أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه المجموعة هي مجموعة من المحاضرات، وقد أطلقت عليها اسم: (كن صحابياً)، وهي محاولة للاقتراب جداً من جيل الصحابة، هذا الجيل الراقي رفيع المستوى، الذي ما تكرر مثله في التاريخ، سواء في السابق لجيل الصحابة أو بعده، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لن يأتي جيل مثله إلى يوم القيامة، فعظمة هذا الجيل وقيمته تأتي من كون هذا الجيل بأكمله يتصف بصفات معينة، من سلامة العقيدة، وكمال الأخلاق، وأمانة النقل، وصفاء القلب، وقوة العزيمة، وحب الجهاد، فكان بأكمله جيلاً على هذه الدرجة الراقية من الأخلاق والصفات.
وقد يظهر إنسان نابغة في زمان من الأزمان، أو تظهر مجموعة من الأمناء الصادقين الأبرار في جيل من الأجيال، أما أن يكون جيل الصحابة بكامله على صورة معينة من النقاء والبهاء فهذا هو الغريب حقاً، وهذا هو الأمر الملفت للنظر، فلو أنه في زمن من الأزمان ظهر رجل كـعمر بن الخطاب مثلاً، فهذا من سعادة هذا الجيل، ومن سعادة هذا الزمن، وكذلك لو ظهر شخص مثل أبي بكر الصديق ، أو مثل طلحة بن عبيد الله ، أو مثل خالد بن الوليد ، أو مثل أبي هريرة وهكذا، لكن أن يظهر كل هؤلاء في زمن واحد فهذا هو الأمر العجيب حقاً، والأمر الفريد حقاً، ولذلك فليس الغرض من هذه المجموعة من المحاضرات أن نسرد الأقوال والأفعال التي قام بها الصحابة، يعني: ليس مجرد سيرة ذاتية للصحابة، وكذلك ليس الغرض أن نتعرض إلى كل الأحداث التي مر بها الصحابة، ولكن الغرض أن نتعلم:
كيف نقلد جيل الصحابة؟
كيف نكون كجيل الصحابة؟
كيف نسير في طريق الصحابة؟
كيف نصل إلى ما وصل إليه الصحابة، سواء في الدنيا أو في الآخرة؟
وقبل أن نتعلم كيفية وصول الصحابة إلى هذا المستوى الراقي، وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه؟ وقبل أن نتعلم كيف يمكن أن نسير في طريقهم؟ أريد في هذه المحاضرة أن أتحدث عن قيمة هذا الجيل في ميزان الإسلام، وقيمة هذا الجيل في ميزان التاريخ، بل وقيمة هذا الجيل في ميزان الله عز وجل، فهو الجيل الوحيد في الإسلام الذي تستطيع أن تعرف قيمته في ميزان الله عز وجل؛ لأن هذا لا يتأتى ولا يمكن معرفته أبداً على وجه اليقين إلا بإخبار من الله عز وجل في كتابه أو عن طريق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، أما عموم البشر بعد هذا الجيل فلا يمكن الجزم أبداً بأن هذا الجيل جيل ثقيل في ميزان الله عز وجل، أو يمكن أن نرجح أن هذا الإنسان إنسان فاضل أو إنسان يسير على طريق الهدى، لكن لا يمكن الجزم بأنه فعلاً على طريق الله عز وجل؛ لأن التقييم الإلهي للفرد لا يعتمد فقط على ظاهر الأعمال التي نراها نحن بأعيننا، وإنما يعتمد أيضاً على القلب وعلى النوايا، وهذا ما لا يمكن للبشر أن يتيقنوا منه أبداً، نعم قد يكون هناك شواهد تشير إلى فضائل الرجال والنساء، لكن هذا كما ذكرنا لا يمكن أن يكون على وجه اليقين، فنحن يمكن أن نرى رجلاً حسناً من ظاهره، لكن من داخله مختلف تماماً، ولا يعلم ذلك إلا الله عز وجل.
لكن تعالوا نرى جيل الصحابة، وماذا قال الله عنهم، يقول الله عز وجل عن أصحاب بيعة الرضوان: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] أي: أن الله قد رضي عنهم، وقضي الأمر وانتهى، ثم قال: إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، فهذه الآية لم تذكر في حق صحابي أو مجموعة صحابة، لا، بل ذكرت في حق ألف وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واسمع إلى قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117]، وهذه الآية قيلت في حق ثلاثين ألفاً من الصحابة الذين اشتركوا في غزوة تبوك، ولذا فمن المستحيل بالنسبة للأجيال التي تلت جيل الصحابة أن نصل إلى اليقين، وأن الله عز وجل قد تاب على إنسان بعينه، مهما بلغ ذلك الإنسان من العمل في الدنيا، فلا نستطيع أبداً أن نجزم بخيريته عند الله، أو بمكانته عند الله، أو بدرجته في الجنة، أو بنجاته الحتمية من النار، من أجل هذا نستطيع أن نفهم المعنى اللطيف الذي زرعه الرسول صلى الله عليه وسلم في صحابته، ففي البخاري أن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: إن أم العلاء -امرأة من الأنصار- أخبرته بهذه القصة: أن المهاجرين عندما قدموا المدينة أقرع بينهم النبي صلى الله عليه وسلم ليذهب كل واحد منهم إلى أنصاري من الأنصار، فكان من نصيب أم العلاء وزوجها أن ذهب إليهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه، تقول السيدة أم العلاء : فأنزلناه في بيتنا، ثم وجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعثمان بن مظعون هذا من أوائل الصحابة المهاجرين الذين ماتوا في المدينة المنورة، والسيدة أم العلاء رضي الله عنها قد رأت منه الخير الكثير فقالت: رحمة الله عليك يا أبا السائب ، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله -وتنبيه لهذه الكلمة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع ذلك: (وما يدريك أن الله قد أكرمه)، ومَنْ مثل عثمان بن مظعون رضي الله عنه؟ سبق إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة، وفقد عينه في سبيل الله عز وجل، وضرب أروع الأمثلة في الثبات والعزيمة والجهاد والصبر، فهو إنسان متكامل فعلاً، ومع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: وما يدريك يا أم العلاء أن الله عز وجل قد أكرمه، فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ يعني: إذا كان الله عز وجل لم يكرم عثمان بن مظعون فمن يكرمه الله عز وجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هو -يتحدث صلى الله عليه وسلم عن
وعلى ضوء ذلك نفهم ما قاله الصحابي الكريم أبو بكرة رضي الله عنه وأرضاه كما في البخاري ومسلم : (أثنى رجل على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك قطعت عنق صاحبك، قالها مراراً، ثم قال: من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلاناً، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه).
والشاهد من كل هذه الروايات والحكايات أن الأجيال التي جاءت بعد جيل الصحابة لا يمكن أبداً الجزم بخيريتها، ولا يمكن الجزم بخيرية رجل بعينه ما دام القرآن أو رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزم بذلك، ولم يذكر ذلك بوحي أو بدليل من الله عز وجل، وهذا كما ذكرنا ليس مع جيل الصحابة؛ لأنه بالفعل قد عُلم على وجه اليقين أنهم سبقوا، وقد عُلم على وجه اليقين أن الله عز وجل قد زكاهم، ولذا فلا ينفع أن نقول: عمر بن الخطاب رضي الله عنه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، بل عمر بن الخطاب قد زكاه الله عز وجل فعلاً، وزكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه خاصية فريدة جداً لجيل الصحابة.
إن جيل الصحابة هذا جيل فريد ولن يتكرر في التاريخ لأسباب مهمة، وأنا أعتبر وصول هذا الجيل إلى هذا المستوى الراقي راجع إلى أسباب ثلاثة:
السبب الأول: أن هذا الجيل جيل مختار من الله عز وجل، أي: أن هؤلاء الصحابة بأعيانهم خلقوا ليكونوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لازماً أن يكون أبا بكر موجود رضي الله عنه، لأن له دوراً لا بد أن يقوم به، ولن يستطيع أن يقوم به غيره، وكذلك عمر يكون موجوداً، وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبلال وخالد والسيدة خديجة والسيدة عائشة ، فكل الصحابة لا بد أن يكونوا موجودين بأعيانهم، وكما يصطفي الله عز وجل رسله من الملائكة ومن البشر فكذلك يصطفي أصحاب رسله عليهم الصلاة والسلام: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75].
وتأمل إلى الله سبحانه وتعالى وهو يتكلم على أصحاب عيسى عليه السلام إذ يقول: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا [المائدة:111]، يعني: أن أصحاب عيسى عليه السلام قد خاطبهم الله عز وجل عن طريق الإلهام أو الوحي غير المباشر، واختيار الله عز وجل لأصحاب رسله لا بد أن يكون ذلك بطريقة معينة، وهذه الطريقة قد تكون عسيرة وصعبة، كأصحاب موسى الذين اشتهروا بالشر والأذى وسوء الأدب، ومع ذلك يقول الله عز وجل عنهم في كتابه: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ [الدخان:32-33].
أما عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه قال: (فقد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أصحابه -يعني: أن الصحابة فقدوا النبي صلى الله عليه وسلم- وكانوا إذا نزلوا أنزلوه أوسطهم) يعني: إذا كانوا في سفر وأرادوا النوم في ليلتهم تلك جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطهم؛ حماية له صلى الله عليه وسلم، (فلما استيقظوا من نومهم في جوف الليل لم يجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول
فالصحابة مختارون؛ لأن على أكتافهم تبعة حمل هذا الدين كاملاً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض أجمعين، وليس هناك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول، فماذا لو كان أصحابه يتصفون بكذب أو خيانة أو كسل أو فتور أو حب لدنيا وانغماس فيها؟! وماذا سيكون حال الأرض إلى يوم القيامة لو نقل إلينا الدين مشوهاً أو مغيراً أو مبدلاً؟! ولذلك تحتم أن يختار الله عز وجل من البشر من يستمعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنصات، ويستمعون إليه بإمعان وتقدير، ثم ينقلون هذا الذي استمعوه إلينا جميعاً، فيقيمون بذلك الحجة على أهل الأرض أجمعين، وإلا فكيف سيحاسب الله عز وجل أهل الأرض؟! وكيف سيحاسب من يأتي من البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله عز وجل في كتابه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
إذاً: لا بد أن يوجد جيل يحمل الأمانة، ويحمِّل الأجيال التي تأتي من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمانة، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ بينهم، وهذا هو السبب الأول الذي من أجله استحق أن يكون هذا الجيل جيلاً فريداً، وهذا الجيل جيل غير متكرر، وهو جيل قد اختاره الله عز وجل بعناية لصحبة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
السبب الثاني: أن هذا الجيل قد مر بتجربة فريدة تماماً، فوجدت عنده خبرات لم يرها أحد من المسلمين وتعالوا لنرى تجربة هذا الجيل الفريد فيما يأتي:
أولاً: أنهم قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعينهم، واجتمعوا به وتعاملوا معه وصلوا خلفه، واستمعوا لحديثه، وهذا أمر عظيم في حد ذاته، فالمؤمن منا بعد جيل رسول الله صلى الله وإلى جيلنا الآن، بل وإلى يوم القيامة إذا رأى رسول الله صلى الله في المنام اعتبر ذلك حدثاً عظيماً، وهو بالفعل كذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يهتم جداً بهذا الحدث، ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي)، وأعظم من ذلك ما رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي)، وفي رواية: (فكأنما رآني في اليقظة)، وهذا أمر جميل جداً، فما بالكم بمن كان يره بعينه وفي كل يوم وفي كل لحظة؟ وليس فقط في المنام بل في الحقيقة، وليس فقط ساعة أو ساعتين بل العمر كله.
وتخيل معي هذا الأمر: فلو أن إنساناً وصف لك شخصاً آخر بأنه قد فعل فعلاً حميداً في فلان، فإنك تحبه بمجرد ذلك الإخبار والوصف عنه، ويزرع في قلبك حب هذا الشخص، فماذا لو كان الفعل معك أنت شخصياً؟! وأنا لا أقول لك: فلان عمل كذا وكذا مع فلان، بل أنت ذاتك مر عليك هذا الأمر، إذاً فكيف يكون حالك معه؟ فمثلاً: عندما تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فهذا أمر يزرع المحبة له في قلبك، فما بالك لو أنت ذاتك كنت الذي تأخذ منه، وأنت الذي كان يعطيك صلى الله عليه وسلم بنفسه؟!
واسمع إلى قول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه كما عند الترمذي : ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا الأمر عندما تعرفه تزرع محبته صلى الله عليه وسلم في قلبك، فما بالك أيضاً لو أنك أنت الذي يبتسم الرسول صلى الله عليه وسلم في وجهه، وأنت الذي ترى وجهه صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم إليك؟! وعندما أقول لك: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعود المرضى ويشهد الجنائز، فما بالك لو كنت أنت المريض الذي يعودك صلى الله عليه وسلم في بيتك؟! أو لك قريب مات فجاء صلى الله عليه سلم وشهد جنازة هذا القريب؟! فكيف تكون علاقتك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف تكون درجة إيمانك به؟ وهذا غير النظر في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، أما مجرد النظر إليه فله تأثير خاص جداً، واسمعوا لكلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه عند الترمذي وقال: صحيح، قال: (فلما استثبت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه هذا ليس بوجه كذاب)، يعني: مجرد رؤية وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تترك في القلب أثراً لا ينسى، وغير رؤية خاتم النبوة مثلاً، فكثير من الصحابة قد رأوا بأعينهم خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، ومنهم: سلمان الفارسي وعبد الله بن سرجس وعمرو بن أخطب وغيرهم كثير، فالذي رأى خاتم النبوة ترك في قلبه أثراً لم يتركه من سمع فقط عن خاتم النبوة.
ثانياً: أنهم كانوا يعايشون القرآن، فنحن نقرأ القرآن ونسمع عن أسباب النزول، أما الصحابة فقد عاشوا أسباب النزول، ورأوا القرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحوادث المختلفة، وهذا لا شك أنه يرفع من درجات إيمانهم إلى أكبر درجة يمكن أن تتخيلها، وتأمل وتخيل معي تلك المرأة التي جاءت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر زوجها الذي ظاهر منها، وتخيل تفاعل هذه المرأة مع الآيات التي نزلت في حقها شخصياً، وتخيل أنها تصلى بسورة المجادلة، أو تسمع سورة المجادلة، أو تقرأ سورة المجادلة: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، إنه من المؤكد أن تفاعلها مع كل كلمة مختلف تماماً عن تفاعل بقية المسلمين مع نفس الآيات، وتخيل أيضاً تفاعل زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه مع الآيات، وتخيل وهو يستمع إلى التحذير الإلهي: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [المجادلة:2]، وأكيد وهو يستمع إلى هذه الآيات غير أي واحد منا يستمع إليها، فهو عاش جوار هذه الآيات، وعايش الآيات حال حدوثها وحال نزولها، وتخيل تفاعل الجيران للسيدة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها وأرضاه وهم يقرءون صدر سورة المجادلة وهم يعلمون أنها نزلت في جارتهم هذه بعينها، وتخيل تفاعل المجتمع المسلم بكامله مع هذه الآيات، فقد ورد أن خولة بنت ثعلبة كانت تمشي في الطريق فقابلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع أناس كثيرين معه، فاستوقفته السيدة خولة بنت ثعلبة فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش بسبب هذه العجوز -وهو لا يعرفها- فقال: ويحك، أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة ، ووالله لو لم تنصرف حتى يأتي الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها، فانظر تعظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمر هذه السيدة لمجرد نزول هذه الآيات فيها، وضع هذا المفهوم على كل آيات القرآن الكريم، فكل آيات القرآن قد نزلت في حوادث معينة أو في ظروف معينة أو في وقت معين.
وتخيل نفسك أيضاً وأنت تشارك في غزوة بدر، ثم تسمع سورة الأنفال بعد هذه المشاركة، من المؤكد أن إحساسك بالآيات سيكون مختلفاً تماماً عن إحساس عامة المسلمين الذين يقرءون سورة الأنفال، ويتخيلون مجرد ما حدث للمسلمين في بدر، لكن الصحابة لم يكونوا يتخيلون ذلك؛ لأنهم بالفعل قد عايشوا التجربة بكاملها، فعايشوا غزوة بدر من أولها إلى آخرها: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، فتذكر الصحابي للذي حصل عند تقسيم الأنفال أو عند المشادة التي حدثت بينهم بأمر الأنفال مختلف تماماً عن النصيحة بإصلاح ذات البين لمن لم يعش هذه التجربة بعينها: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال:7]، فالصحابي عندما يقرأ هذه الآيات يتذكر ويقول: نحن كنا نريد غير ذات الشوكة، كنا نريد القافلة، ولم نكن نريد الجيش، ومع ذلك أراد الله عز وجل أمراً آخر، فيعيش مع كل كلمة من كلمات الله عز وجل: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11] والنعاس قد نزل على بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وتكرر ذلك في غزوة أحد كما قال الله عز وجل: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، قال أبو طلحة الأنصاري : كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مراراً وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف، والحجف جمع حجفة، وهي: الترس أو الدرع، لذا فسيدنا أبي طلحة الأنصاري عندما يقرأ هذه الآيات: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، ويكون هو من الناس الذين نزل عليهم النعاس في هذه الغزوة، فإنه يتفاعل مع ذلك تفاعلاً غير الناس الذين حوله، ويقول تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:44]، فهذه الآيات أنزلت في حق غزوة بدر، وانظر إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو يقول: وقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جواري: تراهم سبعين؟ فتخيل ألف مقاتل يراهم المسلمون سبعين مقاتلاً فقط، فـعبد الله بن مسعود يقول: أنا فعلاً كنت أشاهدهم سبعين، وأقول للذي بجواري: تراهم سبعين؟ قال: لا، بل هم مائة، وهو أكثر رقم كانوا يتخيلونه، حتى أخذنا منهم رجلاً فسألنه فقال: كنا ألفًا.
وقس على ذلك تفاعل الصحابة مع الحديث القرآني وهو يتكلم عن أحد والأحزاب وحنين وتبوك وغيرها من المواقف والغزوات والأحداث التي مرت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعايشهم معايشة كاملة لكل آية من آيات القرآن الكريم، وهذا يعطي بعدًا آخر لجيل الصحابة، هذا الجيل الفريد.
وتعالوا لنرى مثالاً آخر لـعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي نزلت فيه صدر سورة عبس، وتخيلوا وهو يقرأ: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3] إلى آخر الآيات، كيف يمكن أن يشرد ذهنه في الصلاة، وكيف يمكن ألا يخشع في القراءة؟! مستحيل، وتخيل الصحابي الذي يصلي إلى جواره في المسجد وهو يستمع إلى هذه الآيات، ويعلم أن المقصود منها فلان بن فلان الذي واقف بجواره في الصف.
وتخيل حال أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ودرجة إيمانه وقربه من الله عز وجل وهو يقرأ: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21] ويعلم أن هذه الآيات نزلت فيه شخصياً، فكيف يكون إحساسه وهو يقرأ هذه الآيات؟!
ويا ترى ما هو إحساس زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه وهو يقرأ: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37]، وهو يعلم أن الله عز وجل قد سماه باسمه؟ وتخيل إحساس السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها وهي تقرأ قوله: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا [الأحزاب:37] أي: من السيدة زينب بنت جحش ، وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] أي: زوجناك السيدة زينب بنت جحش ، وقد كانت السيدة زينب تفخر على زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول لهن: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات، وتخيل أيضاً معايشة السيدة زينب مع زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل نساء المسلمين أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن جالسات مع بعض، ويعرفن الآيات فمن أنزلت بالضبط وأحداث القصة بالتفصيل.
إذاً: فالصحابة كانوا يعايشون القرآن تماماً، ويتفاعلون مع كل آية ومع كل كلمة، فينصتون إلى الخطاب الإلهي لهم بأذن تختلف كثيراً عن آذان غيرهم من المسلمين، وبقلوب تختلف كثيراً عن قلوب كثير من المسلمين.
ثالثاً: أن الصحابة رأوا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغيب، ونحن أيضاً نسمع عن ذلك، ولكن ليس من رأى كمن سمع، فالذين يعيشون في الحدث ويتشوقون لمعرفة ما يحدث على بعد مئات أو آلاف الأميال، غير الذي يسمعه بعد مائة سنة أو مائتين أو ألف.
ولنتأمل الصحابة الكرام وهم واقفون في المدينة المنورة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف لهم ما يحدث في غزوة مؤتة على بعد مئات الأميال من المدينة المنورة، وهو يقول: (أخذ الراية
وتأملوا أيضاً عندما يأتي رسولا عامل كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطلبان منه أن يذهب معهما إلى كسرى فارس، فيقول لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربي قد قتل ربكما هذه الليلة)، والكلام هذا كان في ليلة الثلاثاء في العاشر من جمادى الأولى للسنة السابعة للهجرة، ومرت مرت الأيام وعينوا الليلة، وعُلِم فعلاً أن كسرى فارس كان قد قُتِل في تلك الليلة، فنحن نسمع في هذا الوقت عن ذلك الحدث، لكن الصحابة عاشوا فيه، وانتظروا الأيام تمر حتى عرفوا أن كسرى فارس قد قُتل تلك الليلة المحدودة، وهذا أمر يرفع الإيمان العظيم في قلوب الصحابة.
والصحابة أيضاً شاهدوا المعجزات الحسية التي نسمع عنها في هذا الوقت، نعم القرآن أعظم معجزة بين أيدينا، لكن هم فوق ذلك شاهدوا مثلاً انشقاق القمر، وحُكي ذلك من روايات عدة، ففي البخاري وغيره عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فقالوا: انظروا السفار -يعني: الناس المسافرة التي تأتي من خارج مكة- فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به، فسألوا السفار وكانوا قد قدموا من كل جهة -يعني: أكثر من مكان- فقالوا: رأينا -أي: شاهدوا انشقاق القمر- فأنزل الله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]) وأنا أريدك أن تتخيل نفسك وأنت عايش مع النبي صلى الله عليه وسلم في داخل مكة، وترى القمر ينشق إلى فرقتين، نصف على جبل ونصف آخر على جبل آخر، وهذا لا شك أنه يزرع إيماناً عجيباً وقوياً جداً في قلوب الصحابة.
وشاهدوا أيضاً حنين جذع النخلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع، فلما صنع المنبر تحول إليه فحن الجذع -أي: صدر له صوت حنين وألم لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأتاه الرسول صلى الله عليه وسلم فاحتضنه فسكن، وقال صلى الله عليه وسلم: لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة)، وفي رواية جابر بن عبد الله يقول: (حتى سمعه) أي: سمع حنين الجذع (أهل المسجد)، فتخيل نفسك وأنت جالس في المسجد وقد سمعت بأذنيك حنين جذع النخلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشاهدوا كذلك البركة في الطعام والشراب والسلاح والصحة، وأمثلة كثيرة وعجيبة لا تحصى، ومن ذلك: موقف جابر بن عبد الله في الأحزاب، وذلك عندما رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه جوعاً شديداً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه سراً ليأكل في بيته من طعام صنعه له، وكان قليلاً جداً، حتى أن جابر بن عبد الله سماه طعيم، قال: (يا رسول الله عندي طعيم، تعال أنت واثنين أو ثلاثة من أصحابك، قال
وانظر إلى موقف قتادة بن النعمان رضي الله عنه وأرضاه في غزوة أحد عندما سقطت عينه على وجنته، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل عينه على يده فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى مكانها، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما، فتخيل نفسك قتادة بن النعمان أو تخيل نفسك من أصحاب قتادة الذين شاهدوا عينه تقع على وجنته، وشاهدوا عينه بعد ذلك وهي صحيحة في مكانها، فما قدر ما يكون الإيمان في قلبك؟ ومن هذا القبيل أحداث لا تحصى.
وكذلك الصحابة قد رأوا بأعينهم صوراً يستحيل على غيرهم أن يراها، فمثلاً شاهدوا الملائكة في بدر، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: بينما رجل من المسلمين -وكان أنصارياً- يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً -يعني: أن المشرك وقع من غير أن يصل إليه المسلم بشيء، فهو فقط سمع واحداً يقول: أقدم حيزوم، وفجأة وجد المشرك يسقط مستلقياً أمامه-، قال: فنظر إليه -أي: الرجل المسلم نظر إلى هذا الرجل المشرك الملقى على الأرض- فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة) عند ذلك تخيل مدى إحساس هذا الصحابي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه بمعايشة الملائكة له في أرض الموقعة وفي أرض القتال، وتخيل وهو يرى الرجل وقد وقع أمامه من غير ما يلمسه، يقول أبو داود المازني رضي الله عنه وأرضاه -وهو من المسلمين الذين شاركوا في بدر-: إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. أي: أنه قد قتله ملك من الملائكة.
والصحابة أيضاً كانوا يرون سيدنا جبريل عليه السلام عندما يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، وبعد أن يخرج من عندهم يعرفون أن هذا الرجل الذي كان واقفاً وسطهم قبل قليل هو جبريل عليه السلام، الذي هو من أعظم الملائكة على الإطلاق.
وانظر إلى القصة المشهورة عند الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه) وصف دقيق، فهو قد رآه بعينيه، وعايش هذه التجربة، (وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟) ثم أخذ يسأله بعد ذلك عن الإيمان وعن الإحسان وعن الساعة وعن أمارتها، والرسول صلى الله عليه وسلم يجيبه، (ثم انطلق الرجل، فقال
وتأملوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث المسلمين عن عمرو بن لحي ، هذا الرجل الذي جمع العرب على الأصنام، وأول واحد أدخل عبادة الأصنام إلى مكة بعد أن جاء بها من الشام، فيأتي الرسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي لهم عن عمرو بن لحي ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وأشبه من رأيت به
بل أكثر من ذلك عندما يحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال ، هذه الفتنة العظيمة التي هي من علامات الساعة الكبرى، وتأمل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يحكي للصحابة عن الدجال كما نقرأ ذلك في الأحاديث التي جاءت عن الدجال ووصفه، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يضيف نقطة مهمة جداً، فهل نحن سنستفيد منها أم لا؟ لكن الصحابة كانوا يستفيدون منها، قال صلى الله عليه وسلم: (فإنه -أي:
رابعاً: أن الصحابة بشروا بالجنة بأسمائهم، فالواحد منهم كان يمشي على الأرض وهو يعلم علم اليقين أنه من أهل الجنة، فكيف يصبر على الحياة؟! وهذا ليس فقط في حق العشرة المبشرين بالجنة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة وسعيد بن زيد ، بل كثير من صحابته صلى الله عليه وسلم بشروا بالجنة وهم أحياء، فمثلاً روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـبلال عند صلاة الفجر: (يا
وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عندما رآه الصحابة وهو يصعد شجرة للإتيان بعود أراك أو تمر من نخلة على اختلاف في الروايات فضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)، فتخيل عبد الله بن مسعود وكيف يكون حاله في الدنيا وهو عارف أنه أثقل في ميزان الله عز وجل من جبل أحد؟
وكذلك: الحسن والحسين رضي الله عنهما، ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
وأيضاً: السيدة خديجة رضي الله عنها، ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: اقرأ عليها السلام -أي: اقرأ على
وأيضاً عندما تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال له عكاشة بن محصن - عكاشة : بتشديد الكاف أو تخفيفها-: (ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، قال: اللهم اجعله منهم، فقام رجل آخر يطلب نفسه الطلب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبقك بها
وكل هذه التجارب نقلت الصحابة من المرتبة الإيمانية المسماة بعلم اليقين إلى المرتبة الإيمانية الأعلى المسماة بمرتبة عين اليقين: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر:5-7]، وعلى كل فالصحابة كانوا يرون كل شيء بأعينهم، حتى أمور الغيب رأوا كثيراً منها بأعينهم وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السبب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح بأن هذا الجيل هو خير الأجيال على الإطلاق، فقد روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) فهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضي الأمر بذلك، قال عمران : فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ يعني: هل قال: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاث؟ لكن المهم أن خير الأجيال وخير الناس هو قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جيل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى البخاري ومسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، قالها مرتين، ثم قال: فوالذي نفسي بيده لو أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)، وتخيل لو أنك تملك ذهباً كجبل أحد، ثم أنفقته كله في سبيل الله، فإن ذلك لا يساوي ما أنفقه الصحابي، وإن كان ما أنفقه كمقدار المد، أي: مد الكفين، وتخيل واحداً من الصحابة ينفق ملء الكفين فقط يساوي قدر جبل أحد من الإنفاق، لأن لهم أجر السبق في الإسلام، فهم الذين علمونا الإنفاق، وهم الذين علمونا الجهاد في سبيل الله، وكيف يمكن أن نقهر النفس ونصرف الأموال في سبيل الله عز وجل، وهذا يعطيهم الأجر العظيم والدرجة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصريح أنهم خير الناس وخير القرون وخير الأجيال.
من كل ما سبق يتضح لنا أننا نتعامل في هذه المجموعة مع أرقى جيل في الوجود، مع الجيل الذي يصلح تماماً أن يتخذ قدوة كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. يعني: نحن نرى أناساً كثيرين وعظماء يعيشون بيننا، لكن الله أعلم بمن سيثبت منهم على الحق، ومن فيهم الذي سيغير ويبدل، لكن الذي قد مات علمنا أنه قد مات على الحق وبالذات جيل الصحابة، ثم قال عبد الله بن مسعود : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة. ولا أحد يقول: إن هذا يزكي أو يُعظِّم نفسه، لا، فهو يذكر حقيقة لا بد أن يعلمها كل المسلمين، وإذا علموها استفادوا منها استفادة جمة؛ لذلك وجب عليه أن يذكر بهذا الأمر، وكتمان هذه الحقيقة كتمان لعلم مهم جداً، ألا وهو علم تقدير الصحابة وتعظيم الصحابة وتكريم هذا الجيل بأكمله؛ لأنهم جيل القدوة، ثم يقول عبد الله بن مسعود : أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
لذلك في هذه المجموعة سنجعل هدفنا إن شاء الله أن نتعلم كيف نكون مثل الصحابة؟ كيف أننا نريد أن نتعلم مثلهم؟ كيف أننا نكون مسلمين حق الإسلام؟ كيف نؤمن بالله عز وجل حق الإيمان؟ كيف نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الحب؟ كيف نفهم هذا الدين حق الفهم؟ دراسة حياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هي دراسة الإسلام، والسير في طريق الصحابة هو السير في طريق الجنة.
نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، في صحبة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر