إسلام ويب

سلسلة كن صحابياً الصحابة والجنةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجنة هي النعيم الذي لا ينفذ، وهي التي دندن حولها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أجمعون، فاشتاقت نفوسهم إلى هذا النعيم الدائم، وتفاعلوا معها أعظم التفاعل، فضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك، فقدموا أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل الوصول إلى ذلك.

    1.   

    الجنة والخلود فيها مطلب كل مسلم

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان.

    الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فحديثنا في هذه المحاضرة الثامنة من محاضرات: كن صحابياً، عن موضوع في غاية الأهمية في حياة كل مسلم.

    وقد تحدثنا في المحاضرة السابقة عن الصحابة والدنيا، وحديثنا في هذه المحاضرة سيكون عن الصحابة والآخرة، عن الصحابة والجنة.

    في الحقيقة هذه نقطة محورية فعلاً في بناء الفرد المسلم والمجتمع المسلم، والأمة الإسلامية بكاملها.

    فيا ترى كيف فهم الصحابة حقيقة الجنة؟ وكيف كان تعاملهم مع حقيقة الجنة؟

    عندما تدرس حياة الصحابة ستجد أن تفاعل الصحابة مع قضية الجنة مختلف جداً عن تفاعل معظم اللاحقين بعد ذلك، وأنا أعتقد أن هذا الاختلاف كان سبباً رئيساً من الأسباب التي أدت إلى أن جيل الصحابة وصل إلى هذه الدرجة السامية الرفيعة من الأخلاق، ومن الاعتقاد في الله عز وجل، ومن العمل في سبيل الله عز وجل، لذا كانت الجنة نقطة محورية في حياة كل الصحابة، لكن قد تجد أناساً كثيرين الآن من الذين لديهم علم كبير جداً من العلماء الأفاضل، ومن كبار الدعاة عندما يأتي ويتكلم عن الجنة تحس أنه يتكلم على شيء نظري، ولا تشعر في كلماته بالأحاسيس التي كان يشعر بها فالصحابي، فالصحابي حتى وإن كان بسيطاً في علمه، أو قليلاً في معلوماته، لكن عندما يعرف معلومة واحدة عن الجنة فإنها تبقى معه إلى أن يموت، حتى لو كان أعرابياً بسيطاً، وحتى لو كانت لغته ضعيفة مقارنة بكبار الصحابة، لكن كانوا يتأثرون بالجنة تأثراً قوياً جداً، وأنا أشعر أن هذا فارق جوهري؛ لذلك أتمنى أن يركز كل سامع لهذه المحاضرة مع هذه المعاني، وأن يعيش فيها معايشة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

    وأنا أعتقد أنه عندما تصبح الآخرة في أعيننا كما هي في أعين الصحابة ستتغير -ولا شك- مناهجنا في الحياة، وسنفكر بطريقة أخرى، وسنرتب أولوياتنا بطريقة أخرى، وسنسعد بطريقة مختلفة، وعلى أشياء ليست كالأشياء التي نسعد لها الآن، وسنحزن أيضاً بطريقة مختلفة، وعلى أشياء ليست كالتي نحزن عليها الآن.

    فيا تُرى من منا يحزن الحزن الذي يقعده في الفراش عندما تفوته تكبيرة الإحرام مثلاً كما كان يحدث مع بعض الصحابة؟

    ويا تُرى كم فينا من يحزن على فوات قيام الليل؟ أو على فوات صلاة الفجر الذي هو أصلاً فرض من الفروض؟

    وكم واحداً لو فاتته صلاة الفجر واستيقظ وقد طلعت الشمس يبقى حزيناً طوال اليوم؛ لأنه فاتته صلاة مفروضة كان عليه أن يصليها في وقتها؟!

    ويا تُرى كم فينا من يحزن على أن أحد أصحابه بعيد عن الله تعالى، وأن ربنا لم يهده بعد، وهو يحبه حباً شديداً ويراه على ضلالته، ويراه بعيداً عن الطريق، فهل سيحزن عليه حزناً حقيقياً أم أن الأمر لا يهمه؟ مثلما أن الناس يسيرون في الشارع يعبدون الله أو لا يعبدونه لا فرق عندنا!

    ويا تُرى من منا يحزن أن فاتته معركة في سبيل الله، أو جهاد في سبيل الله؟ الناس الذين يأتيهم إعفاء من الجيش هذه الأيام يفرحون بينما الصحابة الذين يفوتهم الجهاد في سبيل الله يحزنون على ذلك.

    وكم واحد منا حزين على فلسطين وعلى العراق وعلى كشمير وعلى الشيشان وعلى الصومال وعلى السودان وعلى غيرها من البلدان؟

    إننا لو فهمنا ما معنى الجنة وما معنى النار مثلما فهم ذلك الصحابة؛ فإن كل شيء في حياتنا سيتغير تغييراً شاملاً، بل وكاملاً لمنظومة الحياة بكاملها.

    وتعالوا لنرى كيف كان تفكير الصحابة في الجنة؟ وكيف كانوا من أهل الجنة وهم ما زالوا على وجه الأرض؟

    اشتياق ربيعة بن كعب الأسلمي للجنة

    فهذا ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه، له موقف يهزني فعلاً من الأعماق، حتى ولو تكررت قراءتي له فإنني سأقف مذهولاً أمام هذا العملاق ربيعة بن كعب رضي الله عنه وأرضاه، مع أن كثيراً منا ربما لا يسمع عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه.

    ربيعة بن كعب هو: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاب صغير جداً، فعمره دون العشرين، وهو من أهل الصفة، وخبرته في الحياة قصيرة، ليس أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ، ولا أي واحد من الكبار الذين نسمع عنهم، وإنما هو من عوام الصحابة.

    وعلاوة على أنه صغير في السن، فهو من أهل الصفة، يعني: من الناس الفقراء جداً الذين ليس لهم بيوت، وإنما قد اتخذوا المسجد بيتاً، فيصرف عليهم أهل الخير في المدينة المنورة، وأيضاً ليس بمتزوج، بل إنه معدم لا يجد ما يسد رمقه في كل يوم، فلو كان أحدنا مكان ربيعة بن كعب ماذا كان سيتمنى؟

    تخيل كم من الأحلام والآمال والأمنيات التي من الممكن أن تكون عند هذا الإنسان، لكن قبل ذلك اسمع معي هذه القصة التي وردت في صحيح مسلم وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله جميعاً، يقول ربيعة بن كعب رضي الله عنه: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع -طوال النهار هو شغال في خدمة النبي عليه الصلاة والسلام- حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة -أي: صلاة العشاء- فأجلس ببابه إذا دخل بيته)، فالرسول بعد صلاة العشاء يذهب إلى بيته؛ لأن الحركة في المدينة المنورة تنتهي بعد العشاء بالنوم، لأجل يبتدئوا يومهم قبل الفجر بقيام الليل، ثم صلاة الفجر ويبتدئ اليوم بصورة طبيعية، ثم قال رضي الله عنه: (لعلها أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة)، وانظر إلى أي درجة وصل التفاني في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال ربيعة : فما أزال أسمعه يقول: سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله وبحمده، وفي رواية: الحمد لله رب العالمين، يعني: طيلة جلوسه وهو في ذكر صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة : حتى أمل؛ فأرجع، أو تغلبني عيني فأرقد، إما أن أمل من طول القيام وأذهب إلى المسجد للنوم، أو أبقى في مكاني وأنام على باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول المقام.

    فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما رأى ربيعة وهو ذاهب وآت في خدمته، قال ربيعة : فقال لي يوماً -لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه-: يا ربيعة ! سلني أعطك، أي: اطلب يا ربيعة ! تمن يا ربيعة ! قل ماذا تريد؟

    وتخيل نفسك مكان ربيعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس المدينة المنورة ورئيس الدولة يقول لك: اطلب يا فلان! والذي تريده أنا سأحاول أن أوفره لك، سل يا فلان أعطك.

    ثم انظر إلى فقره وحاجته الشديدة؛ لا يجد ما يأكل أو يشرب أو يلبس أو يتزوج، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له -وهو رئيس الدولة بالمدينة المنورة-: اطلب يا ربيعة ! ولنتأمل ربيعة بن كعب رضي الله عنه وأرضاه على هذا العرض المغري من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة : فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله! ثم أعلمك ذلك، يعني: أعطني فرصة لأفكر، يقول ربيعة : ففكرت في نفسي فعرفت.

    وانتبه هنا وضع في ذهنك الخلفية التي صورتها لك لحالة ربيعة بن كعب الأسلمي من ناحية الإمكانيات المادية، ومن ناحية الوضع الاجتماعي في المدينة المنورة، يقول: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وتذكرون المحاضرة التي سبقت: الصحابة والدنيا، وانظر إلى هذا الشاب الصغير كيف أنه فاهم لحقيقة هذه الدنيا جيداً، يقول: فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، أي: إن الله لن يتركني وسيكفيني ويأويني، يقول ربيعة : فقلت: أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، إذا كانت الدنيا ستأتيني هكذا أو هكذا، والله قد كتب لي فيها شيئاً ما، فلماذا أسأله الدنيا؟ فتأمل ما مقدار ما يفكرون به، يقول: لو أن الله كتب لي رزق فسيأتيني، أو زوجة فستأتيني، أو بيتاً فسيأتيني، إذاً فلماذا لا أسأله عن الحاجات الصعبة على كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة، ألا وهي الجنة.

    قال: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي؛ فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به، أي: هو رسول الله الذي إذا سأل الله تعالى استجاب له، ثم قال: فجئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعلت يا ربيعة ! أي: هل فكرت في الطلب الذي تريده؟ يقول ربيعة : فقلت: نعم يا رسول الله! فقال: سل يا ربيعة ! فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فانظر إلى أي حد عرف كيف يستغل الفرصة، ولم يقل: فقط أريد الجنة، أو أريد الفردوس الأعلى في الجنة، لا، وإنما: (أسألك مرافقتك في الجنة)، فانبهر الرسول عليه الصلاة والسلام من هذه الكلمة التي قالها ربيعة الأسلمي ، كلمة تدل على العلم والفقه والتقوى والورع العظيم الذي عنده وهو ما دون العشرين! ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما به من الفقر والحاجة فقال له: أو غير ذلك، أي: ندعو الله أن يدخلك الجنة ويرفع درجتك، وتكون مرافقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فهل تريد شيئاً آخر؟ فقال ربيعة بمنتهى اليقين: هو ذاك، أي: لا يريد شيئاً غيره، ولا يريد مع الجنة شيئاً آخر، فتعجب النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك وقال له: يا ربيعة ! من أمرك بهذا، من علمك هذا الكلام، هل جلست مع أبي بكر أو مع عمر أو مع طلحة أو الزبير ، فقال: لا والله الذي بعثك بالحق، ما أمرني به أحد، أي: أنا هكذا من نفسي، ولكنك لما قلت: سلني أعطك! وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به؛ نظرت في أمري، وعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، يقول ربيعة : فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، أي: جلس يفكر كثيراً في المعاني العميقة التي قالها ربيعة رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال لي: إني فاعل، فهنيئاً لك يا ربيعة ! فالرسول عليه الصلاة والسلام سيدعو لك أن تكون من مرافقيه في الجنة، لكن لا بد من أن يقدم ربيعة شيئاً، لا بد من عدم الاتكال على هذه الدعوة، وانظر إلى التعليم النبوي ماذا قال عليه الصلاة والسلام: (إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود)، أي: كثرة الصلاة لله عز وجل فرضاً ونفلاً، هكذا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتهد ويجد ويتعب إذا أراد أن يدخل الجنة، أو إذا أراد أن يرافق الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة.

    وتعالوا لنقف وقفة على هذه القصة، وتعالوا لنفكر مع بعض، فنقول: هل إذا طلب ربيعة مالاً أو بيتاً أو زوجة أو طعاماً أهذا حرام؟ هل لو سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة والمرافقة في أعلى الدرجات والشفاعة والعتق من النار، ثم سأل إلى جوار ذلك جزءًا من الدنيا الحلال هل هذا خطأ؟ أبداً، فهذا ليس خطأ، لكن ربيعة لا يتكلف في طلبه، يعني: أن ربيعة قد ملأت عليه الجنة حياته بكاملها، فما عاد يفكر إلا فيها.

    وهذا مثلما تقول لشخص: ماذا تطلب؟ يقول: أريد مليون جنيه أو مليون دولار، ثم تقول له: هل تريد شيئاً آخر؟ يقول: نعم، أريد أيضاً خمسة جنيهات! ماذا تفعل لك الخمسة جنيهات بجانب المليون دولار التي أخذتها؟ لا شيء، فـربيعة كانت عنده نفس الفكرة، فلو أنا أخذت الجنة، فهل من فرق إذا أنا سآخذ بيتاً أو زوجة أو سيارة أو جملاً؟ لا، لأن منتهى آمال حياته أنه يدخل الجنة، ولم يعد يفكر في أي شيء آخر، ولا يتكلف في طلبه، فهو مشغول بأمر الجنة فقط.

    وعروض أخرى يعرضا النبي صلى الله عليه وسلم على ربيعة ، ومنها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام يعرض عليه عدة مرات ليتزوج وهو لا يريد شيئاً من ذلك، بل كان كل همه أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعيش حياته كلها في خدمة الله عز وجل وفي خدمة رسوله عليه الصلاة والسلام وفي خدمة هذا الدين.

    فمن منا يعرف هذا الصحابي؟ ومن منا يعرف حياته؟ إنه أحد قدوات الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

    اشتياق عمير بن الحمام للجنة

    وموقف آخر لصحابي آخر: عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه، وكلنا نعرف ذلك الموقف، وكلنا قد سمعنا به كثيراً، إنه موقف في منتهى الجمال والروعة:

    روى مسلم وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم بدر وهو يشجع الصحابة على القتال في سبيل الله، قال لهم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، كلمات قد سمعناها مراراً، وسمعنا أيضاً الآية الكريمة مرات عديدة: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، لكن -سبحان الله!- عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه سمع هذه الكلمات وتدبرها جيداً، وجلس يفكر: جنة عرضها السماوات والأرض!!

    إنه شيء عظيم جداً، وكأنه أول مرة يسمع هذه الآية! فقال: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض، ما هذه العظمة!؟ رأى السماء والنجوم وتباعدها عن بعضها وعن الأرض، الجنة عرض السماوات والأرض، وكل الذي نراه من السماء هو سماء الدنيا فقط، وهناك أيضاً سبع سماوات أخرى!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال عمير : بخٍ بخٍ! كلمة تقال للتعظيم، يعني: معقول أنها بهذا الحجم، فالرسول خاف ألا يصدق ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على قول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله! أنا مصدق، لكن رجاء أن أكون من أهلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى الصدق في عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه: فإنك من أهلها، وتأمل إلى عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه فقد أخذ ما أراد، فهو طوال عمره يعيش لأجل هذا الأمر، لأجل أن يدخل الجنة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: فإنك من أهلها، وهل هناك أحد سيدخل الجنة في الدنيا؟! لا، لابد من الموت، فهو عرف أن الفارق بينه وبين الجنة أن يموت، وبينما هو واقف بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنس بن مالك رضي الله عنه راوي الحديث: فأخرج عمير تمرات من قرنه، أي: من الكيس الذي يوضع على الظهر وفيه الزاد، فكان رضي الله عنه واقفاً طوال اليوم ولا يوجد لديه أكل، فأخذ من كيسه بعض التمر ليأكلها، قال: فجعل يأكل منهن أي: من التمر، ثم إن عمير بن الحمام رضي الله عنه عمل عملاً غريباً جداً، فأخذ التمرات ورمى بهن، ثم قال: (لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة)، أي: هل سأنتظر دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث حتى آكل هذه التمرات وبعد ذلك أموت ثم أدخل الجنة؟ لا، فأنا مشتاق جداً إلى الجنة، ولا أستطيع أن أصبر دقيقة واحدة، فهل يا تُرى كان في فعل عمير بن الحمام تكلف.

    لا والله أبداً، فهو الآن يعيش في الجنة فعلاً، والذي يفصل بينه وبين أن يكون في الجنة حقيقة الموت، لأن الإنسان إذا مات انتقل إلى القبر، والقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، ومجرد أن يموت فإن كل النعيم الذي سيراه في الجنة سيرى منه في القبر، ثم إلى النعيم الكثير والكبير والذي لا ينقطع بعد قيامه من قبره يوم يقوم الناس لرب العالمين.

    يقول أنس : فرمى عمير بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل، أي: حتى استشهد، ونال الأمنية التي كان يتمناها، وانظر إلى بعض الناس ماذا يتمنون؟! أن الله يكتب لهم عمراً طويلاً، وأنهم يعيشون سنين وسنين، بينما عمير كان يتمنى فعلاً أن يموت، وصدق الله فصدقه الله عز وجل.

    قبول الصحابة لشروط بيعتي العقبة مقابل تبشيرهم بالجنة

    وتعالوا بنا أيضاً لنرى بيعة العقبة الأولى -وقد تكلمنا عليها بالتفصيل في دروس السيرة- يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه كما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنا عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء)، وذلك قبل أن يفرض الجهاد، لأن بيعة النساء كانت بيعة بدون جهاد، والجهاد إنما جاء في بيعة العقبة الثانية، وتعالوا لنرى الشروط التي اشترطها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبادة بن الصامت ومن معه من أصحاب بيعة العقبة الأولى، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه: (بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف).

    فهذه ستة شروط وأمور بايع النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه، وهي شروط صعبة جداً، وأريد منكم أن تتخيلوا هؤلاء المبايعين الذين دخلوا في الإسلام الآن، ويملي عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الشروط والقيود الشديدة، ومن أولها: عدم الإشراك بالله، وعدم السرقة إلى آخر ما أملاه عليهم عليه الصلاة والسلام، لكن ما هو الثمن إن وفَّوا بذلك؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم).

    فهل يا ترى تخلف أحد عن البيعة بعد هذه القيود الصعبة؟ لا، فكلهم قد بايعوا، نعم الشروط كانت صعبة لكن الثمن هو الجنة، فهذا هو المفهوم عن الجنة لدى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

    ولننظر في بيعة العقبة الثانية، فقد كانت أصعب وأصعب، فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحكي قصة بيعة العقبة الثانية كما جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فيقول رضي الله عنه وعن أبيه: (قلنا: يا رسول الله! علام نبايعك؟ قال: تبايعوني على..)، وانتبه! فالرسول صلى الله عليه وسلم يصعب عليهم الأمور أكثر وأكثر، أكثر من السنة الماضية، لأن هؤلاء هم الدعامة التي ستقوم عليها الحكومة الإسلامية بعد ذلك، ولا بد أن يكونوا فاهمين جيداً لتبعات الإيمان، ولا بد أن يفهموا بماذا سيضحون وماذا سيكسبون؟

    فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم الحقيقة بمنتهى الصراحة وبمنتهى الوضوح، قال: (تبايعوني على: السمع والطاعة)، تذكرون محاضرة: الصحابة والعمل، وتذكرون كلمة السمع والطاعة؟ حيث قالوا: (سمعنا وأطعنا)، وليس السمع والطاعة فقط، بل الأمر أصعب من ذلك: (السمع والطاعة في النشاط والكسل)، فالسمع والطاعة في النشاط ممكن، وخاصة عندما يكون الإنسان متحمساً جداً لعمل الخير، فقد تأتيه ساعات هو متحمس فيها للصلاة في المسجد، لكن عندما يكون كسلان أو مرهقاً من العمل أو غيره فإنه يؤدي صلاة الجماعة في المسجد جماعة، وهذا هو السمع والطاعة؛ لأنه أمرك بالصلاة في الجماعة في المسجد؛ فتصلي جماعة في المسجد.

    أيضاً عندك حمية للجهاد في سبيل الله وأنت في منتهى النشاط، وفي أوقات أخرى قد يحصل لك فتور، لكن هذا الفتور ليس مبرراً لعدم الطاعة، وعليه فهذا هو المؤمن الذي يقدر على حمل مسئولية الأمة الإسلامية على كتفيه. وهذا أول الشروط.

    ثانياً: (وعلى النفقة في العسر واليسر)، في اليسر ممكنة، لا، أيضاً في العسر، فإذا كنت فقيراً أو محتاجاً، وعليك كذا وكذا من الأمور، لزمك النفقة في سبيل الله.

    ثالثاً: (وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهو أمر صعب أيضاً على النفس.

    رابعاً: (وعلى أن تقولوا)، وفي رواية: (وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم)، وهذه في منتهى الصعوبة، لأن شدة المواجهة للدعاة في سبيل الله عز وجل معروفة، لكن هذا ليس مبرراً لمنع الدعوة أو لوقفها.

    خامساً: (وعلى أن تنصروني إذا قدمت يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم).

    فهذه هي الشروط الخمسة، وهي شروط في منتهى الصعوبة، ويمكن أن يقال على فكر العامة أو الجهلة: هذه شروط تعجيز، وليس من الممكن لأحد يريد أن يستقطب الناس أن يأتي بهذه الشروط الصعبة، لكن هذه هي حقيقة الإسلام، فالإسلام دين يحتاج إلى تضحية، ويحتاج إلى مجهود، ويحتاج إلى أناس تدفع ولا تأخذ، لأن بعض الناس همها أن تأخذ في الأخير، أي: أنها تريد أي شيء في الدنيا لا في الجنة.

    إذاً ما هو الثمن؟ وما جزاؤنا إذا عملنا كل هذه الشروط الصعبة وصرفنا كل حياتنا لله عز وجل؟

    يقول صلى الله عليه وسلم: (ولكم الجنة)، كلمة واحدة، فقط، فالشروط أكثر من أربعين كلمة، والثمن كلمة واحدة: (الجنة)، ثم اعلموا أننا سوف نكسب لو عرفنا قيمة الجنة، وعرفنا أن ما ندفعه هو القليل، أربعون كلمة أو مائة كلمة أو خمسة آلاف كلمة، أو خمسة آلاف شرط أو خمسة شروط لا فرق في ذلك، لأنه في الأخير عمر واحد وسينقضي بسرعة، والجزاء في الأخير هو الجنة.

    يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (فقمنا نبايعه) أي: أن الصحابة لم يترددوا عن المبايعة بسبب هذه الشروط الصعبة؛ لأنهم يعرفون الجنة، مع أنهم في مرحلة الطفولة في الإسلام، إذ لم يتعد إسلام بعضهم اليوم واليومين، والشهر والشهرين، والسنة والسنتين بالكثير، وأقدم واحد في الأنصار كان عمره في الإسلام سنتان فقط، وهو من الستة الأوائل الذين أسلموا من الخزرج قبل هذه الحادثة بسنتين.

    فتأمل إلى مقدار العمق في الفهم ووضوح الرؤية عند جيل الصحابة، لأنهم عرفوا قيمة الجنة.

    1.   

    خوف الصحابة من النار

    إن مما يلفت النظر في الصحابة التوازن في حياتهم، فقد كانوا أيضاً يتفاعلون مع النار مثل تفاعلهم مع الجنة.

    فهذا عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه عند خروجه إلى سرية مؤتة بكى رضي الله عنه وأرضاه والناس يودعونه، فلما رآه الناس وهو يبكي ظنوا أنه خائف من الموت في الجهاد، فقالوا: ما يبكيك؟ قال: أما والله ما بي حب الدنيا -لا تظنوا أني أبكي لأجل الدنيا -لا صبابة بكم-ولا اشتياق لكم- ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار، يقول الله عز وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71]، يعني: أن كل الناس ستمر فوق الصراط على النار، ثم يقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه: فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ يعني: أن الله سبحانه وتعالى قال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، أي: ما يضمن لي أن أطلع منها، وأن أنجو منها والكل سيمر من فوقها.

    لماذا تذكَّر هذه الآية الآن؟ لأنه ذاهب إلى الجهاد، ومن المحتمل أن يموت، وفعلاً فقد استشهد في سبيل الله في سرية مؤتة رضي الله عنه وأرضاه، فهو رضي الله عنه كان معايشاً للجنة والنار، فقد كان مشتاقاً إلى الجنة، وخائفاً من النار كأنه من أهل المعاصي، أو أهل النفاق أو أهل الشرك، مع أنه من أعظم الصحابة رضي الله عنه وأرضاه.

    ونحن لا بد لنا من الوقوف مع أنفسنا ونسألها: لماذا لا نتفاعل مع الجنة والنار كتفاعل الصحابة؟ نعم نحب الجنة ونخاف من النار، لكن هل قضية الجنة والنار تملأ علينا حياتنا كما كانت تملأ حياة الصحابة؟ هل نعايشها المعايشة التي كان يعايشها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل فعلاً نحن على هذه الحال التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؟ لماذا لا نعيش ما عاشه الصحابة؟

    جلست أفكر في هذه القضية فقلت لنفسي: لعلنا لا نعرف الجنة التي عرفها الصحابة، يعني: ربما قد تكون مسألة نقص في المعلومات عن الجنة، لذا كان من المؤكد أن الذي يعرف تفصيلات الجنة سيشتاق إليها بصورة أكبر من الذي يعرفها إجمالاً، فيعرف أن الجنة شيء جميل، أو أن النار شيء صعب وخطير وغيرها من المعلومات إجمالاً، لكن الذي يعرف التفاصيل أكيد سيحس أكثر بالمعاني العظيمة عن الجنة.

    1.   

    حال آخر أهل الجنة دخولاً الجنة

    وتعال لنسمع عن الجنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا قد احترت ماذا أقول من أحاديث الجنة؟ وعن ماذا أكلمكم؟ مئات من الأحاديث قد جاءت في وصف الجنة، ثم بعد تفكير قررت أن أذكر لكم أقل واحد في الجنة، ماذا سيكون نصيبه؟ وكل أهل الجنة بعد ذلك سيكونون أكثر منه، وتخيلوا معي ذلك.

    روى الإمام مسلم رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يصف حال آخر أهل الجنة دخولاً الجنة-: (آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة)، أي: وهو خارج من النار يمشي قليلاً ويقع قليلاً، والنار تسفعه قليلاً، (فإذا ما جاوزها التفت إليها)، فهو خرج من النار إلى مكان بين الجنة والنار، فلما نجا من النار نظر إلى هيئتها، قال: (تبارك الذي نجاني منك)، ثم يقول كلمة غريبة جداً: (لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين)، يظن أن النجاة من النار والوقوف في هذا المكان بين الجنة والنار أعظم نعمة على كل الخلق، ولا يعرف أن في الجنة قبله أناساً يعيشون في الجنة من سنين طويلة يتنعمون في نعيم الجنة: (يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فترفع له شجرة -يرى من بعيد شجرة- فيقول: أي رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم! لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب! ويعاهده ألا يسأله غيرها)، هو الآن نجا من النار، ورأى شجرة رفعت له من بعيد، فيريد أن يجلس في ظلها، ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه)، فهو رأى شجرة في منتهى الجمال.

    قال صلى الله عليه وسلم: (فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها)، ويجلس على هذه الحال فترة، ثم ماذا؟ (ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى؛ فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها)، وكان قال قبل قليل: لن أسأل مرة أخرى، لكن ابن آدم دائماً يريد الأكثر، فيقول الله عز وجل: (يا ابن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها!)، وكل لحظة تطلب جديداً، (فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة)، أصبح الآن قريباً من الجنة، (ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين؛ فيقول: أي رب! أدنني من هذه؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها لا أسألك غيرها؛ فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب! هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها)، الآن أصبح قريباً من الشجرة الثالثة التي على باب الجنة، (فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة)، أي: أنه قد قرب من الجنة جداً، فسمع النعيم والسرور فيها، فيشتاق لهذا النعيم والسرور، فيطلب من ربه أن يدخله الجنة، يقول: (أي رب! أدخلنيها؛ فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم! ما يصريني منك؟)، أي: ما الذي يقطع مسألتك عني؟ والصري هو: القطع، والمعنى: متى تكف عن السؤال؟ وكلما تأخذ شيئاً تطلب آخر!

    ثم يقول الله عز وجل: (أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها)، أي: ليس الدنيا فقط، بل ضعفها، الدنيا ومثلها معها! هذه الدنيا التي تكلمنا عنها في الدرس الماضي، هذه الدنيا الضخمة والواسعة بما فيها من أموال وأراض وغيرها سيأخذ هذا كله، ومثلها معها.

    فالرجل الآن نجا من النار، ومن شجرة إلى شجرة، ويريد فقط أن يدخل الجنة، لكن لم يصدق ما هو فيه، فيقول: (أتستهزئ مني وأنت رب العالمين!)، فضحك ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه راوي الحديث ثم قال للناس الجالسين حوله: ألا تسألوني مم أضحك؟! فقالوا: مم تضحك؟!

    قال: (هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين، فيقول الله عز وجل: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر)، سبحانه وتعالى!

    وهناك زيادة لهذا الرجل، ففي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة! فيقول: أي رب! وكيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم)، أي: أنه يرى أن الجنة ملأى، ويرى أن كل مكان في الجنة مشغول، ويرى أن الناس قد دخلوا الجنة من سنين، وكل واحد قد أخذ مكانه، أما أنا فماذا سيبقى لي؟ (فيقال له: أترضى أن يكون لك ملك ملك من ملوك الدنيا؟)، وتخيل أعظم ملك في الأرض تسمع عنه، فالرجل كان خائفاً عند دخوله الجنة ألا يجد له مكاناً، فالله لم يقل له: لك قصر أو فلة أو بيت، بل قال: (أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب! فيقول له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله -خمس مرات- فيقول في الخامسة: رضيت رب!)، أي: أنه يقاطع ربنا سبحانه وتعالى فيقول: رضيت بذلك يا رب! ماذا سأفعل بهذا كله؟ فيقول له: (هذا لك وعشرة أمثاله)، عمن نتكلم؟ عن الصديق عن عمر عن عثمان ؟ لا، نحن نتكلم عن آخر واحد يدخل الجنة عن أدنى أهل الجنة منزلة، فيقول: (هذا لك وعشرة أمثاله)، وليس هذا فقط، بل يقول: (ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب!)، فسيدنا موسى عليه السلام متعجب من ذلك، فهو الذي سأل ربه: (ما أدنى أهل الجنة منزلة)، وهذا الحديث كما ذكرنا في صحيح مسلم ، وليس من الإسرائيليات.

    1.   

    وصف نعيم أعلى أهل الجنة منزلة وقدر سعة الجنة

    ثم سأل موسى عليه السلام فقال: (فأعلاهم منزلة؟!)، أي: إذا كان هذا أقل واحد فكيف أعلاهم منزلة؟ (قال: أولئك الذين أردت. غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، قال صلى الله عليه وسلم: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]).

    وسأذكر لكم شيئاً غريباً جداً -وفكروا فيه- ألا وهو: لا تتعجبوا لو كان نصيب واحد منا في الجنة مقدار مجموعة شمسية مثلاً، فمجرة درب التبانة فيها أربعمائة ألف مليون مجموعة شمسية مثل مجموعتنا هذه، وتذكرون هذا الكلام وقد مر معنا في محاضرة سابقة، وإذا كان في الكون مائتا ألف مليون مجرة مثل مجرة درب التبانة، وهذا الرقم اكتشف حالياً، وكلما تصنع تلسكوبات أكبر كلما سنجد أكثر وأكثر وأكثر، يعني: أن عدد المجموعات الشمسية في الكون التي عرفناها إلى الآن كم؟ اضرب هذا في هذا ينتج: ثمانين ألف ألف ألف ألف ألف مليون مجموعة!!! ثمانية وأمامها اثنين وعشرين صفراً، رقم في حياتنا لم نسمع من قبل ولن نسمع به، وهو بلا شك يفوق أعداد البشر كلهم، فلو أن كل أهل الأرض دخلوا الجنة سيكون رقمهم أقل من ثمانية وأمامها اثنان وعشرون صفراً.

    وكل هذا زينة السماء الدنيا، وكل هذا تحت السماء الدنيا، ولم نصل بعد إلى السماء، ولا أحد يفكر أن يصل إلى السماء، بل العلماء لا يفكرون إلا في بلوغ مجرات تلو مجرات، وكل هذا تحت السماء.

    لكن نحن نقول: سبع سماوات، ثم نقول بعد ذلك: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، جنة عرضها السماوات والأرض، يعني: أن كل الذي تكلمنا عنه جزء من جزء من جزء من جزء من الجنة، إذاً فليس غريباً لو كان للواحد منا ملك كالمجموعة الشمسية، وهذا لتعرف ما معنى: عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، ولأجل أن تعرف لماذا عمير بن الحمام رضي الله عنه لم يصبر على أكل التمرات؟ فهو لم يصبر عن ملك مثل المجموعة الشمسية عشرات المرات، وهو من المجاهدين وليس آخر من يدخل الجنة، ولا من عوام أهل الجنة، وإنما من السابقين السابقين، من أهل الجهاد، من الناس الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله.

    وأريد منكم أن تتخيلوا حجم الجنة: جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، فهذا العرض بينما لم يأت حديث يصرح بطول الجنة وكم مقداره، لكن هناك أحاديث يمكن أن يفهم منها -ولو تخيلاً- طول الجنة.

    روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)، وتخيل المسافة بين الأرض وبين أبعد كوكب في أبعد مجرة في الكون، لا شك أنها أقل حتماً من المسافة بين السماء والأرض، ولم نصل بعد إلى السماء، وأريدك أن تتخيل كم سنة ضوئية؟ كم ألف ألف ألف مليون سنة ضوئية؟ وتخيل أن الدرجة الواحدة في الجنة من نصيب المجاهدين كما بين السماء والأرض، وعندك مائة درجة للمجاهدين في سبيل الله وحدهم، فكم حجم الجنة كلها؟ وكم الطول؟ وكم العرض؟ فهذه هي الجنة.

    روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة)، الناس الذين يبحثون عن شقة ولم يجدوها، ويبحثون عن غرفتين وصالة، وثلاث غرف وصالة، وأربع غرف وصالة، وأقصاها كيلو في كيلو، وما أحد قد دخل في بيت بهذا الحجم والسعة، لكن تخيل معي الجنة: (إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة -مقدار هذا البيت- عرضها ستون ميلاً)، يعني: حوالي مائة كيلو، من القاهرة إلى الفيوم تقريباً، فهذه شقة واحدة في الجنة، وممكن يكون عندك أكثر من واحدة، وفي كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن، فهذا بيتك في الجنة: لؤلؤة وقصر وفلة؛ فهذه هي الجنة.

    وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها)، أي: في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد وليس أي جواد، بل المضمر، يعني: المجهز للجري السريع، فيستمر هذا الفارس على هذا الجواد في الجري مائة سنة ما يقطع ظل الشجرة، فإذا كان هذا نعيم الجنة فلماذا نتقاتل على هذه الدنيا؟ ولماذا نجعل كل همنا في الدنيا؟ وهل رأيتم المستوى الذي نتكلم عنه؟ وكم مقدار المساحات في الجنة؟ وكم مقدار النعيم فيها؟ وكم مقدار رحمة ربنا سبحانه وتعالى بعباده على أعمال بسيطة لا تساوي شيئاً أبداً في ميزان الله جل وعلا يوم القيامة؟ كل هذا ماذا يساوي من عشر عشر عشر نصيبك في الجنة؟ فهذه رحمة من ربنا سبحانه وتعالى مهما عملت، حتى -والله- لو دفعت الروح والنفس والمال والجهد والوقت هل ستؤدي حجم هذا النعيم الذي ستأخذه في الجنة؟

    وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -أي: ما بين الجنة والأرض، أو ما بين السماء والأرض- ولملأت ما بينهما ريحاً -أي: ريحاً طيبة- ولنصيفها -يعني: الطرحة التي على رأسها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها)، فيمكن أن يكون لك من النساء واحدة واثنتان وثلاث وعشر وعشرون واثنتان وسبعون لو أنك من الشهداء في سبيل الله.

    فهذا هو السبب في اشتياق الصحابة إلى الشهادة، فهم قد تركوا الدنيا بكل مشاكلها، واشتاقوا للذهاب إلى الجنة بما فيها من النعيم العظيم.

    1.   

    وصف النار وبيان حال أقل أهلها عذاباً

    ولا بد للإنسان من التفكير في البديل عن الجنة إذا لم يدخلها، وإلى أين سيذهب؟ البديل عن الجنة النار، وليس هناك بدائل أخرى، كما قال صلى الله عليه وسلم في أول يوم أعلن للناس فيه دعوته: (والله! لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبداً، أو النار أبداً)، واحدة من الاثنتين، إما الجنة وإما النار، فيا ترى كيف النار؟ ويا ترى ما مقدار عذاب أقل واحد في النار؟

    روى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة -أو قال في رواية: جمرتان- يغلي منها -أو منهما- دماغه)، أي: توضع جمرة تحت الرجل يغلي منها الدماغ، وبعض الأحاديث الأخرى قد صرحت أن هذا الرجل هو أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أقل واحد، فما بالك بمن في الدركة الوسطى والدركات التي بعد هذا، والدركات الدنيا، شيء مهول وعظيم جداً.

    وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، أي: هذه النار التي نراها في الدنيا جزء من سبعين جزءاً، فقال الصحابة: (يا رسول الله! إن كانت لكافية)، يعني: لو كان العذاب بنار الدنيا لكان كافياً.

    فقال صلى الله عليه وسلم: (فضلت عليهن -أي: على نيران الدنيا-)، وفي رواية: (فضلت عليها -أي على نار الدنيا- بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)، فمن هنا نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه الذي قال فيه: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة)، وفي رواية ابن ماجه : (غمسة)، يعني يؤتى بملك ظالم، أو سلطان متكبر، أو حاكم جبار، أو واحد كان عنده نعيم كبير جداً في الدنيا، لكنه من أهل النار، ثم يقال (يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط)، أنت أكثر شخص كنت متنعماً في الدنيا، (هل رأيت خيراً قط، هل مر بك نعيم قط، فيقول: لا والله يا رب!)، ضاعت متعة المال، ومتعة الملك، ومتعة النساء، ومتعة السلطة، وذهب كله بغمسة واحدة في النار، بغمسة واحدة في هذا الجحيم.

    1.   

    نعيم الجنة ينسي كل بؤس مر بالمؤمن في حياته

    قال صلى الله عليه وسلم: (ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة)، أي: بفقير، معدم، معذب، مظلوم، مبتلى، مريض، محروم، مصاب في ماله وأهله وولده وعمله ووطنه، وفي كل شيء، فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: (يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط، هل مرت بك شدة قط؛ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)، فنسى البؤس والشقاء كله عند أول غمسة في الجنة.

    فلماذا لا نشتغل للجنة؟ ولماذا لا نخاف من النار؟

    إننا عندما نعرف حجم الجنة وحجم النار، وقيمة الجنة وخطورة النار؛ سنعرف لماذا حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه -الصحابي الجليل- قال هذه الكلمة العجيبة التي وقفت أفكر فيها كثيراً، كلمة في منتهى الغرابة، ففي البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما طعن حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه يوم بئر معونة)، وفي رواية: (حتى أنفذه بالرمح)، يعني: أن الرمح اخترق الظهر وخرج من الصدر، قال: (الله أكبر! فزت ورب الكعبة)، فهل نفهم من هذا شيئاً؟ وأي فوز فازه هذا الصحابي الجليل؟! لقد فقد حياته في عرف الناس، لكنه فاز بالجنة التي تحدثنا عنها آنفاً، فاز بالنجاة من النار التي تحدثنا عنها أيضاً منذ قليل، تيقن من ذلك لما نفذ الرمح في جسده، فأيقن أنه ميت، وأنه سيأخذ ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم الشهيد، فالشهيد ينتقل من أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، (يغفر للشهيد في أول دَفعة)، وفي رواية: (في أول دُفعة)، والروايتان صحيحتان.

    هذا ما كان يريده حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه: (يغفر للشهيد في أول دفعفَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي فكر فيه حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه.

    ولعلنا لا نعرف كل هذه المعاني العظيمة، ولعلنا لا نعرف الجنة ولا النار، فنريد أن نقرأ عن الجنة وعن النار، ونريد أن نعيش كأننا نعيش في الجنة، ونريد أن نخاف من النار وكأننا قريبون منها جداً، وذلك مثل خوف عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه الذي تكلمنا عليه قبل قليل، وكان ذاهباً للجهاد في سبيل الله.

    1.   

    نعيم الجنة لا يدرك إلا بصدق العمل لها

    هناك أناس سيقولون كلمة غريبة جداً، ألا وهي: كل الكلام الذي ذكرته نحن نعرفه، لكن نحن لم نشتغل للجنة! وانتبه يا مسلم! فالعلم الذي لا ينفع كأنه غير موجود، وكأنك جاهل، بل أخطر من ذلك؛ لأن العلم أصبح حجة عليك، والناس الذين كانوا يعيشون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون أنه صادق، ويعرفون أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ولا يقدر عليه البشر، لكن عندما لم يسمعوا الكلام والنصيحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا كانت النتيجة؟ هل نفعهم علمهم هذا؟ لا، وانظر إلى الوليد بن المغيرة ماذا كان يقول؟ قال: لقد نظرت فيما قال الرجل -أي محمد صلى الله عليه وسلم- فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. لكن ماذا عمل بهذا الكلام الجميل؟ إن الذي يسمع كلامه يحسبه داعية من الدعاة إلى الإسلام، لا، لقد قاتل في معركة بدر وقتل فيها.

    وهذا أبو جهل -لعنه الله- كان يقول عندما سئل: ما رأيك فيما سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم -واسمعوا قول أبي جهل - قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان؛ قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به ولا نصدقه. فهو يعرف أنه رسول فعلاً، لكن من أين لهم بمثله؟ فلم يصدقه ويؤمن به، ولم ينفعه العلم شيئاً.

    وعتبة بن ربيعة قال في وصف القرآن: سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه؛ فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فماذا فعل له كل هذا الكلام؟ لقد خرج يحارب في بدر أيضاً، وقتل وهو مشرك والعياذ بالله.

    إذاً: فأين العلم؟ إننا لا نريد أن نكون مثل هؤلاء، لا نريد أن نعلم كل ما علمناه عن الجنة والنار وعملنا كما هو، وكيف نعرف قيمة الجنة وخطورة النار ومع ذلك ما زلنا نعيش للدنيا؟ كيف هذا؟!

    إنها والله حياة واحدة، طالت أم قصرت، صعبت أم تيسرت، عشت فيها حاكماً أو محكوماً، غنياً أو فقيراً، ظالماً أو مظلوماً، طائعاً أو عاصياً، هي في النهاية حياة واحدة ومحدودة جداً، حياتك هي حياتك، والله لن تزيد أو تنقص، لن تقدر على أخذ رزق أحد، ولا تقدر على أخذ عمر إضافي من أحد.

    لكن لماذا نعصي؟ لماذا نظلم؟ لماذا ننسى؟

    إن المسلم مطالب بأن يتزود، فإن خير الزاد التقوى، وهلموا إلى ربكم؛ فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه؛ جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة).

    فإذا كنتم تريدون الجنة حقاً؛ فاعلموا أن ثمنها غال جداً: (ألا إن سلعة الله غالية.. ألا إن سلعة الله الجنة)، فالله عز وجل لا يبيع سلعته بثمن بخس دراهم معدودات، إنما ثمنها الذي يريد سبحانه وتعالى هو النفس والمال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

    اللهم اجمع لنا أمرنا ولا تفرقه علينا، واجعل غنانا في قلوبنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واجعل الجنة هي دارنا ومستقرنا، آمين اللهم آمين.

    وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

    فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767123338