليه يوم القيامة، وهذا مربط الفرس في قصتنا، قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل تعلم العلم وعلمه) يعني: لم يكن فقط من العلماء بل كان عالماً إيجابياً، فقد تعلم العلم وعلم الناس، لكن القلوب تنطوي على أهداف شخصية ومصالح خاصة، فهو لم يطلب رضا الله عز وجل في هذا العلم الذي حصل عليه، فهذا الرجل الثاني: (رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل)، يعني: أنت أخذت نصيبك، وما كنت تريده في الدنيا حصلت عليه، فأنت عندما كنت في الدنيا كان الناس يشيرون إليك: ما شاء الله فلان عالم من العلماء، ما شاء الله فلان قارئ للقرآن ومجيد للتلاوة ويحسن التفسير والتأويل، كل الناس يتكلمون بهذا، وأنت سعيد بهذا الكلام، ولم ترد وراء ذلك شيئاً لم تنظر إلى جنة ولم تخف من نار ولم ترج مثوبة الله عز وجل، ولم تخش عذاب قبر ولم تطلب نعيمه، حياتك كلها منصبة في الدنيا، فلن تظلم ستأخذ أجرك كاملاً في دنياك، لكن ليس لك في الآخرة نصيب، (ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).
وهنا وقفة هامة جداً: أن الله عز وجل أول ما يسعر جهنم يسعرها بهؤلاء، مع وجود المنافقين الكثر، ومع وجود الكفار، ومع وجود أصحاب المعاصي الكبرى، ممن زنا ومن سرق فعل كذا وكذا من الموبقات، لكن رب العالمين سبحانه وتعالى يبدأ بهؤلاء؛ ليثبت لنا ويوضح لنا أن الأعمال التي ليس فيها إخلاص أعمال محبطة لا وزن لها: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، فهذا أول شيء ينبغي أن تحرص عليه من الآن من هذه اللحظة، وهذا شيء صعب وليس بالسهل، لا تظن أن قضية النية وقضية الإخلاص عمل يوم أو عمل ليلة أو عمل لحظة أو عمل سنة من سنوات طالب العلم، أبداً، بل هذا الأمر مطلوب منك في كل لحظة من لحظات حياتك؛ منذ سمعت هذا الكلام وإلى يوم الممات؛ لأن النفس تتغير والقلب يتقلب، تكون في أول عملك ناوياً لله عز وجل لكن مع مرور الوقت أو في أثناء نفس العمل الذي كنت فيه مخلصاً لله عز وجل تغيرت عليك نيتك، ويحصل هذا كثير جداً، في الوقت الذي تعمل العمل لله في تلك الأثناء إذا بهذا يشكر وآخر يمدح وآخر يعظم، فارتفعت قيمة العمل في نفسك لطلب مدح الناس وثناء الناس وشكر الناس، فمع مرور الوقت ضاع العمل وضاع الثواب وأحبط العمل كما سمعنا.
جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار)، إن الموضوع خطير أيها الإخوة، ليست القضية قضية فضائل أعمال، القضية قضية منهج حياة، هذا الذي يطلب العلم وسخر حياته بكاملها لطلب العلم لغير الله هذا ضيع حياته بكاملها وضيع آخرته أيضاً: (فليتبوأ مقعده من النار).
وجاء في الأثر الذي رواه الدارمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: من طلب العلم لأربع دخل النار: ليباهي به العلماء. يعني: تجده يفتخر أمام العلماء بعلمه، ويقول: أنا أعلم نقطة كذا وأنت لا تعلمها، فيتحرك بهذا العلم الذي حصل عليه ليصبح له مكانة في وسطهم.
ثم قال: أو ليماري به السفهاء. يعني: يجادل به السفهاء؛ لأنهم لا يعلمون، فهو يتكبر عليهم بهذا العلم الذي يعمله.
ثم قال: أو ليصرف به وجوه الناس إليه. يعني: حتى تقول: هذا فلان العالم.
ثم قال: أو ليأخذ به من الأمراء.
يعني: هو يتعلم العلم من أجل أن يأخذ من الأمراء والسلاطين مالاً ثمناً لهذا العلم، فهو من أصحاب النار كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: هذه صفة ليست عابرة في حياة الإنسان، ينبغي أن تراجع نفسك كل يوم؛ فإن سفيان الثوري رحمه الله كان يقول: ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، فإنها تنقلب علي دائماً وهو من هو، ومع ذلك تنقلب عليه النية بصفة مستمرة، وهذا الأمر لابد أن يكون حاضراً في أذهاننا.
الصفة الثانية التي لابد أن يتصف بها العالم المسلم التقي الورع، وهذا ناتج عن الأمر الأول، فالمسلم إذا لم يكن مخلصاً فلن يستطيع أن يحقق هذه الصفة ألا وهي: الزهد في الدنيا، تريد أن تكون عالماً ربانياً؟ تريد أن تكون عالماً تقياً ورعاً؟ تريد أن تكون عالماً مثاباً من رب العالمين سبحانه وتعالى؟ لا تطلب الدنيا بعلمك، وهذه معضلة، تكلمنا في الدروس السابقة عن علوم الحياة، وذكرنا أن هذه العلوم تورث في الأمة قوة، وتحسن الاقتصاد، وتقيم المصانع والشركات، وتكثر من الإنتاج، فتكثر الأموال، فقد يفتن الإنسان في هذه الدنيا، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تبسط عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
إنها لقضية خطيرة جداً أن تطلب بعلمك هذا الدنيا، سواء كان من علوم الشرع أو من علوم الحياة، هناك أناس يتعلمون علوم الشرع من أجل الدنيا، وإننا لنرى مشاهد صعب أن نتخيل أنها من مشاهد الدعاة أو العلماء، لكن موجودة، وأحياناً يفتح الله عز وجل الأبواب على العالم فتنة له، فقد يقع فيها، فلا يصرف علمه إلا في الوجه الذي يأتي بمال.
هناك أحد الإخوة أعرفه كان إمام مسجد في دولة غربية، وكان يأخذ راتباً جيداً على هذه الإمامة، ومرت الأيام وانفصم العقد بينه وبين إدارة المسجد وانتهى عقده، فهو لا يريد أن يرجع إلى بلاده، فقرر أنه يجلس في تلك البلاد ويعمل في أي عمل آخر غير الإمامة في المسجد، ومع كونه إلى جوار المسجد فإنه لم يعد يأتي إلى صلاة الجماعة في المسجد الذي كان يقبض مرتبه منه، ذهب المرتب وذهبت صلاة الجماعة معه، فهذا الشيخ بنفسه يحكي لي أن عندهم إجازة الأوقاف تكون يوم الخميس على ما أعتقد، أو في يوم من أيام الأسبوع غير الجمعة، ويقول: إنهم يعطون للعالم أو للإمام بيتاً فوق المسجد الذي هو فيه أو قريباً منه جداً، فهناك من الأئمة في نفس يوم الإجازة لا ينزل يصلي وهو بجانب المسجد، ولسان حاله: أنا موظف أصلي بهم الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وإذا كان التفتيش في العصر فقد لا يأتي المغرب، لكن العصر لابد أن أكون موجوداً من أجل التفتيش، وكان يذكر ذلك قبل أن يترك المسجد، كان يذكر ذلك بكل حزن وأسى، كيف يوجد من الأئمة من يفعل ذلك؟ فلما تعرض هو لترك الإمامة وقطع الراتب وقع في نفس الأمر، بل لم يعد يحضر الصلوات بالكلية؛ بسبب أنه انقطع عنه راتب الإمامة! هذه صورة نراها في بعض العلماء والدعاة.
وكنت في الأردن من قبل فترة، فاشتكى إلي أناس أن هناك إذاعة من الإذاعات تريد أن تبث أحاديث إسلامية، وكان هناك واحد من الدعاة فطلبوه من أجل أن يعد حديثاً في الإذاعة، ليعلم الناس وينشر العلم، فقال لهم: لا أدخل الأستوديو حتى تدفعوا مبلغ كذا، وبالتالي ليس معهم هذا المبلغ الضخم الذي طلبه وحدده، فلم يأت مع وجود الوقت ووجود الفرصة وكل شيء؛ لأنه أصبح المعيار بالمال هذا بـ(5000) دولار وهذا بـ(1000) دولار، وهذا بـ(500) جنيه، وهذا بكذا، فأصبح تقييم الأعمال على هذه الصورة، لا يهم عندهم أن يكون العمل أنفع وأكثر انتشاراً وأفيد للأمة؛ لأن هذه القضايا كلها تعتبر قضايا جانبية، فأصبحت القضايا الرئيسية: هذا بكم، وهذا شيء خطير، وهو موجود من أعداد كبيرة جداً، بينما عندما تراجع قصص الأنبياء في القرآن الكريم الذين هم القدوة في الدعوة والقدوة في العلم، تجد دائماً يذكر ربنا سبحانه وتعالى عنهم: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا [هود:29]، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا[الأنعام:90]، وهذا واضح جداً، فإذا ربط العالم علمه وربط دعوته وعمله بالمال ضاعت دعوته تماماً، فلا يصبح من العلماء، وإن أصبح عالمًا أصبح عمله وبالاً عليه؛ لأن نيته ليست لله عز وجل.
عندنا مشكلة متعلقة أيضاً بموضوع الإخلاص، وهي: عندما أشتغل بالأعمال الحياتية، مثل: الطب والهندسة وغيرهما فإنه يتعرض فيها الإنسان لنفس الأمور، فهل أنا أطلب بعملي فيها المال وأكون حريصاً عليه، أم أنني أطلب الآخرة وأعيش فقيراً، ويحكم على العالِم أن يكون فقيراً؟
لقد ذكرنا قبل ذلك أن هناك علماء كانوا أغنياء، لكن المال ليس هو القضية الأساسية في ذهنه، المال سيأتي سيأتي، إن كان من رزقك فلن يفوتك فعلاً، سواء أذللت نفسك أو أعززتها، طلبته أم لم تطلبه، تأتيك الدنيا وهي راغمة.
فالإنسان يطلب العلم لله عز وجل، إن جاء المال فهذه نعمة من الله عز وجل يجب أن تشكر وتنفق في سبيله سبحانه وتعالى، إننا مطالبون بتحصيل العمل لأجل المعاش، عندك أسرة وعندك أولاد وعندك حياة لابد أن تقيم هذه الحياة، لكن أن تصرف حياتك لهذه الأمور فقط فهذا غير مرغوب، وهذا غير ممكن لمن أراد أن يكون عالماً.
فهذا الإمام مالك ترك له أبوه ثروة هائلة، فأنفقها كلها في سبيل تحصيل العلم وعلى طلبة العلم، حتى اضطر في آخر حياته لأن ينقض سقف بيته من الخشب ويبيعه ليعيش، فانظر إلى أي حد، وقد كان من أغنياء القوم، لكن صرف كل أمواله في سبيل تحصيل العلم، فهذا رجل عينه على هدفه بوضوح، فأصبح في النهاية الإمام مالك بن أنس رحمه الله.
وهناك أناس تقول: نريد امتلاك الدنيا لنصرفها في سبيل الله، وهذه الموضة ظهرت في هذا الزمن، تجدهم يقولون: الزهد في الدنيا، لا، نحن نريد أن تكون الدنيا في أيدينا، وبعد ذلك ننفق هذه الدنيا في سبيل الله، نصبح مثل: عثمان بن عفان وأبو بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله وسعد بن عبادة ، نقول: جزاكم الله خيراً على هذه الأحاسيس العظيمة! لكن لماذا لا تفكر أن تكون مثل: مصعب بن عمير الذي كان غنياً وترك الغنى لأجل الدعوة، أو أن تكون مثل عبد الله بن مسعود الفقير، مثل أبي هريرة الذي كان يتضور جوعاً أو مثل فلان أو فلان من الأمثلة الأخرى؟ إذا كان كل التركيز على الأمثلة الغنية فقط، وتريد أن تكون مثل هذه الأمثلة الغنية فراجع نيتك؛ لأنك تظن أن الدنيا متى ما أتت إليك أنك تستطيع التصرف فيها بشكل صحيح، ما أكثر الذين طلبوا الدنيا وفتنوا فيها، كانوا فعلاً صادقين في أنهم إن أتاهم المال فسينفقونه في سبيل الله، لكن عندما جاء المال فتنوا، والمال فتنة كبيرة أيها الإخوة، يقول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث: (اتقوا الدنيا) وقد خصصنا محاضرة كاملة في الشهر السابق عن خطورة الدنيا على حياة الإنسان المسلم، من أجل ذلك لا نريد أن نسلك هذا المسلك؛ لا نقل: أنا أريد أن آخذ الدنيا من أجل أن أنفقها في سبيل الله، لكن قل: أنا عملي لله عز وجل وأجتهد تمام الاجتهاد، وأتعلم تمام العلم، وأعمل عملي المعاشي الحياتي في وقت محدد معروف، أصرف في عملي ثمان ساعات أو سبع ساعات أو تسع ساعات، كل واحد بحسب ظروف عمله يحدد عدداً معيناً من الساعات في العمل، فإن جاءني في هذا الوقت مائة ألف من الجنيهات، أو جاءني (100) جنيه، جاءني عشرة ملايين، فهذا فضل الله عز وجل يفيض به على من يشاء من عباده، وعندما يأتي المال بهذه الكثرة أو هذه القلة فإنني أتصرف على حسب هذا المال، إن كان قليلاً صبرت وإن كان كثيراً شكرت، وفي كلتا الحالتين أنا في خير، فهذا الذي ينبغي أن يكون في ذهن المسلم، لا تطلب الدنيا أبداً بعلمك، لا تنوي بأن تكون دكتوراً مشهوراً أو كبيراً أو كذا لأجل أن يكون لك القصور والضياع والسيارات.. وما إلى ذلك من أمور الدنيا، حتى وإن كانت حلالاً؛ لأن هذه كلها مطالب دنيوية لا تصلح للعلماء، فالعلماء ينبغي أن تكون عيونهم على الآخرة فهم قدوة للأمة.
الصفة الثالثة: أن تتعلم علماً نافعاً، أن يكون علمك هذا له مردود عليك وعلى الناس في دنياك، ويوصلك في الآخرة إلى النجاة، والرسول عليه الصلاة والسلام كان كلما ذكر العلم وحث عليه أضاف له كلمة (النافع)، كما روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة -وفي رواية ثلاث-: صدقة جارية، أو علم) اشترط فيه شرطاً، فما هو هذا الشرط؟ (أو علم ينتفع به)، فأي علم نظري هذا ولا ينتفع به لا يقدم ولا يؤخر فوجوده كعدمه، وهو علم لا تؤجر عليه، بل أحياناً يكون هذا العلم وبالاً على الإنسان، (أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، وأيضاً كما جاء في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) يستعيذ صلى الله عليه وسلم من شر عظيم، فما هو هذا الشر العظيم؟ العلم الذي لا ينفع: (من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها).
قسم العلماء العلوم من هذه الوجهة إلى ثلاثة أنواع: علوم نافعة نفعاً محضاً، يعني: هو العلم الذي تستطيع أن تطبقه وتفيد به نفسك أولاً ثم الناس.
وهناك علم ضار، عندما تعرف هذا العلم يصيبك ضرر؛ بسبب معرفتك له، فهذا العلم لا داعي له البتة.
وهناك علم ثالث وهذا يشغل الكثير الكثير، ولا هو نافع ولا هو ضار، يعني: هذا علم ليس له معنى، علمه أو لم يعلمه فأمور الدنيا تمشي كما هي دون الحاجة إلى مثل هذا العلم، قد لا يكتسب سيئات، لكن لا يأخذ عليه حسنات.
إذاً: ما هو تصنيف هذا العلم في الشرع؟ يضع الإمام الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين هذا العلم مع العلم الضار، وإن كان ليس بحرام شرعاً، لكن يضيع عمرك، أليس العمر رأس مالك؟ عندما أنفق ساعتين أو ثلاثاً فيما لا ينبني عليه عمل وفي أمر لا ينتفع به ذهبت علي هاتان الساعتان أو الثلاث، وقد أضيع يومين أو سنتين أو ثلاث سنين، وقد تمر قرون على البشرية في علوم لا تنفع ولا تضر، فهذه علوم أضاعت عمر الإنسان، وعمر الإنسان هو أثمن ما يمتلك، هو الشيء الذي لا يعود أبداً: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100]، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا حريصين جداً على قضية العلم النافع، ويعلمون كيف يكون العلم نافعاً، وهذه رسالة لكل طلبة العلم، ولكل من أراد أن يكون عالماً؛ لأننا نضيع أوقاتاً كثيرة في قضايا لا ينبني عليها عمل، ولا نأبه لها، ونحن الآن نسمع هذا الكلام ونظن أننا نتكلم على أناس آخرين يضيعون حياتهم في أشياء ليست لها معنى، لكننا كثيراً جداً ما ننشغل بهذا الأمر ونظنه أمراً هاماً جداً من أمور الدين.
على سبيل المثال قضية الدجال : الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة جداً وصف الدجال بصفات هي في غاية الغرابة والعجب، عندما تسمع بها تنبهر وتندهش وتريد أن تعرف أكثر وأكثر عن صفة هذا الذي يخرج، وكيف أنه مكتوب على جبهته كلمة كافر؟! وكيف تكون جنته ناراً وناره جنه؟! يعني: أمور عجيبة جداً، وكيف يفتن الناس في هذا الأمر؟! كل هذه الصفات سمعها الصحابة وسكتوا، لكن عندما ذكر صلى الله عليه وسلم صفة معينة عن الدجال حيث قال: (يبقى فيكم أربعين له يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع)، فهو سوف يمكث فينا أربعين يوماً، لكن هناك يوم من الأيام طوله مثل طول سنة، يعني: تطلع الشمس إلى أن تصل إلى الزوال فتكون قد مضت ستة أشهر، وحين تصل إلى الغروب تكون قد مرت سنة كاملة، وهذا الشيء موجود في القطب الشمالي الآن، يعني: ليست أشياء مستغربة، وليس ذلك على الله بعزيز، لكن ربنا يثبت لنا الآيات في الكون وفي أنفسنا: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53]، فيظل اليوم الذي يكون فيه الدجال موجوداً اثني عشر شهراً، ويوماً كشهر، ويوماً كأسبوع، وبقية الأيام كسائر أيامنا، فهنا وقف الصحابة وسألوا سؤالاً: (هذا اليوم يا رسول الله الذي بسنة أنصلي له صلاة يوم؟)، إذاً: القضية قضية العلم النافع، أريد أن أعرف معلومة حتى أعمل بها، يعني: الصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا عن صفة جنته أو ناره أو كذا؛ لأنه لا ينبني عليها عمل، لكن عندما تكون هناك قضية شرعية فقهية أتحرك بها عندما يأتي الدجال وأنا على قيد الحياة أسأل، وجزى الله خيراً الصحابة فهم سألوا هذه الأسئلة فتعلمنا نحن منها، هم لم يعاصروا الدجال ، الله أعلم مَن من الأمة سيعاصره ويمر به هذا الظرف؟! (فيقولون: هذا اليوم الذي بسنة أنصلي له صلاة يوم؟) يعني: نصلي خمس صلوات فقط؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (اقدروا له قدره)، فلابد أن يحسب الوقت كل (24) ساعة مرت تقسم على خمس صلوات، والتي تليها خمس صلوات، يعني: أأصلي المغرب والعشاء والشمس مازالت في كبد السماء؟ نعم، وهل ستمكث ستة أشهر من دون أن تصلي ستة أشهر، حتى تأتي الأشهر الأخرى؟! لا، لا يصح.
هذا الحديث استعمله العلماء الآن قبل ظهور الدجال في قضايا فقهية خاصة بالمناطق الشمالية والجنوبية من الكرة الأرضية، التي تمكث فيها الشمس فعلاً موجودة في السماء ستة أشهر، وستة أشهر وراءها ليل دائم، فكيف يعملون؟
كنت في الدنمارك قبل عدة أيام، في شمال الدنمارك في أشهر الصيف شهر يوليو وشهر يونيو ممكن تكون صلاة العشاء الساعة الثانية عشرة ليلاً وصلاة الفجر الساعة الثانية عشرة والربع، فالفرق ربع ساعة ما بين العشاء والفجر، والمغرب قبل العشاء بوقت يسير حوالي ثلث ساعة، يعني: لو جاء رمضان في هذه الأشهر ستكون فترة الصيام ثلاثة وعشرين ساعة ونصفاً تقريباً، فطبعاً هم لا يستطيعون أن يصوموا، فيقيسون على بلاد قريبة جوها معتدل أو ظروفها طبيعية قليلاً من أجل أن يعرفوا فترة الصوم ووقت الصلاة، قياساً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قاله في حق الدجال .
فانظر إلى هذا السؤال المفيد الذي أتى بنتائج مفيدة.
من الأسئلة التي لا ينبني عليها عمل: سفينة نوح عليه الصلاة والسلام كم كان طولها؟! ويختلف العلماء بين الثمانين ذراعاً، وبين مائة وعشرين ذراعاً، ومائتين وخمسين ذراعاً، فماذا بعد ذلك؟ نفترض أننا والحمد لله حلينا هذه المعضلة العلمية وعرفنا كم هي أذرع فما الفائدة؟! عندما نأتي ونعمل سفينة الآن وننجو بها أنجعلها مثل سفينة سيدنا نوح عليه السلام؟!
إذاً: فهذا علم لا ينبني عليه عمل، فلا داعي أن تضيع الوقت فيه.
كذلك عندما قتل قابيل هابيل وحمله على كتفه من أجل أن يدفنه، كم حمله على كتفه؟! هذه أيضاً قضية مطروحة في بعض كتب قصص الأنبياء، يقول بعضهم: حمله أربعين يوماً، ويقول الثاني: حمله سنتين، ويقول آخر: حمله عشر سنين، يا أخي! حمله نصف يوم أو يوماً أو لم يحمله بالمرة، المهم أن العبرة من القصة واضحة في الكتاب، فلا تنشغل عنها بغيرها، من أجل ذلك نريد نتقي قصص الأنبياء التي جاءت في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة مما دخل فيها من الروايات الإسرائيلية حتى وإن كانت موجودة في كتب أهل الكتاب، لأننا لا نعرف هل هي صحيحة أو غير صحيحة حتى وإن تيقن أنها قصة صحيحة في كتبهم، لكنها لم تأت في كتاب ولا في سنة فلا عبرة بها؛ لأنه لو كان لوجودها أهمية لذكرها ربنا سبحانه وتعالى أو ذكرها حبيبنا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، فهو ما أغفلها وما تركها سبحانه وتعالى إلا لحكمة، فلا داعي أن أبحث في هذه الأمور، بل أهتم بالأمور التي ينبني عليها عمل، أهتم بالعلم النافع الذي يقدم ولا يؤخر، العلم الذي لا يضيع أعمار الناس في غير ما فائدة.
هناك أمور علمية قد تكون ضارة، هناك بعض الأمور الفلسفية تطرح بعض القضايا التي تحدث فتنة شديدة في المجتمع وبين الناس، وقد لا يضل بها بعض الناس عن الطريق السوي فيعصون الله عز وجل، لا، بل قد يكفر بعض المسلمين بسبب هذا العلم، وما أكثر الشرور التي دخلت على المسلمين بعد ترجمة فلسفة اليونان، وإنزال هذه الفلسفة على أمور العقيدة، فأصبح الناس يناقشون قضايا الخلق وقضايا الجنة والنار، وقضايا القرآن، وقضايا صفات الله عز وجل على طريقة فلاسفة اليونان، وهذا أمر موجود ومعروف في تاريخنا.
تنبيه وتحذير لكل المسلمين: لا تعودوا إلى ما فعله الأولون من التعمق في الفسلفات التي ضلوا بسببها، لكن الزموا الطريق للإمام الذهبي رحمه الله كلام رائع عن التصوف الفلسفي والقول بوحدة الوجود، وهذه فكرة ظهرت في زمن من الأزمان، واجتمع عليها عدد من العلماء وكفروا بسببها، عندما تقرأ لهذا العالم تجد كلاماً ثقيلاً وصعباً جداً، وتجد أن علم هذا الرجل لم يبلغ إلا قليلاً من أهل الأرض، ولم ينتفع بهذا العلم، بل أضر بهذا العلم نفسه، وأضر به وأضر بالمجتمعات التي عاش فيها، يقول الإمام الذهبي عندما تحدث عن هذه الأنواع من العلوم الضارة: والله لأن يعيش المسلم جاهلاً خلف البقر لا يعرف من العلم شيئاً سوى سورة من القرآن يصلي بها الصلوات ويؤمن بالله واليوم الآخر خير له بكثير من هذا العرفان وهذه الحقائق ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة بهذا التصوف الفلسفي والقول بوحدة الوجود، والخروج عن المنهج الإسلامي إلى اختراعات ما أنزل الله بها من سلطان، ويشار إليه في وسط الناس أنه من العلماء، وقد يكون عنده علم، لكنه علم ضار لا ينفع في شيء.
وعندنا علوم فسادها عجيب، مثل: علوم الرقص والفنون.. وما إلى ذلك أصبحت علماً الآن، فهناك أناس ينفقون أعمارهم في هذا العلم، وهناك أناس يأخذون الماجستير والدكتوراه من أجل رقصة معينة، أو في أغنية معنية، أو في دراسة حياة شاعر ماجن، وهناك شخص عمل دكتوراه من أجل أنه يريد أن يضيف وتراً للعود!
إذاً: هناك علوم كثيرة من هذه النوعية، علوم لا ينبني عليها عمل، فهذا شيء خطير.
إن من أهم الأشياء التي تميز العالم المسلم أنه قبل أن يدرس العلم ويتعمق فيه يتساءل: هل سينبني على هذا العلم عمل، أو أن هذا العلم لا ينفع ولا يضر، أو أن هذا العلم يضر به وبالمجتمعات؟
الصفة الرابعة: أن يعمل العالم بما علم، ألم نقل: أن يتعلم العلم النافع الذي ينبني عليه عمل؟ فالمشكلة أنك تتعلم العلم النافع الذي ينبني عليه عمل ثم لا تعمل به، ويعمل به الناس، فالعالم إذا أعطى درساً عن صلاة الفجر، وأتى بالأدلة على أهمية الصلاة في جماعة في المسجد، وعلى الوعيد الشديد في حق من تخلف عنها، ثم يتخلف هو عن أدائها فأي علم هذا، هذا العلم حجة عليه لا له، وقس على هذا كل أنواع العلوم.
جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وأيضاً رواه أحمد وابن ماجه عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، وهو حديث لطيف جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقسم فيه الناس إلى أربعة أنواع حسب علمهم وأموالهم؛ هناك أناس أنعم الله عز وجل عليهم بالعلم والمال، وهناك أناس حرمهم الله عز وجل من العلم والمال، وهناك أناس أعطاهم الله العلم ومنعهم المال، وهناك أناس أعطاهم المال ومنعهم العلم، فقسم الناس إلى أربعة أصناف حسب العلم والمال، فتعالوا بنا إلى سياق هذا الحديث، والروعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنرى أين نحن يا ترى في هذه الأصناف، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً)، عنده علم يضبط حركة المال، فيتحكم في هذا المال تحكماً شرعياً، يأتي به من الوجه الذي أحل الله عز وجل، وينفقه في الوجه الذي أحل الله عز وجل، ولا يخالف به أولويات المسلم في حياته، فالعلم يضبط له هذه الأمور ويضبط له حياته كلها؛ لأنه من الممكن أن تعيش (24) ساعة تعمل في تحصيل المال الحلال، لكن قد تفوتك صلوات، وتفوتك صلة أرحام بر والدين، وتفوتك دعوة إلى الله، ويفوتك تحصيل علم، ويفوتك كذا وكذا من أمور الخير، نعم أصل التجارة حلال، لكن ضاعت أولويات مهمة جداً في حياتك، إننا نرى أناساً كثيرين على هذه الشاكلة، بل من الممكن أن نكون نحن المتهاونين بهذا الأمر، فقد نسهر ست عشرة ساعة أو سبع عشرة ساعة ونتغافل عن أعمال هامة عظيمة في حياتنا، ليس لها مردود مادي، وهذا شيء خطير، فالعلم يضبط هذه الناحية، يجعل الإنسان يعمل العمل المناسب في المكان المناسب في الوقت المناسب.
فأول واحد: (عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يزرقه مالاً، فهو صادق النية)، انتبهوا إلى قضية الإخلاص التي تكلمنا عنها سابقاً، قال: (فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء) لقد أفرحنا هذا الحديث جداً؛ لأننا نرى أغنياء ما شاء الله لا قوة إلا بالله من الناس الأتقياء، والله عز وجل أعطاهم، فيعمل الواحد منهم أعمالاً خيرية كثيرة جداً، يقيم مستشفيات ومؤسسات تعليمية، وينفق على الفقراء والمساكين، ويجاهد في سبيل الله بماله.. يفعل أموراً كثيرة تتمنى أن يكون عندك مال فتفعل مثل ما يفعل؛ إن كنت صادقاً في نيتك فأنت وهو في الأجر سواء بنص الحديث، يعني: نكون في هذه الدرجة وإن لم تملك المال، وقد يكون الذي معه مال في فتنة حُفظ منها الذي منع من المال.
فنرضى بما قسم الله لنا ونصلح نياتنا، في غاية الأهمية أمر الإخلاص.
إذاً: الأول معه مال وعلم، والثاني معه علم وليس معه مال، المشكلة في الثالث والرابع، الثالث: (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً)، فهذه فتنة كبيرة، معه أموال، لكن ليس لديه علم يضبط حركة هذا المال: (فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل) نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء.
ليس كل الأغنياء الموجودين نطمع أن نكون مثلهم، بل إن غالب الأغنياء يفتنون، وقد ورد في البخاري ومسلم حوار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين أبي ذر عندما ذكر له في آخر الحديث، قال: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة)، يعني: أن الأكثرين في الأموال هم الأقلون في الحسنات يوم القيامة؛ لأن من تكاثر ماله غالباً يفتن بماله، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن قال هذه الكلمة استثنى الطائفة التي تتقي الله عز وجل في مالها، فقال: (إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، وأشار عن يمينه وشماله ووراء ظهره، ثم قال: وقليل ما هم)، يعني: قليل جداً الذي يؤتى المال فيثبت، نسأل الله الثبات جميعاً، هذه فتنة خطيرة.
فهذا الرجل أو هذا الصنف الثالث الذي آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فأضاع نفسه بهذا المال، فهو بأخبث المنازل، وما أكثرهم.
الصنف الرابع: (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً)، واعلم أن المال رزق كفله الله عز وجل لك قبل أن تولد، لكن العلم تطلبه وتأتي به، لو تريد علماً سيعطيك الله، ليس مثل المال، أناس كثيرون يريدون مالاً فلا يعطيهم الله سبحانه وتعالى.
لقد فتح الله أبواب العلم لمن أراد، فأي شخص عنده صدق نية في طلب العلم سيصل إلى العلم، لكن الذي يريد مالاً ليس شرطاً أن يحصل عليه، فهذا الرجل عنده مشكلة، لا يقل أحد: لم يرزقه الله مالاً وعلماً فما ذنبه إن لم يعطه؟ أما بالنسبة لقضية المال فالله عز وجل قد كفل الرزق للإنسان سواء بالكثرة أو بالقلة، لا حيلة في الرزق، وأمرنا بالسعي للزرق، مع أن الرزق مكفول معروف قبل أن نخلق، لكن قضايا العلم هذه، وقضايا التقوى والورع والعمل لله، والإيمان الجازم واليقين الجازم بالعودة إلى الله والحساب عنده، هذه أمور تحاسب عليها لا شك في ذلك، فهذا الرجل مخطئ ومقصر في أنه لم يتعلم: (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان) يعني: بعمل فلان العاصي الذي ينفق ماله في معصية الله عز وجل، والذي يتكبر ويتجبر بماله على خلق الله عز وجل، والذي يتطاول ويظلم ويسفك دماء الناس بماله الذي أعطاه الله عز وجل له، فهذا الرجل يتمنى أن يكون مثله، يقول صلى الله عليه وسلم: (فهو بنيته فوزرهما سواء).
هذا الحديث فيه تفصيلات كثيرة، لكن انتبه فنيتك تغير خط حياتك كله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، تريد أن تكون عالماً ربانياً، فإن الله عز وجل سيفتح لك الطريق، تريد أن تكون من أهل الدنيا، فإن الله عز وجل سيعطيك كذلك من الدنيا كما تشاء، بأن يفتح لك من الدنيا وليس لك في الآخرة نصيب، وكل منا يراجع نيته.
روى أحمد رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أسري بي، مررت برجال تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون).
هذه بعض الأمثلة اللطيفة جداً من التاريخ ترينا مدى حساسية العلماء الأبرار في قضايا العمل بالعلم، فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان يتحرى السير على نهج الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل خطوة من خطواته، إلى درجة أنه في يوم من الأيام احتجم، ولم يكن يحتاج الحجامة؛ لكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم فهو لابد أن يحتجم مثل ما احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى الحجام ديناراً كما أعطى الرسول عليه الصلاة والسلام لمن حجمه ديناراً، فهو يريد التشبه بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يعني هذا: أن تشتري شاة بدرهم مثل ما اشتراها الرسول عليه الصلاة والسلام، لا، لأنك قد تحرج نفسك مع الرجل البائع، وإنما نضبط الأمور حسب الزمن الذي نعيش فيه.
فانظر إلى الحرص من الإمام أحمد في الاتباع، فهو لم يحرص على هذه الأمور إلا بعد أن أتم كل الأمور، لم يتمسك بهذا الشيء وترك أشياء عظيمة، لا، حاشا لله، بل كان متبعاً للسنة، وكان إماماً للمسلمين في اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، واستأذن رحمه الله زوجته في أن يتخذ أمة، فأذنت له، فاشترى جارية بثمن يسير وسماها ريحانة استناناً برسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده جارية اسمها ريحانة .
نعم هذه ذهبت عليك ولا تستطيع أن تعملها الآن، لكن هناك أشياء أخرى بالإمكان أن تعملها فلا تقلق.
وهذا الحسن البصري كان له موقف لطيف جداً، فقد جاءه العبيد والرقيق في زمانه يطلبون منه أن يخطب خطبة جمعة يحث الناس فيها على إعتاق العبيد، فأول جمعة وقف ثم خطب حتى انتهى ونزل ولم لم يذكر أمر الرقيق في شيء، فإذا بهم يذكرونه بأن يذكر أمرهم في الجمعة القادمة، فجاءت الجمعة التي تليها، فقام الحسن البصري وخطب الخطبة من أولها إلى آخرها ولم يذكر الرقيق فأخذ في نفس الرقيق، ثم ذكروه في الجمعة الثالثة، فقام في هذه الجمعة وخطب خطبة عن الرقيق وحث الناس على إعتاق العبيد، فأعتقت العشرات والمئات من العبيد في يوم واحد، فأتوا إليه بعد الخطبة الثالثة وقالوا: لماذا أخرت علينا ثلاث جمع؟ قال: لم يكن عندي عبيد، فاشتريت عبداً وأعتقته قبل أن أخطب؛ لكي أكون قد عملت بما أقول. يعني: الكلام سهل، فقد أقول للناس الذين عندهم مال: أنفقوا في سبيل الله، ابنوا كذا وكذا، وأعظ الناس بالإنفاق، لكن قد يأتي من يقول: لماذا لا تنفق؟ فهنا تظهر المشاكل القلبية، فهو لم يحب أن يضع نفسه في أمر الناس بالبر وينسى نفسه، فوضع لنفسه الاختبار، فجمع مالاً في هذه الثلاث الجمع واشترى عبداً وأعتقه في سبيل الله؛ حتى إذا قام يعظ الناس يتكلم بكل ثقة؛ فهو سيتكلم بما يعمله، هؤلاء هم العلماء، فلذلك صار الحسن البصري رحمه الله إماماً وحفظ ذكره في التاريخ إلى زماننا، وسيظل بإذن الله إلى يوم القيامة، فهو من أبرار الأمة ومن علمائها، فعنده علم ينتفع به وعمل به، فنسأل الله له أعلى المنازل.
كذلك العلوم الحياتية ينبغي أن تعمل بعلمك ولا تجعلها معلومات نظرية، فالطب بالنسبة لنا في أول السنوات كان مملاً جداً، وكانت علوماً نظرية بحتة تؤدي إلى الملل، وفي السنة الرابعة والخامسة تجد الأمور العملية، ولكن لم يكن فيها المتعة واللذة التي كان يظنها الشخص، فمتى تحس بطعم العلم؟ عندما تبدأ تطبيقه على الناس، عندما تبدأ تقرؤه بنية أنه لو حصل هذا الموقف ماذا أفعل؟ لو رأيت هذا التوصيف الذي جاء في الكتاب ماذا أفعل معه؟ وكيف أعمل؟ شتان بين هذا الذي يقرأ بهذا الفكر، وبين من يقرأ فيحفظ بعض الجمل من أجل أن يذكرها في الامتحان ويتحصل على أي درجة وينتقل إلى السنة الأخرى، شتان، وهكذا في كل علوم الحياة؛ طب، هندسة، فلك، كيمياء، جغرافيا، اخترع الصينيون البوصلة، ولكن استخدموها في السحر والشعوذة والضحك على الناس الموجودين في ذلك الوقت، لكن علماء المسلمين استخدموا البوصلة في تحديد المسار في البحر، وفي تحديد قبلة الصلاة، وبدءوا يستخدمون البوصلة ويتطورون فيها، من أجل أن تؤدي فوائد عملية للناس.
وعلماء اليونان وضعوا قواعد هندسية لا حصر لها، وعملوا بعض المعادلات لإنشاء جسور وسدود هائلة، وما أقاموا سداً واحداً ولا خزاناً للمياه كما وصف في بعض الكتب، لكن الحسن بن الهيثم ما إن قرأ هذه القواعد الهندسية حتى بدأ يبحث في أي بلاد المسلمين أستطيع تطبيق هذه الجسور وهذه السدود لنفع المسلمين، لنفع الإنسانية بصفة عامة، وبالفعل وجد أن مصر فيها نهر النيل، وأنه مناسب عمل سد عليه يكون فيه نفع البلاد والعباد، وقضية الطوفان كانت قضية مشهورة في مصر، فسافر من الشام حتى وصل إلى مصر، وكانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم الفاطميين في عهد الحاكم بأمر الله ، وذكر له فكرته الهندسية وأنه يريد أن يعمل سداً، ورحب الحاكم بأمر الله بالفكرة جداً، وقال له: هذا هو النيل، وانظر ماذا تعمل به؟ فمسح النيل من أوله إلى آخره، ووجد أن أفضل مكان ينشأ عليه السد في جنوب أسوان، في نفس المكان الذي فيه السد العالي الآن، حدد مكاناً معيناً وقال: هذا هو المكان الذي نريد أن نعمل فيه سداً، وجمع مجموعة كبيرة من المهندسين وعمل دراسات كبيرة جداً، وقال: إنني بحساباتي المادية مستحيل أننا نعمل السد الآن، لأننا محتاجون إلى إمكانيات أكبر لا نستطيعها الآن، لكن كان فكره فكراً عملياً، هذا الفكر عندما تطور يوماً بعد يوم أضاف إليه عالم من هنا وعالم من هناك؛ عالم من المسلمين وعالم من غير المسلمين، هذا الفكر لم يذهب سدى، وهذه القواعد أصلت وأسست ودرست إلى أن جاء يوم من الأيام وعمل السد في ذلك المكان، وقد يكون العالم الذي عمل السد في هذه الأيام لا يعرف أصلاً ابن الهيثم ، لكن الله عز وجل يعلمه، من عمل عملاً وكانت نيته لله عز وجل فإنه لا يضيع أبداً.
إذاً: قضية العمل بالعلم هي قضية مهمة وفيها أمور كثيرة جداً وأمثلة كثيرة، لكن لا يتسع المجال لذكرها.
الصفة الخامسة من صفات العلماء: أن العلم لابد أن يرتبط برحمة، هناك علماء تكون عندهم غلظة وشدة تنفر الناس، والناس تكره أن تأخذ العلم ولو كان علماً نافعاً صالحاً من هذا الغليظ، بعض الأحيان يكون علماً شرعياً، فهذا خطير جداً، وهذا موجود، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام خطب خطبة في الناس، عندما أطال بعض الصحابة في الناس، وقال: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين)، فهو عالم وتقي وقارئ وورع، لكنه أطال في الصلاة حباً في الصلاة، وهو لا يعتبر من المنافقين، بل من الصحابة الأجلاء، ومع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين)، فهناك أناس لا يهمهم حال الناس الذين حولهم، أين الرحمة يا إخوان؟!
هذه قصة رائعة دارت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، وكان حديث عهد بالإسلام، وهو أعرابي أتى من الصحراء، ودخل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فصلى معه، وهو حديث عهد بإسلام أسلم منذ أيام، ولا يعرف من الإسلام إلا قليلاً، فوقف في صلاة الجماعة، ويبدو أنه أول مرة في حياته يصلي جماعة، والحديث الذي فيه القصة رواه الإمام مسلم والنسائي وأبو داود وأحمد وغيرهم، قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم)، يعني: كان بجانبه رجل فعطس هذا الرجل، فأحب أن يؤدي الواجب نحوه ويشمته، (فقال له: يرحمك الله) في أثناء الصلاة، وهو لا يعرف أن الكلام في الصلاة لا يصح، (فقال: يرحمك الله، قال: فرماني القوم بأبصارهم)، يعني: نظر الصحابة إلى هذا الذي يتكلم في الصلاة، من الذي يقول: يرحمك الله في الصلاة، هذا لا يعرف شيئاً من شئون الصلاة، نظر إليه الناس بغير إرادتهم، (قال: فقلت -وهو في الصلاة أيضاً-: واثكل أمياه! ما شأنكم؟ لماذا تنظرون إلي؟)، يقول هذا الكلام كله وهو في الصلاة؛ بسبب جهله بهذا الحكم فعل ما فعل، (فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم)؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكلموه، فلو أن شخصاً قال: اسكت بطلت صلاته كذلك، فهم يضربون على أفخاذهم، قال: (فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت)، يعني: كنت أريد أن أتكلم وأكمل وأشرح لهم وجهة نظري، وأنه من حقي كمسلم أن أقف بجانب أخي المسلم فإذا عطس شمته، ولم أقل شيئاً خطأً، وإنما قلت له: يرحمك الله، وكان بإمكاني أن أتكلم ساعتين، لكنني قلت: أسكت، مادمتم تسكتونني. (قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه صلى الله عليه وسلم)، يعني: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يسمع مثل ما سمع الصحابة، سمع قول هذا الأعرابي: يرحمك الله، واثكل أمياه، مالكم تنظرون إلي، النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع كل هذا الكلام، فما إن انتهى من الصلاة، يقول معاوية بن الحكم رضي الله عنه: (فوالله ما كهرني -يعني: ما لامني- ولا ضربني ولا شتمني، وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)، فهو صلى الله عليه وسلم أعطاه الدرس بمنتهى الهدوء ومنتهى الرحمة، فبعض الناس عندهم أخطاء شرعية أو أخطاء في العلوم الحياتية، فهم يحتاجون إلى رحمة في التعليم، فإذا كان العالم فظاً غليظاً ينفر التلميذ أو ينفر طالب العلم من العلم، فقد ينفر منه أبداً، وتصبح فتنة ويكون السبب فيها المعلم الغليظ، سواء كان هذا المعلم في مدرسة أو في جامعة أو كان في الشارع ماشياً.
إذاً: أي داعية من الدعاة أو عالم من العلماء يعلم الناس بأمر فيه غلظة قد ينفر الناس، فهذه الرحمة من صفات علماء المسلمين.
الصفة السادسة: أن ينقل العلم إلى غيره، لا يقف العلم عنده، لكن يورث العلم إلى الآخرين، وإليكم كلمة معاذ بن جبل رضي الله عنه إمام العلماء يوم القيامة قال رضي الله عنه وأرضاه: وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
إذاً: لابد أن ينقل العلم إلى غيره، وهذه كلمة رائعة لـجابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول فيها: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره؛ فإن كاتم ذلك العلم ككاتم ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: لو جاء زمن يلعن فيه الناس الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ويسبونهم، فمن كان عنده علم في الدفاع عن هؤلاء الصحابة فليظهره، لابد أن تعلم هذا العلم؛ فإن كاتم ذلك ككاتم ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لابد أن تعرف هذا العلم وتعلم هذا العلم للناس، وقد يفتح لنا هذا الأمر إن شاء الله باباً للحديث عن أمور الفتنة التي دارت بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ليس من باب الخوض فيها، ولكن من باب الدفاع عنهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا يحتاج إلى تفصيل في مجموعة أخرى من المحاضرات.
ولعلنا كذلك نتساءل: يا ترى ما الفرق في المذهب الفقهي أو في العلم الذي كان عند الشافعي رحمه الله وعند الإمام الليث رحمه الله؟ معظم الناس الذين يصفون أحوال العلماء تذكر أن الإمام الليث كان على درجة عالية جداً من العلم كـالشافعي أو يعلوه أو دونه بقليل، يعني: في مستوى متقارب مع الشافعي ، لكن لماذا نعرف علم الشافعي ولا نعرف علم الليث رحمه الله؟ لأن تلاميذ الشافعي كانوا كثر، فهو علم العلم لعدد كبير فنشروا علمه هنا وهناك، بينما كان تلاميذ الليث قليل، وهكذا كان الرازي رحمه الله من علماء المسلمين المشهورين في الطب، فهو من أجل علماء العالم كله في الطب، وكانت للإمام الرازي رحمه الله مدرسة، فكان يعمل أبحاثه وتجاربه ويكتب كتبه، وكان يجلس كل يوم مع طلبة العلم في مجلس يعلمهم أمور العلم الطبي التي يعرفها، ويقرأ معهم في الكتب، ثم يقوم بجولة معهم على المرضى، ثم يعود ويتدارس معهم هذا العلم، لم يكتم علمه ولم يحتفظ بعلمه لنفسه فقط، فورث العلم، واستفادت ليس أمة الإسلام فقط، ولكن البشرية بكاملها من علم الرازي رحمه الله.
الصفة السابعة من صفات العلماء: الأمانة العلمية، وهي أن ينسب الأمر إلى أهله، والعالم يتعرض لهذه الأمور كثيراً، وكون العالم يأخذ معلومة من هنا ومن هنا فينسبها إلى نفسه، فهذا ليس من الأمانة العلمية، والأمانة العلمية هي التي تسمى الآن الحماية الفكرية وما إلى ذلك، فهذه سبق بها الإسلام، ومن يعود إلى كتب علماء المسلمين سواء في علوم الشرع أو علوم الحياة يجدهم حريصين أشد الحرص على إبراز الذي وصف أو قال أو تكلم بهذا الكلام، وراجع مثلاً: مقدمة الكامل في التاريخ لـابن الأثير رحمه الله، يقول في المقدمة: لقد أحضرت أولاً كتاب الطبري فنخلت هذا الكتاب نخلاً، فكنت آتي بأفضل أو أوسع الروايات وصفاً للحدث، وأتممها بغيرها من الروايات، وأصل الرواية بالرواية حتى يصبح النسق متصلاً، وكل هذا من كتاب الطبري ، ثم قال: بعدما أنهيت كتابي من كتاب الطبري قرأت الكتب الأخرى المشهورة -وعددها- فأضفت من كل كتاب على الكتاب ما لم أجده في الطبري ، حتى خرج هذا الكتاب بهذه الصورة التي ترون، فما أنا إلا جامع من الطبري ومن كذا وكذا من كتب التاريخ. كما ذكر ابن الأثير رحمه الله، ولو نسب ما في الكتاب لنفسه ما علم العوام هذا الأمر، لكن هي أمانة علمية، فرحمه الله.
كذلك فعل أبناء موسى بن شاكر وهم من أعظم علماء المسلمين الكبار في الهندسة وفي الميكانيكا، وهم ثلاثة أولاد، ولعل الكثير لم يسمع عن أسمائهم وهم من أعظم علماء الأرض حقيقة، كتبوا كتاباً كبيراً جداً في علم الميكانيكا، فهم وضعوا علم الميكانيكا بهذا الأسلوب الحديث الموجود في كتابهم الحيل، وهو كتاب مشهور جداً، ومترجم إلى أكثر من لغة أوروبية، فكتبوا: ما كان في هذا الكتاب فهو من أفكارنا وابتكارنا وتجربتنا، إلا ما ذكرناه في أمر المعادلة الفلانية فهو من معادلات أرشميدس ، وفي أمر المعادلة الفلانية فنقلاً عن أفلاطون ونقلاً عن كذا وكذا.. فذكروا بعض العلماء الذين نقلوا عنهم بعض أجزاء الكتاب وبقية الكتاب هو من تأليفهم، وكان من الممكن أن ينسبوا كل ما في الكتاب إليهم؛ لأن الله عز وجل ينظر.
إذاً: العالم المتقي لله عز وجل عنده أمانة علمية، ولا يضيره أبداً أن يذكر أنه أخذ من هذا وذاك.
الصفة الثامنة: صفة العزة، أن يكون العالم عزيزاً، لا يطلب ما في أيدي الناس ولا ما في يد السلطان، رافعاً رأسه، فخوراً بعلمه، لا يطلب من دنيا الناس شيئاً.
كان سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي يقول لـأبي حازم : هل لك أن تصحبنا؟ وأبو حازم من كبار التابعين ومن علمائهم، والناس تفخر بصحبته، حتى إن خليفة المسلمين يريد أن يصحبه، فلو أن خليفة المسلمين يقول له: أريدك أن تكون صاحباً لي، أو هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ يعني: سآخذ منك علماً، فـأبو حازم لا يمانع من هذا، ولكن ماذا سيصيب من الوالي؟ سيصيب منه مال ووجاهة ووضعاً اجتماعياً وقصراً وذهباً.
قوله: فتصيب منا، هذا فيه إغراء، فهو يغريه: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ ويشجعه بقوله: ونصيب منك، يعني: أنا سآخذ منك علماً، ويا ليت أن حكامنا يكونون بهذه الصورة، يعني: أتمنى أن يقول الحاكم للعالم: تعال وكن بجانبي خذ المال وآخذ من علمك، نتمنى.
قال العالم أبو حازم : أعوذ بالله لو أنه قالها في زماننا لاختفى اختفاء أبدياً، ويصبح بدل العالم: الشهيد فلان، قال: أعوذ بالله، قال له سليمان : ولم ذاك؟ قال: أخشى أن أركن شيئاً قليلاً، فيذيقني الله عز وجل ضعف الحياة وضعف الممات.
هذا الكلام هو خطاب في القرآن الكريم لرسولنا صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول: إنه من باب أولى إن ركنت شيئاً قليلاً أذاقني الله عز وجل ضعف الحياة وضعف الممات، فقال له سليمان : إذاً ارفع إلينا حوائجك. فـسليمان بن عبد الملك يتودد له بقوله: ارفع لنا حوائجك، قال: حاجتي أن تنجيني من النار وتدخلني الجنة، هل تستطيعها؟ قال: ليس ذلك إلي، لا أستطيع، فقال: فما لي إليك حاجة غيرها. يعني: هذه حاجتي في الدنيا، وأنا أعيش حياتي كلها من أجل أن أدخل الجنة وأنجو من النار، ومادامت ليست عندك، فلا أستطيع مصاحبتك ولا أرفع حوائجي إليك، وليس لي علاقة بك، ولن أكون من علماء السلطان، لكن إن سألتني عن علم وأنا في مكاني رددت عليك. هكذا كان العلماء رحمهم الله جميعاً في عزة، كانوا إذا أرسل إليهم السلطان: أن ائتوني حتى أسألكم عن أمر من العلوم، قالوا: العلم يؤتى ولا يأتي، فيأتي السلطان إلى العالم في مجلس العلم من أجل أن يسأله، وما أكثر الروايات عن هذا الأمر، ولكن المقام لا يتسع لذكر ذلك.
الصفة التاسعة قبل الأخيرة: التواضع، لابد أن تأتي بعد العزة، وليس معنى العزة أن يكون الشخص متكبراً، وليس معنى العزة أنه ينتفخ أمام الناس بعلمه، ويظن أنه قد حصل ذلك من تلقاء نفسه: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]، هذا قول رب العالمين سبحانه وتعالى في وصفه لحال العلماء الأتقياء، يؤتى المرء العلم بعد التقوى، اتقيت الله عز وجل علمك الله عز وجل، أما الفساق والمتكبرون من أبناء هذه الأمة أو من غيرها فيدعون أن العلم جاء عن جهدهم، كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن قارون : قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، فتكبر بعلمه، فانظروا إلى عاقبته.
والمتواضع لله عز وجل يصل علمه إلى الناس، ويكون علمه أنفع للبشرية وللخلق، وأهم من ذلك كله أنه أنفع وأصلح له هو في آخرته، فإن من مصلحة العالم المتواضع أن يكون من المتواضعين؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي جاء في البخاري ومسلم : (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) هذا شيء خطير.
الصفة العاشرة والأخيرة وبها نختم حتى لا نطيل عليكم إطالة كبيرة: الأخذ عن الغير، وهذه الصفة منبثقة عن التي قبلها التي هي صفة التواضع، لابد أن تتواضع لغيرك، ولابد أن تأخذ عن غيرك، ولابد أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولابد أن تعترف لأهل الفضل بفضلهم، وأهل العلم بعلمهم، ولابد أن تشترك مع الآخرين في البحث، فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يطرح القضية والمسألة الفقهية بين تلامذته مع علمه العظيم ومع فقهه الدقيق، وانظروا إلى كلمة الشافعي في حق أبي حنيفة رحمهما الله جميعاً، يقول: الناس جميعاً في الفقه عيال على أبي حنيفة . يعني: كان أبو حنيفة أعلمهم جميعاً في الفقه رحمه الله، ومع ذلك يطرح المسألة بين طلبة العلم من تلامذته فيتناقشون فيها جميعاً، فيدلي كل منهم برأيه وبحجته، ويدلي هو الآخر بحجته، ويتناقشون حتى يخرجوا في النهاية برأي، فهم درسوا القضية من كل الجوانب كفريق، وعقل أبي حنيفة أو غيره من العلماء محدود، فعندما يطرح القضية للتناقش ويشترك مع غيره فيها تخرج أفكار من عقول شتى من هنا وهنا، فيستفيد وتستفيد الأمة، بل وتستفيد البشرية جمعاء.
وحتى في أمور الحياة أيضاً فأولاد موسى بن شاكر الذين تكلمنا عنهم منذ قليل رحمهم الله كانوا في علم الهندسة والميكانيكا يعملون في فريق واحد، من أروع الفرق العلمية المعروفة في التاريخ، بل لعلنا نقول ولا نجازف بهذه المقولة ولا نبالغ فيها: إنهم أول فريق علمي في العالم حقيقة، فهم كتبوا بصيغة الجماعة، فقد كانوا يقولون: فعلنا كذا وجربنا كذا وقمنا بعمل كذا وكتبنا كذا وألفنا كذا يعني: الثلاثة مع بعض، وكل واحد متخصص في مجال، ولكن الثلاثة اجتمعوا جميعاً واخترعوا جهازاً مفيداً ونافعاً للمسلمين لري الأرض، واخترعوا أجهزة لرفع الماء إلى أعلى الجبال والقلاع العالية. فكل العلوم المفيدة تحتاج إلى أكثر من عقل إلى أكثر من تخصص، فهذا التمازج بين العلماء أدى إلى هذه النتائج الرائعة عندهم، وهذا الأمر لا يكون إلا من عالم متواضع يقبل أن يأخذ عن غيره، لذلك أتينا بهذه الصفة بعد صفة التواضع هذه الصفة العاشرة، فتلك عشر كاملة.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا متصفين بها جميعاً وبغيرها من صفات الإسلام الحميدة، ومن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم الرائعة التي جاءت في سنته وسيرته وحياته.
وأسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعز الإسلام والمسلمين.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر