إسلام ويب

سلسلة الصديق نعمة السبقللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان الصديق الأكبر رضي الله عنه وأرضاه أسبق الناس إلى كل خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أول الناس إسلاماً، ولم يسبقه أحد من الصحابة إلى خير، فرضي الله عنه وأرضاه.

    1.   

    اتصاف أبي بكر الصديق بالحسم والسبق وعدم التسهيل

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم اغفر لنا خطيئتنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

    اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا؛ إنك أنت الغفور الرحيم.

    وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فمع الدرس الثالث من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه:

    ما زلنا نستمتع بطرف من حياة الصديق رضي الله عنه، فوالله! إننا فعلاً نستمتع، وما زلنا نستمتع بحياة الصديق رضي الله عنه، ودراسة حياة الصديق تريح النفس، فعندما تحس بشيء من الظلم، أو شيء من التعب، أو شيء من اليأس أو شيء من الإحباط اذهب بسرعة واقرأ سيرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فهو رجل من البشر وليس بنبي، ومع هذا يفعل كل هذا الخير، إذاً: هناك أمل كثير، فعندما نسمع عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: قال الرسول وعمل كذا، لا نقدر أن نصل لفعله، ولكن هذا رجل ليس برسول، ويعمل بعمل الأنبياء رضي الله عنه وأرضاه.

    فيبدو أن طاقة البشر أوسع مما نتخيل، ويبدو أن وسع النفس أرحب بكثير من اعتقادنا، ويبدو أيضاً أن الآية الكريمة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ليست آية تخفيفية كما يظن بعضنا، ولكنها آية تكليفية، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف إلا الوسع فقط، ولكن هذا يعني أيضاً من زاوية أخرى أن الله عز وجل يكلف الوسع، والوسع كبير جداً، لكننا أحياناً لا نقدره؛ تخاذلاً منا وإنقاصاً لقدرات البشر.

    والدليل على ذلك: أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

    والدليل على ذلك أيضاً: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين والصالحين في كل زمان، وفي كل مكان.

    هؤلاء بشر، تلقوا منهجاً وساروا عليه، فسعدوا وأسعدوا غيرهم، هؤلاء بشر سمعوا كلاماً مثل الذي سمعناه تماماً، لكنهم أخذوه مأخذ الجد، فظهرت طاقات عجيبة أخفاها الله عز وجل في قلوب الناس، هذه الطاقات العجيبة في قلبي وقلبك، وفي قلوب كل الناس، لكن لا تخرج هذه الطاقات إلا بشروط، رأيناها مع الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إيمان بالله وبرسوله، وحب لله ولرسوله، وعمل بما قال الله ورسوله، إيمان وحب وعمل.

    فاكتشف نفسك يا أخي! وفتش في قلبك عن طاقاتك، وفتش في قلبك عن طاقات الصديق ، وفتش في قلبك عن طاقات عمر ، فتش وستلاقي قوة لم ترها من قبل، فالله سبحانه وتعالى الحكيم خلق وصور ثم كلف وأمر.

    والله سبحانه وتعالى كلف الخلق أجمعين بتكاليف ثوابت، ومن رحمته وعدله: أن وضع في خلقه ما يعينهم على أداء هذه التكاليف، وقد أمرنا جميعاً بما أمر به الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    والصديق لم يؤمر بعبادة خاصة، أو بتكاليف خاصة، أو بتشريعات خاصة، بل نفس المنهج، ونفس القانون، ونفس التشريع، ونفس الفجر الذي كان يصليه، ونفس الجماعة ونفس الزكاة والصدقة، ونفس الأخلاق الحسنة ونفس صلة الرحم وطاعة الوالدين، ونفس الابتسامة ونفس التواضع، ونفس الحمية للدين، ونفس التشريع بكامله التشريع أمر به الصديق ، وأمرنا به نحن، والصديق قد وفى، فأين نحن منه ومن أمثاله؟

    فيا ترى هل وفينا وأدينا المنهج؟ ويا ترى كم عملنا من الذي علينا؟ كم في المائة من التكاليف الذي علينا عملناها؟ وكم في المائة من الوقت يصرف في أمور لم نؤمر بها، وكم في المائة من الوقت يصرف في أشياء نهينا عنها؟ وفي النهاية نحن بشر والصديق بشر، والاقتداء به ممكن، والسير على طريقه مستطاع.

    وقد تحدثنا في المحاضرتين السابقتين عن صفتين رئيسيتين من صفاته رضي الله عنه: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقة القلب.

    وفي هذا الدرس نتحدث عن سمة ثالثة مميزة جداً للصديق رضي الله عنه، وإن كان جل الصحابة تقريباً يقتربون من الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الصفتين السابقتين، أما هذه الصفة فقد تفرد بها الصديق ، وتفوق بها على سائر الصحابة أجمعين.

    هذه الصفة من أهم ما نحتاج في حياتنا اليوم، وما أجمل أن يوجد جيل يتصف بهذه الصفة، ولو وجد لاشك أن النصر سيكون حليفه، وسيكون قريباً جداً إن شاء الله.

    هذه الصفة الثالثة هي صفة الحسم والسبق وعدم التسهيل، الحسم في القرارات، والسبق إلى كل خير، وعدم التسهيل في أي قضية مهما صغرت في عين الإنسان، وهذه الصفة سمة واضحة جداً في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    الشيطان كثيراً ما يمنع الإنسان من عمل الخير عن طريق التسويف، والتسويف جندي هام جداً من جنود الشيطان، وبالذات مع أهل الإيمان والتقوى، يقول له: افعل الخير، ولكن بعد يوم أو يومين، أو شهر أو شهرين لا يقول له: لا تفعل الخير، فالشيطان ليس غبياً إلى هذه الدرجة، وعندما يؤجل الإنسان العمل ولو للحظات قليلة يكون معرضاً بشدة لترك هذا العمل، فإما أن ينسى العمل، وإما أن تحصل له ظروف تمنع من العمل، كشغل أو مرض أو تتغير الحماسة في القلب.. أو غير ذلك، بل إن الإنسان قد يموت.

    وأبو بكر الصديق رضي الله عنه الرجل العاقل الحكيم كان يفهم لعبة الشيطان جيداً، وكان يفهم لعبة التسويف، فما سمح للشيطان أبداً أن يلعبها معه.

    فكان رضي الله عنه وأرضاه أستاذاً في الحسم، ونبراساً في الفقه، وتشعر أنه يتحرك في حياته بكاملها وقد وضع الآية الكريمة: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] أمام عينيه، فهو في سباق دائم مع الزمن، وكأن اللحظة القادمة هي لحظة الموت، فلابد أن يكون جاهزاً، أو هي لحظة الفتنة، فلابد أن يكون ثابتاً.

    ومن المؤكد أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال الصالحة فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا).

    وكثيراً ما يفصل بين الإيمان والكفر نصف يوم فقط، فيصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً فسبحان الله!

    من يرى حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه يعلم أنه كان دائماً يبادر بالأعمال الصالحة اتقاء الفتن التي تظهر فجأة على غير موعد سابق، فتعالوا نستمتع بصفحات من سبق الصديق ومن حسم الصديق رضي الله عنه:

    1.   

    سبق الصديق إلى الإسلام

    أول ما يلفت الأنظار إلى الصديق رضي الله عنه سبقه إلى الإسلام.

    من المعروف أنه أول رجل أسلم، ما تردد وما نظر، وما قال: آخذ يوماً أو يومين أفكر، بل أسرع إليه إسراعاً، وهذا الأمر لافت للنظر جداً، وهو ما سيغير الشغل أو يغير بيته أو حتى يغير بلده، بل سيغير عقيدته التي عاش عليها 38سنة، فـالصديق لما أسلم كان عمره 38سنة.

    أحياناً بعض الرجال يعتقدون أن من الحكمة التروي جداً جداً في الأمر وعدم التسرع، وأخذ الوقت الطويل في التفكير قبل الإقدام على أي خطوة من خطوات الحياة، وبالذات لو كانت خطوة مصيرية، هذا قد يكون صواباً في بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى عندما يكون الحق واضحاً جلياً مضيئاً كالشمس في كبد السماء يصبح التروي حينئذ حماقة، وتصبح الأناة كسلاً، وتصبح كثرة التفكير مذمة، هذا حدث مع قوم نوح، حدثنا ربنا عز وجل في كتابه الكريم عنهم، قال عز وجل على لسان قوم نوح: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27] يعني: أولئك الذين يبدون آراءهم لأول وهلة دون تفكير ولا تمحيص هم الذين اتبعوك يعني: يلومونهم أنهم أسرعوا للإيمان مع نوح عليه الصلاة والسلام دون أن يترووا ودون أن يفكروا.

    وسبحان الله! هؤلاء كمن يقول للآخر: ما رأيك في الشمس هل طلعت؟ فيسأل عنها فيقول: دعوني أفكر وأتروى، ويقول: يا ترى هل طلع وإلا ما طلع.

    وما رأيكم في واحد عطشان وعلى حافة الهلكة ورأى نبعاً صافياً سلسبيلاً في الصحراء، يا ترى لو قعد وقال سآخذ يوماً أو يومين أفكر هل أشرب أو لا أشرب؟ ولو قعد يفكر يوماً أو يومين سيموت قبل أن يشرب، والذي يحصل مع أناس كثير ويحصل معنا أيضاً كثيراً أننا نفكر في الخير، فنظل نفكر في الخير اليوم واليومين والثلاثة والشهر والسنة، وثم نموت قبل أن نفعل هذا الخير.

    فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه كان في عطش الجاهلية، فرأى نبع الإسلام فلماذا لا يشرب؟ كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يرى الحق بهذه الصورة تماماً فلماذا التردد والانتظار؟ والتردد ليس من الحكمة في هذه الأمور، وهو الرجل الحكيم العاقل عرض عليه الإسلام غضاً طرياً واضحاً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنار الله قلبه بنور الهداية، فلماذا لا يسلم؟ ولماذا لا يتبع الحق من أول وهلة؟

    روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أنتم تاركو لي صاحبي؟) قالها مرتين صلى الله عليه وسلم وذلك لما حدث خلاف ذات مرة بين الصديق رضي الله عنه وبين أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فلماذا هذه المكانة العالية للصديق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ انظروا إلى المسوغات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قلت: أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدقت).

    إذاً: هي فضيلة ولاشك أن أسرع للإسلام هذا الإسراع! ومرت الأيام، وصدق أولئك الذين كذبوا من قبل، لكن كان أبو بكر الصديق هو الفائز في الأجر والسبق.

    ومن الناس من صدق بعد أيام من سماع الدعوة، ومنهم من آمن بعد شهور، ومنهم من آمن بعد سنوات، ومنهم من انتظر حتى تم الفتح ثم آمن، الجميع آمن، والجميع صدق، لكن الصديق فاز بها، قال عز وجل: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:10-12].

    فالأيام التي تمر لا تعود أبداً إلى يوم القيامة، ولاشك أن أولئك الذين تأخر إسلامهم أياماً وشهوراً وسنوات كانت الحسرة تأكل قلوبهم على أيام ضاعت في ظلمات الكفر، لكن الحسرة ما أعادت الأيام، ونحن أيضاً نتحسر على الأيام التي ما قدمنا فيها عملاً صالحاً لأنفسنا، والأيام تمر، ولاشك أن الذي سارع إلى الخيرات استمتع بهذه الأيام التي قضاها في الإيمان.

    وفي النهاية مرت الأيام على هذا وعلى ذاك.

    ونحن لا نقول هذا الكلام للتاريخ، نحن في واقعنا وحياتنا كثيراً ما نتردد في أعمال الخير، ونؤجل يوماً أو يومين، ثم نفعل الخير بعد ذلك، أو لا نفعله، فمرت الأيام وضاع السبق، قال عز وجل: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10].

    الأعمال لها أجران: أجر العمل ذاته، وأجر السبق فيه.

    وقد يكون أجر السبق أعظم من أجر العمل ذاته؛ لأنه يكون بمثابة السنة الحسنة التي تسنها لغيرك فيقلدك فيها.

    روى الإمام مسلم رحمه الله عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).

    وتعالوا نرجع للقرار العجيب الذي أخذه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إنه قرار الإسلام، هناك أناس يتهمون العاملين للإسلام بأنهم يريدون دنيا ويريدون حكماً، والمعاصي أقصر ألف مرة إلى الدنيا والحكم من الطريق الذي صار فيه الصديق ، هذا الطريق ترك فيه الدين الذي اعتاده عامة الناس إلى دين غيره جديد تماماً على الناس، ترك هذا الدين الذي فيه الأمن والأمان في ذلك الزمان إلى دين ستضيع معه الأموال والأولاد، وسيحارب معه مكة والعرب، بل والعالم أجمع، هذا القرار -قرار الإسلام- سوف يتبعه تعب ونصب، بل وجهاد حتى الموت.

    إنه قرار يغير فيه المألوف؛ فالناس ألفت شيئاً سنوات وسنوات في أرض الجزيرة ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه الصديق ليغير المألوف، وتغيير المألوف يحتاج إلى رجال من طراز خاص.

    وهنا أمر آخر: ما معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار الصديق من بين كل الناس حتى يسر له بهذه الدعوة قبل غيره؟ المنطقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب ويدعو أحد أقاربه قبل الصديق ، وبالذات في هذه البيئة القبلية، فلماذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذهب -مثلاً- إلى أبي لهب أو إلى العباس أو إلى أبي طالب أو إلى غيره من العائلة الضخمة الكبيرة عائلة بني هاشم؟

    لا يوجد تفسير لذلك إلا أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أقرب إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى من أقاربه.

    كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في الصديق أموراً جعلته متيقناً أنه سيجيب، وأنه سيعين على أمر هذه الدعوة، وأنه سيكون له شأن لا يغفل في هذا الدين.

    يا ترى ما هي هذه الأمور التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصديق ؟

    نريد أن نقف وقفة ونحلل الموقف العجيب: لماذا كان الصديق أقرب للإسلام من غيره؟ ولماذا اختار الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق حتى يسر له بالرسالة؟ لكن قبل أن نقف ونحلل أود أن أشير إلى ثلاث نقاط:

    النقطة الأولى: نحن لا ندرس هذا التاريخ لمجرد العلم، بل نريد أن نتعلم السبق من الصديق رضي الله عنه، ونريد أن نرى ما هي العوامل التي جعلته سباقاً إلى الإسلام، وسباقاً إلى كل خير، فإن كانت بنا فلنحمد الله عز وجل، فسنكون سباقين، وإن لم تكن فلابد أن نستكملها في أنفسنا.

    النقطة الثانية: هي رسالة خاصة إلى كل الدعاة، فأوقات الدعاة مهما عظمت فهي محدودة، ولن يستطيع المرء أبداً أن يدعو الناس جميعاً في وقت واحد، فلابد أن تختار، وكيف تختار؟ وبمن تبدأ؟ وكيف تقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختياره للصديق رضي الله عنه وأرضاه حتى تدعوه؟

    نحن سنرى صفات الصديق ، ونرى الناس الذين حولنا، والذي فيه هذه الصفات سيكون أقرب للدعوة، ولابد أن نعرف أن عملية الدعوة ليست عملية عشوائية، فالدعوة حسن اختيار، والدعوة براعة في التخطيط، والدعوة أصول وقواعد.

    النقطة الثالثة الهامة: أن الهداية من عند الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعو إلى الإسلام أبا طالب عمه، وحاول معه عشر سنوات كاملة، وأبت نفس أبي طالب إلا الكفر.

    ثم ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الصديق فيستجيب له في لحظة، قال عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

    والحقيقة أن عندي قناعة شخصية أن الله عز وجل كما اصطفى أنبياءه من بين خلقه فإنه أيضاً اصطفى من يساعدهم ويعاونهم، فعندي قناعة فعلاً أن الله عز وجل اصطفى جيل الصحابة فخرج جيلاً على أفضل ما يكون، خرج جيلاً يستطيع أن يحمل الرسالة التي من الواجب أن تصل إلى كل الأرض، والتي من الواجب أن تستمر إلى يوم القيامة، الرسالة التي تعبر حاجز الزمان والمكان، روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...) إلى آخر الحديث.

    وأيضاً: أنا عندي قناعة والله! أن الله عز وجل اصطفى من الصحابة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ليكون صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول، وليكون ساعده الأيمن في هذه الدعوة، وليكون خليفته بعد أن يموت.

    إذاً: يجب ألا تغيب هذه الحقيقة أبداً عن أذهاننا، وهي قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

    1.   

    صداقة أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام واشتراكهما في كثير من الصفات

    أول ما يلفت الأنظار في قصة الصديق رضي الله عنه أنه كان صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، بل كانا صديقين حميمين، وحقاً الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.

    فتعارفت روحا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، وأحب كل منهما الآخر حباً لا يوصف، وإنه لفضل عظيم للصديق أن يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقاً وحبيباً.

    لاشك أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أهلاً لذلك، هذا الحب المتبادل بين الطرفين يفتح القلب، وينور العقل، ويرفع كثيراً من الحواجز التي توجد عادة بين عموم الناس، ويمهد الطريق لكل خير.

    فرسالة لطيفة لكل الدعاة: لن تصل دعوتك إلى الناس إلا إذا أحببتهم وأحبوك حباً متبادلاً، ولابد أن يكون من نوع الحب الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الصديق ؛ فإنه حب لم يبن على علاقة رحم، أو على مصالح مادية، أو على أغراض دنيوية، إنه الحب الذي يسميه الرسول صلى الله عليه وسلم الحب في الله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله.

    فلا يمكن أن يكون إيمان من غير حب يصدق هذا الإيمان.

    قد يقول قائل: أهل مكة جميعاً كانوا يحبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا صحيح، فلماذا لم يصل أحدهم إلى قلبه كما وصل الصديق رضي الله عنه؟

    والجواب: أنه كان هناك توافق عجيب بين الشخصيتين العظيمتين: شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخصية الصديق رضي الله عنه.

    ومن أجل أن نعرف قدر الصديق رضي الله عنه نعرف أنه كانت صفات الصديق تتوافق مع صفات خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

    وإذا توافقت بعض صفات الفرد مع فرد ينشأ نوع من التجاذب بين الفردين.

    فمثلاً: الكريم يحب الكريم الذي مثله، وينفر من البخيل، والأمين يحب الأمين الذي مثله، وينفر من الخائن.. وهكذا، وكلما ازدادت صفات التوافق بين الفردين ازداد التجاذب بينهما حتى يصل إلى حد يكون فيهما الفردان روحاً واحدة في جسدين، يفرح أحدهما فرحاً حقيقياً لفرح الآخر ويحزن أحدهما حزناً حقيقياً لحزن الآخر، ويألم أحدهما ألماً حقيقياً لألم الآخر، وكثيراً ما يقتنع رجل برأي رجل آخر، بل ويدافع عنه إلى نهاية المطاف، مع كون هذا الرأي محارباً من عامة الناس؛ ذلك أنه أصبح دون تكلف ولا افتعال كرأيه تماماً، والله لا أحسب أن رجلاً في أمة الإسلام كان شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام من أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

    والمقصود: هو الشبه في الأخلاق والأفعال، وليس في الصور والأجساد.

    الاشتراك في صفة الصدق والأمانة

    ما الصفة الرئيسية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتهر بها في مكة قبل البعثة وبعدها؟

    إنها صفة الصدق والأمانة، فعرف بالصادق الأمين، وتعالوا ننظر ما هي الصفة التي اشتهر بها الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ عرف بـالصديق، يعني: من كل صفات الرسول صلى الله عليه وسلم النبيلة عرف بالصادق الأمين، ومن كل صفات أبي بكر النبيلة عرف بـالصديق ، وهذه ملحوظة في غاية الأهمية.

    ثم إن صفة الصدق هذه بالذات صفة في غاية الأهمية بالنسبة للداعية وأيضاً بالنسبة للمدعو؛ لأن الكذاب كثير الكذب والخائن كثير الخيانة وغالباً ما يصعب عليه أن يصدق الآخرين أو يأتمن الآخرين؛ لأنه دائم الظن أن الناس يفعلون كما يفعل، ويتصرفون كما يتصرف.

    و أبو بكر لم يكن صادقاً فقط بل كان صديقاً، وكان يستقبح الكذب، وما أثر عنه كذبة واحدة لا في جاهلية ولا في إسلام، ورجل بهذه الصفات لا يفترض الكذب في غيره أبداً، بل هو يحسن الظن فيما يقال له، فما بالكم إذا كان الذي يحدثه رجل اشتهر بالصدق والأمانة حتى لقب بالصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟ ولن يشتهر بهذا عاماً أو عامين، بل أربعين سنة، ولم يشتهر بذلك في معظم أموره، بل في كل أموره، فكيف للصديق أن يفترض فيه الكذب؟ وكيف للصديق أن يفترض الكذب في رجل داوم على الصدق أربعين سنة؟ وكيف يتوقع أن هذا الرجل الذي ترك الكذب على الناس يكذب على الله عز وجل؟ هذا استنتاج بسيط لا يغيب عن عقل الصديق رضي الله عنه، بل إنه لم يغب عن ذهن أي رجل عاشر محمداً صلى الله عليه وسلم، بل حتى من لم يرها مثل هرقل ملك الروم؛ فإنه لما سأل أبا سفيان عن صدق النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان - وكان ما زال كافراً - : إنه لا يكذب، فقال هرقل : ما كان ليدع الكذب عليكم ثم يكذب على الله.. وهكذا.

    فالصدق المتبادل بين الداعية والمدعو من أشد عوامل قبول فكره، وإن كانت جديدة تماماً، وهي رسالة أيضاً إلى الدعاة: كن صادقاً وابحث عن الصادقين.

    اتفاق خديجة وابن الدغنة في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر

    وأعجب من هذا التوافق في صفة الصدق نوع آخر من التوافق بين الصديقين الحميمين أشرنا إليه من قبل: لما نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم عاد مذعوراً إلى السيدة خديجة رضي الله عنه يرجف فؤاده وهو يقول: (زملوني زملوني) ثم أخبر خديجة رضي الله عنه بالخبر وقال لها: (لقد خشيت على نفسي، فقالت المرأة المؤمنة: كلا والله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، هذه هي المبررات التي من أجلها قالت السيدة خديجة : إن الله لن يخزي الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وهي جميعاً من صفات المروءة والنخوة والنجدة.

    احفظ هذا الموقف وتعال انظر ما قاله زيد بن الدغنة سيد قبيلة القارة وهو يسأل أبا بكر عن سبب خروجه من مكة مهاجراً إلى الحبشة، قال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر ! لا يخرج.

    فما هي المسوغات أيضاً في هذا الموقف؟ استمع إليه وهو يبرر فيقول: إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، سبحان الله! إنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولم يكن مشهوراً في العرب أن يوصف رجل بهذه الصفات، ولم يوصف بها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    هذا الاتفاق الملحوظ يفسر كثيراً سرعة تلبية الصديق رضي الله عنه وأرضاه لدعوة الإسلام.

    ولا نجد شخصاً فيه هذا التوافق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي بين الصاحبين الجليلين، مما يؤكد أن الله عز وجل كما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار أبا بكر للصحبة.

    الاشتراك في صفة التواضع

    وهناك توافق آخر في غاية الأهمية بين الصاحبين العظيمين: التوافق في صفة التواضع، والداعية المتكبر لا يصل بدعوته إلى الناس أبداً؛ لأن الناس يكرهون المتكبرين ولا يقبلون أفكارهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد الخلق تواضعاً، ومع علو قدره ومكانته إلا أنه لم يكن يترفع أبداً على أي إنسان: حراً كان أو عبداً، غنياً كان أو فقيراً، ولذلك كان يصل بدعوته إلى الخلق أجمعين.

    لكن إذا كان كذلك فلماذا لم يؤمن كثير من أهل مكة؟ لماذا لم يؤمن مثلاً الوليد بن المغيرة ، مع أنه في قياسات هذا الزمن كان عاقلاً حكيماً؟ الجواب: لأنه كان متكبراً.

    والدعوة وصلته بالفعل، ووصلت إلى قلبه، لكن كما قال عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] فماذا فعل الوليد ؟

    قال وقال من معه كما حكى عنهم ربنا في كتابه العزيز: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31].

    ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عظيماً فقط، بل هو أعظم الخلق أجمعين، ولكن مقياس العظمة عند هؤلاء مقياس مختل، فالعظمة عندهم لا تكون في خلق ولا في عقيدة، وإنما تكون في وفرة مال، أو في سعة أملاك، أو في سلطان، لهذا الكبر المقيت صرفوا عن آيات الله عز وجل، قال عز وجل: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146].

    و أبو بكر رضي الله عنه لم يكن من هذه الشاكلة، بل على العكس تماماً، كان الصديق متواضعاً شديد التواضع، ولم يكن تواضعه رضي الله عنه مختلقاً أو مصطنعاً، بل كان تواضعاً فطرياً أصيلاً في شخصيته، من أجل هذا عندما تأتي تقول لي: ما هي مواقف التواضع في حياة الصديق ؟

    أقول لك: هذا السؤال في منتهى الصعوبة؛ لأن معناه: أنك تحكي حياة الصديق بكاملها، لكن أنا أختار موقفاً واحداً من حياة الصديق ، إنه موقف ينطق بتواضعه الفطري رضي الله عنه وأرضاه، هذا الموقف كان بعد أن تولى الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أشق وأصعب.

    والإنسان قد يتواضع عندما يفتقر إلى تمكين أو سيادة أو سلطان، لكن أن يتواضع وهو في أعلى مناصب الدولة فهذا هو التواضع الحقيقي الواضح.

    خرج الصديق رضي الله عنه يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما المتجه إلى حرب الروم في الشمال.

    و الصديق حاكم الدولة، ويبلغ من العمر ستين عاماً، وأسامة بن زيد جندي من جنوده، ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره.

    وسن الثامنة عشرة سن من هم في الثانوية العامة، ومع ذلك الصديق الحاكم المسن يخرج يودع الجيش ماشياً على قدميه، وأسامة بن زيد الذي هو شاب يركب على جواده، إنه موقف في منتهى الغرابة، ولافت - جداً - للنظر، وطبعاً هذا الموقف لفت نظر أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله! لتركبن أو لأنزلن، فقال الصديق المتواضع رضي الله عنه: والله! لا تنزل، ووالله! لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة.

    انظروا التربية الراقية التي على منهج النبوة، إنه يربي نفسه على التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بنفسه، ويربي كل الجنود على الطاعة لهذا الأمير الصغير الشاب، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه، وإخلاص النية ووضوح الرؤية، ثم هو يمعن في التواضع فيطلب من الأمير الشاب على سبيل الاستئذان طلباً غريباً فيقول: إن رأيت أن تعينني بـعمر فافعل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد جعل عمر بن الخطاب في جيش أسامة تحت إمرة أسامة ، والصديق يريد عمر للوزارة، والصديق هو الخليفة، لكنه لا يريد أن يكسر هيبة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يريد أن يكسر هيبة الأمير الشاب أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، فاستأذنه بأدب ولطف وقال: إن رأيت أن تعينني بـعمر فافعل، فأذن له أسامة ، وعمر بن الخطاب لما كان يرى أسامة كان يقول له: مرحباً بك أيها الأمير؛ لأنه كان أميراً عليه.

    هذا هو الصديق المتواضع، ورجل في هذا التواضع لا يمكن أبداً أن ينكر الحق إذا سمعه، وبالذات لو سمعه من أعظم المتواضعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    هذا التواضع المتبادل بين الداعية والمدعو شرط لا يغفل لنجاح الدعوة.

    الاشتراك في صفة البعد عن أماكن اللهو والفساد

    وهناك توافق آخر ملحوظ بين الصاحبين الكريمين العفيفين: أنهما كان يبتعدان تماماً عن أماكن الفساد واللهو والشهوات والمعاصي على كثرتها في مكة، وإذا كان ابتعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الموبقات لأنه معصوم صلى الله عليه وسلم فإنه من العجيب لرجل مثل الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يبتعد تماماً عن هذه المنكرات حتى قبل إسلامه وما فيه أحد في مكة يحاسب على هذه الأمور، فهذه الأمور كانت منتشرة انتشاراً كبيراً جداً في مكة، ومع ذلك كان يبتعد عنها؛ لأنها ليست من مكارم الأخلاق، فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يشرب خمراً في جاهلية ولا في إسلام.

    روى ذلك ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة : أنه كان يعرض عنها لأنها تذهب بالعقل، وكان يقول: أصون عرضي وأحفظ مروءتي، وكان يحتقر من يشربها؛ لأنه يهين نفسه بشربها.

    و الصديق لم يزن في جاهلية ولا في إسلام مع انتشار صاحبات الرايات الحمر في مكة، والصديق لم يأت طفرة، ولم يتعود على فحش القوم، ولم يؤذ جاراً، ولم يهضم حقاً، ولم يخلف موعداً، الصديق كان يقدس الأخلاق حتى قبل إسلامه، وحاربه أهل مكة ولم يستطع أحدهم أن يطعنه في خلقه؛ لأنه لم يكن به مطعن رضي الله عنه وأرضاه.

    ولو تخيلنا رجلاً كهذا تعرض عليه دعوة الإسلام ودعوة الأخلاق العظمى في الأرض وعلى لسان أفضل الناس أخلاقاً ماذا يكون رد فعله؟

    من الطبيعي جداً: أن يقبلها، بل وأن يستمسك بها، فهي له خلاص من هذا المجتمع المتعفن بالمعاصي والشهوات والرذائل.

    إذاً: الحب المتبادل والصدق المتبادل والمروءة المتبادلة والتواضع المتبادل والعفة المتبادلة كانت أموراً واضحة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه، هذا التوافق العجيب بين الشخصيتين سهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم توصيل الدعوة كما سهل على الصديق رضي الله عنه وأرضاه قبولها.

    1.   

    معرفة الصديق بطلان دين المشركين قبل الإسلام

    ثم تعالوا نفكر مع الصديق ، فأي دين سأترك كي أنتقل لهذا الدين الجديد؟ هل سأترك دين قريش؟ وما هو دين قريش؟ وأي شيء يعظمون؟ ولأي إله يسجدون؟ أيترك الصديق دين الإسلام ليعظم اللات أو العزى، أو مناة أو هبلاً؟ مستحيل، فـالصديق كان دائم الازدراء لهذه الأحجار، وكما يحكي هو فيقول: لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال لي: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب.

    يقول الصديق : فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني، وطبعاً الصديق يسأله في سخرية منه، فإنه لا ينتظر من هؤلاء إجابة، وكان الناس يعلمون ذلك.

    يقول الصديق : فقلت له: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني، فقلت: إن عار فاكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه، فمنذ أن بلغ الحلم كان هذا الاعتقاد في داخله أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يعلم علم اليقين أن هذه الأوثان ليست آلهة، والصديق رضي الله عنه وأرضاه كان ذكياً حاد الذكاء، ولم يكن يغيب عن ذهنه سفاهة هذه الأصنام، إذ كيف يعقل لصنم أن يخلق وأن يصور، وأن يهدي وأن يرحم، وأن يرزق وأن ينصر؟ كيف يعقل ذلك؟ وكيف يعقل أن بقرة تشرع؟ أو أن شجرة تحكم وتدبر؟

    لم تكن هذه الأمور بالتي تغيب عن ذهن العبقري الفذ الصديق رضي الله عنه، فعلم ببساطة أن دين قريش دين منكر، وأن دين الإسلام هو دين الحق.

    وعلم ببساطة أن لهذا الكون خالقًا، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول.

    لما وضحت هذه الرؤية في عين الصديق رضي الله عنه ورأى حقيقة الإسلام وباطل الجاهلية وعلم الفرق بينهما قرر منذ اللحظة الأولى أن يغير الباطل إلى الحق، وأن يزيل المنكر ويقر المعروف، قرر أن يفعل ذلك مهما كانت التضحيات، فقرر أن يدخل في الإسلام حتى لو حاربته مكة والعرب، بل والعالم أجمع، قرر هذا كله لأنه كان رجلاً إيجابياً، والرجل الإيجابي قلبه يأكله لما يرى منكراً ولا يهدأ له بال، ولا يستريح له قلب، ولا تسكن له جارحة إلا عند تغيير المنكر إلى معروف، وهذه والله! من أعظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    1.   

    إيجابية الصديق وتركه السلبية

    وهناك أناس كثيرون جداً فهموا حقيقة هذا الدين، لكن افتقروا إلى الإيجابية، وأناس كثيرون جداً غرقوا في السلبية وعاشوا على كلمة: وأنا ما لي؟ فكانت هذه الكلمة سبباً في هلاكه وهلاك المجتمع.

    من أجل أن نفهم قيمة إيجابية الصديق تعالوا نقارنه برجل من حكماء قريش وعقلائهم كما يقولون، لكنه كان يتسم بسلبية قاتلة فهلك وأهلك من حوله، إنه عتبة بن ربيعة ، لما سمع كلام الله عز وجل على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثرت فيه الآيات المعجزات من صدر سورة فصلت، عاد إلى قومه مسرعاً يتحدث عن القرآن، وكأنه داعية من دعاة الإسلام فقال: سمعت قولاً والله! ما سمعت مثله قط، والله! ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. لكن ماذا كانت النتيجة بعد هذا اليقين بصدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ استمع إليه وهو يعرض رأيه:

    يقول عتبة بن ربيعة : يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله! ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله! يا أبا الوليد ! بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.

    لكن الرجل عتبة بن ربيعة سلبي إلى أبعد درجات السلبية، فهو على يقين من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن هذا الكلام ليس بكلام البشر، ومع هذا فرأيه الذي يظنه حكيماً أن تخلي قريش بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العرب، فإن انتصر العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم مع العرب، وقد أراحوا أهل قريش من محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصبهم أذى الحروب، وإن انتصر محمد صلى الله عليه وسلم على العرب سارعوا بالانضمام إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

    وهذه سلبية مطلقة، فلما اعترض القوم على كلامه وقالوا: سحرك والله! يا أبا الوليد ! بلسانه، ماذا فعل أبو الوليد الرجل العاقل الحكيم الذي أدرك صدق الرسالة؟ قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم، والقوم صنعوا السيئ والقبيح، فإذا به يصنع السيئ والقبيح معهم، بل إنهم خرجوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم في بدر فإذا بـعتبة بن ربيعة يحمل سيفه ويخرج مع الكافرين يقاتل رجلاً تيقن أنه نبي. فأي سلبية هذه؟ وأي إمعية هذه؟ هذا الطراز الفاشل من الرجال لا يصلح للدعوات المصلحة.

    وإذا نظرنا إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه فليس في الإسلام رجل بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عن السلبية من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ظهرت إيجابيته في كل مواقف حياته رضي الله عنه، ظهرت في إسلامه، وظهرت في إعتاقه للعبيد، وفي دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءً في مكة أو في المدينة، وظهرت في إعداده للهجرة، وظهرت في ثباته في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهرت كذلك إيجابيته عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت في حروب الردة، وظهرت في فتوح فارس والروم، وظهرت في جمعه للقرآن، وظهرت إيجابيته في كل نقطة من نقاط حياته، وفي مساعدته للفقراء والمحتاجين وكبار السن، وفي معاملاته مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان رضي الله عنه وأرضاه نبراساً لكل مصلح، ودليلاً لكل محسن، ما رأى معروفاً إلا وأمر به، وما رأى منكراً إلا وحاول تغييره بكل طاقته بيده ولسانه وقلبه، لذلك شق عليه كثيراً أن يرى بعض المؤمنين يتركون النهي عن المنكر؛ لأنهم فهموا آية من آيات الله عز وجل على غير معناها الصحيح.

    سمع بعض المؤمنين الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105]، فظن بعض المؤمنين أن هذه دعوة إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وظنوا أن الله يقول لهم: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة:105] أي: اهتموا بأنفسكم فقط، ولا يضركم ضلال غيركم، فلا تهتموا بهم، والأمر على خلاف ذلك تماماً، فوقف أبو بكر رضي الله عنه ليصحح لهم الفهم، وليصلح لهم الطريق، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه) روى ذلك أصحاب السنن والإمام أحمد رحمهم الله جميعاً، وهكذا فإن هذا الرجل الإيجابي كان ولابد أن يسعى للتغيير والإصلاح، وإذا وجد المنهج القويم المعين على ذلك وقد وجد ضالته في الإسلام فما تردد لحظة وما تأخر.

    إذاً: بنظرة عامة على ما سبق نرى أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كانت فيه صفات مميزة تجعله قريباً من الإسلام والإيمان، وكان به صدق فطري، وكانت به مروءة ونخوة ونجدة، ومساعدة للناس، وكان به تواضع عظيم، وكان عفيفاً شريفاً صاحب أخلاق وأصول، وكان ذكياً عبقرياً، وكان كارهاً للأصنام محتقراً لها، وكان إيجابياً مؤثراً في بيئته غير متأثر بها، كل هذه الصفات جعلته قريباً جداً إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فأحبه حباً عميقاً وبادله الصديق الحب كذلك، فأصبحا صديقين حميمين لا يفترقان حتى قبل الرسالة.

    لما تنظر إلى كل هذه الأمور تعلم أنه ليس عجيباً أن يسبق الصديق إلى الإسلام، بل العجب كل العجب ألا يكون الصديق أول الناس إسلاماً، وإن كان السبق إلى الإسلام حدثاً هاماً لا يغفل، فالسبق في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان علامة مميزة له في كثير من المواقف الأخرى، بل لعله كان حريصاً ألا يسبق في أي مجال من مجالات الحياة، وسبحان الله! تشعر وأنت تقرأ سيرة الصديق رضي الله عنه أنه اتخذ في حياته شعاراً واضحاً: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] فكان رضي الله عنه وأرضاه دائم العجلة إلى الله عز وجل.

    1.   

    حرص الصديق وسبقه في الاطمئنان على إيمانه

    وتعالوا ننظر بعض المواقف الأخرى التي تجعلنا نفهم معنى السبق في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان من المستحيل حصر كل هذه الأمثلة في حياته، فهي حياته كلها:

    تعالوا ننظر حرصه وسبقه وحسمه في الاطمئنان على صدق إيمانه، وعلى سلامة عقيدته، وطبعاً هذا الكلام ممكن يتعجب منه الكثير، فقد نفهم أن عرض قضية سرعة إسلامه للمناقشة كان لغرابتها، ولكن الجميع يعلم أنه منذ أن أسلم وهو أعلى الصحابة إيماناً وأمتنهم عقيدة فكيف يسارع إلى الاطمئنان على عقيدته وإيمانه؟ هل من الممكن أن يشك أحد في هذا الإيمان، وفي هذه العقيدة؟ اسمع إلى هذه القصة العجيبة:

    روى الإمام مسلم رحمه الله عن حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب أحد كتاب رسول الله قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟! وهذا سؤال عادي، الصديق رضي الله عنه وأرضاه يطمئن على حال حنظلة بسؤال عادي، لكن حنظلة رد بإجابة غير عادية إجابة غريبة جداً فقال: نافق حنظلة ، وحنظلة من الرجال المشهود لهم بالإيمان، فكيف يقول ذلك عن نفسه؟ تعجب الصديق كما تعجبنا وقال: سبحان الله! ما تقول؟ فبدأ حنظلة رضي الله عنه وأرضاه يفسر كلماته العجيبة فقال: (نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً) يقصد أننا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم نتأثر كثيراً بالكلام عن الجنة والنار حتى كأننا نراها عياناً بياناً.

    ومن المؤكد وهم في هذه الحالة أنهم يعتزمون ألا يفعلوا شيئاً في حياتهم إلا أفعال الآخرة فقط، ينوون أن يخرجوا فيفردون الأوقات الطويلة في الصلاة، والقرآن والقيام والدعوة والجهاد وغير ذلك، ويصبحون في حالة زهد تام في الدنيا ومتاعها، لكن إذا خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلطوا بأمور الحياة الطبيعية، كما قال: عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، يعني: عالجنا ولاعبنا وتعاملنا واختلطنا مع الأزواج والأولاد، والمعايش المختلفة.

    وعند هذه الحالة الأخيرة ينسون كثيراً مما سمعوه من رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم.

    هذا التباين في المواقف بين حالتهم في مجلس العلم وحالتهم في معترك الحياة العامة عده حنظلة نفاقاً، وكان من المتوقع من أبي بكر الصديق الذي يزن إيمانه إيمان أمة أن يهون الأمر على حنظلة ، ويوضح له أن ذلك يعتبر شيئاً طبيعياً من المستحيل على المرء أن يظل على حالة إيمانية مرتفعة جداً دون هبوط ولو قليل.

    كان من المتوقع من هذا الصديق رضي الله عنه وأرضاه الذي لا يشك أحد في إيمانه، والمبشر بالجنة تصريحاً والمقدم على غيره دائماً، كان من المتوقع منه أن يحادثه في قضية الإيمان برابطة جأش، وثبات قدم، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه رجل مفاجآت وقف يحاسب نفسه بسرعة عقله وكان لا يتوقف عن مساءلة نفسه ولو للحظة، وقلبه لا يطمئن إلى عظيم إيمانه، فحاسب نفسه بصراحة ووضوح، فكانت المفاجأة العظمى أن قال: فوالله إنا لنلقى مثل هذا.

    أبو بكر الصديق المشهود له بالإيمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ليس إيماناً عادياً، بل إيمان كإيمان أمة أو يزيد، المشهود له بالتقوى من الله عز وجل، قال الله عز وجل: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17] يعني: أبا بكر .

    هذا الرجل يجد في نفسه هذا الأمر الذي خشي أن يكون نفاقاً، ومع أن الخاطر عجيب، ومع أن الهاجس غريب، ومع أنه من الطبيعي تماماً لرجل في مكانته أن يترك هذه الأفكار بسرعة إلا أن الصديق ليس كذلك.

    الصديق يسبق إلى الاطمئنان على إيمانه، فإذا به يسارع مع حنظلة رضي الله عنه إلى الذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للاطمئنان على قضية الإيمان.

    يقول حنظلة رضي الله عنه: (فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: وما ذاك؟ قال حنظلة : يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً) وهنا يتكلم الطبيب الماهر والحكيم العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله! كأني ألحظ على وجهه ابتسامة بسيطة وبشراً في أساريره، وحناناً في صوته وهو يقول في هدوء: (والذي نفسي بيده! لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ساعة وساعة، ساعة وساعة) قالها ثلاث مرات صلى الله عليه وسلم.

    ومن المفهوم يقيناً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقصد ساعة طاعة وساعة معصية، كما يفهم كثير من الناس: أن هناك ساعة لله، وساعة يخرجون فيها عن منهجه وشرعه، مثلما يقولون: ساعة لربك وساعة لقلبك، فهذا لا يجوز، لكن المقصود: هو ساعة تفرغ وخلوة واجتهاد في الطاعة، وساعة أخرى تفرغ لأعمال الدنيا الحلال التي يطالب الإنسان أيضاً بها في الشرع كرعاية الأزواج والأولاد، ومتابعة أسباب الرزق، واللهو الحلال.. إلى غير ذلك من الأمور المباحة.

    الشاهد اللطيف في القصة هو: حرص الصديق على قضية الإيمان، مع أنه كان من الممكن أن ينتظر حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة من الصلوات، فالعملية كلها ساعة أو ساعتان، لكنه سارع إليه مطبقاً شعاره: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84].

    1.   

    سبق الصديق إلى الدعوة إلى الله عز وجل

    وسبحان الله يا إخوة! إن كان عجيباً سبق الصديق إلى الإسلام، وإلى الإيمان، فلعل الأعجب من ذلك: سبقه إلى الدعوة إلى هذا الدين، وحماسته لنشره، وحميته لجمع الأنصار له، وسرعته في تبليغ ما علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة ما علمه في ذلك الوقت.

    وبعضنا يعتقد أنه محتاج لعلم غزير جداً حتى يتحرك في مجال الدعوة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فسبق الصديق إلى الدعوة لهذا الدين الجديد، فإذا به يأتي في اليوم الأول من دعوته بمجموعة من الرجال قل أن يجتمعوا في زمان واحد، الرجل منهم بألف رجل والله! أو يزيد، أتى في اليوم الأول بخمسة، أتى بـعثمان بن عفان ،و الزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الرحمن بن عوف ، هؤلاء الخمسة صناديد الإسلام وعباقرة الإسلام أتوا جميعاً على يد الصديق ، وهذا الحدث عظيم لا يحتاج إلى وقفات، وبتحليل إسلام هؤلاء الخمسة يزداد المرء عجباً أكثر!

    أولاً: ليس من هؤلاء أحد من قبيلته بني تيم إلا طلحة بن عبيد الله فقط، وبقيتهم من قبائل أخرى، فـعثمان بن عفان أموي من بني أمية، والزبير بن العوام من بني أسد، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، فالاستجابة له لم تكن من باب القبلية، ولكن كما هو واضح كانت له صداقات قوية، وعلاقات وطيدة في كثير من أركان المجتمع المكي قبل الإسلام، وهذا لاشك أساس رئيسي من أسس الدعوة.

    ثانياً: أعمار هذه المجموعة كانت صغيرة جداً وبعيدة عن عمر الصديق ، فـالصديق كان عمره (38) سنة، والزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه كان في الخامسة عشرة من عمره، ومع ذلك لم يستصغره أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأسر بهذا السر الخطير -سر دعوة الإسلام- في بلد لا محالة ستحارب هذه الدعوة.

    فـالزبير بن العوام أخذ قرار الإسلام وقرار تغيير الدين ومحاربة أهل مكة جميعاً وهو في سن الخامسة عشرة، ويبدو أن تربيتنا لأطفالنا تحتاج إلى إعادة نظر، فكثير منا يعتقد أن ابنه الذي في الجامعة أو بعد الجامعة لا يزال صغيراً ما يقدر أن يتحمل المسئولية ولا يقدر أن يتخذ قراراً، فـالزبير بن العوام أسلم وعمره (15) سنة.

    وطلحة بن عبيد الله كان أكبر من ذلك قليلاً، يعني: كان عمره حوالي (16) سنة.

    وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه كان في السابعة عشرة من عمره، وقد يظن البعض أن سعد بن أبي وقاص كان حينئذ رجلاً كبيراً ابيض شعره.

    و عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه كان نحو ذلك أيضاً، وكان أكبرهم عثمان بن عفان كان عمره (28) سنة.

    إذاً: أبو بكر الصديق قبل الإسلام كانت له علاقات طيبة كثيرة مع كل طوائف مكة على اختلاف قبائلها، وعلى تفاوت أعمارها، وعندما فكر رضي الله عنه في تبليغ الدعوة بلغها للشباب من أهل مكة، وبالذات لأولئك الذين اشتهروا بالطهر والعفاف وحسن السيرة، وكان لهم رضي الله عنهم وأرضاهم بمثابة الأستاذ للتلميذ، فسمعوا له واستجابوا فكان خيراً له ولهم، وللإسلام والمسلمين، وهذه إشارة لكل الدعاة أن يعطوا قدراً كبيراً واهتماماً عظيماً للشباب؛ فعلى أكتاف الشباب تقوم الدعوات.

    ثالثاً: بعد أن أتى بهذا الرعيل الأول وهذا المجهود الوافر ما فتر حماسه، وما كلت عزيمته، ولكنه أسرع في الأيام التالية يأتي بغيرهم.

    وفي اليوم الثاني أتى بـأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه أمين هذه الأمة، وهو من بني الحارث بن فهر، وكان عمره (27) سنة.

    وأيضاً في نفس اليوم جاء بـعثمان بن مظعون وهو من بني جمح، ثم في اليوم الثالث أتى باثنين في منتهى الغرابة، وهما: الأرقم بن أبي الأرقم ، وأبو سلمة بن عبد الأسد وهذه الغرابة أنهما من بني مخزوم، وبنو مخزوم قبيلة كانت تتنازع لواء الشرف مع بني هاشم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف أثر عليهما الصديق رضي الله عنه وأرضاه حتى أتى بهما يدخلان في الإسلام تحت قيادة رجل من بني هاشم؟

    هذا أمر لافت للنظر، ولاشك من الواضح الجلي أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان قريباً من قلوبهم إلى درجة هي أقرب من القبلية والعنصرية والعصبية وحمية الجاهلية.. وغير ذلك من الدوافع المنتشرة في ذلك الزمان.

    و الأرقم بن أبي الأرقم الذي أتى به الصديق هو الذي فتح بعد ذلك بقليل بيته للمسلمين كما تعلمون، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدون فيه لقاءاتهم، ويتعلمون فيه دينهم، بعيداً من أهل مكة، معرضاً نفسه لخطر عظيم وخطب جليل، وهذا الرجل البطل المغوار المغامر الجري كان عمره (16)سنة.

    رابعاً: ستة من الذين دعاهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه للإسلام من العشرة المبشرين بالجنة وهم صفوة الصحابة، وخير الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، والآخرون أيضاً من أهل الجنة إن شاء الله من السابقين، وإن العقل ليعجز فعلاً أن يتخيل حجم الثواب الذي حصله أبو بكر الصديق من هذه الدعوة لهؤلاء ولغيرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن عقبة بن عمرو الأنصاري : (من دل علي خير فله مثل أجر فاعله) وتدبر في أفعال هؤلاء العظماء الذين أتى بهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وتدبر في أعمال عثمان وفي أعمال الزبير وطلحة ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ،و أبي عبيدة ، وقف وقفة مع كل واحد، وتدبر مع أبي سلمة ، وتدبر مع عثمان بن مظعون ، والأرقم ، ثم سيأتي بعدهم آخرون أمثال: بلال وعامر بن فهيرة وغيرهم ممن أتى على يد الصديق ، تدبر في ذلك، واعلم أن أجور هؤلاء جميعاً ومن هداهم الله على أيديهم كل هذا في ميزان الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    وحتى تعلم عظم الدعوة إلى الله عز وجل وشرف العمل الذي وكله الله للأنبياء ومن سار على نهجهم اقرأ قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

    تدبر يا أخي! في كل هذا، ثم تدبر في مجهوداتنا لهذا الدين، فهذا الصديق أتى بهؤلاء وحمل معه أجور هؤلاء، فمن من البشر أتينا به إلى طريق الله عز وجل؟

    وكم من الأجور حملنا معنا في ميزاننا؟

    لابد أن نقف مع النفس وقفة هامة لإجابة هذا السؤال، ونسأل الله عز وجل أن يسدد خطانا، ويبصرنا بما يصلح ديننا ودنيانا وآخرتنا.

    الصديق رضي الله عنه وأرضاه مثلما وقفنا وقفة مع إسلامه تعالوا نقف وقفة مع دعوته، ونتساءل: لماذا استجيب لدعوته بهذه السرعة؟ ولماذا أحبه قومه إلى هذه الدرجة؟

    استمع إلى كلام طلحة بن عبيد الله وهو من الذين جاء بهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه في اليوم الأول.

    استمع إلى كلام طلحة وهو يصف أبا بكر الصديق ، ولاحظ أن هذا الوصف قاله طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه يوم إسلامه.

    يشرح لنا طلحة بن عبيد الله بعض المفاتيح التي كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يفتح بها قلوب الخلق، قال: وكنت أعرف أبا بكر ، فقد كان رجلاً سهلاً محبباً موطأ الأكناف، أي: لين الجانب، وهذه صفة هامة من صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد تكلمنا عليها قبل ذلك.

    فـالصديق كان سهلاً محبباً إلى القلوب، كان ليناً مع الناس رفيقاً بهم، كان حنوناً عطوفاً رحيماً، فرجل بهذه الصفات لابد أن يحبه الناس، وصدقت يا رسول الله! وأنت تصف المؤمن فتقول: (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) روى ذلك الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    وتذكروا وصف ابن الدغنة للصديق ، فمن المؤكد أن هذا الرجل الذي جعل من همه أن يعطي الفقراء، وأن يصل من رحمه، وأن يطعم الضيوف وأبناء السبيل، وأن يساعد الضعفاء، وأن يعين الناس في المصائب والكوارث، لاشك أن هذا الرجل سيكون محبوباً بين الناس، ولابد أن دعوته ستكون مقبولة.

    ونكمل يقول طلحة رضي الله عنه وأرضاه في وصف لـأبي بكر الصديق : وكان تاجراً صاحب خلق واستقامة، وهذه أيضاً صفة من صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

    فـالصديق كان تاجراً، وكان كثير الأموال، وكان رجلاً معطاءً كثير العطاء.

    وإن شاء الله في الدرس القادم سنتحدث عن تفصيل ذلك.

    والناس بطبعهم يحبون مجالس الرجل الذي ألف العطاء، وألف السخاء، فحتى وإن كانوا لا يريدون منه مالاً فعلى الأقل هو لن يطلب منهم شيئاً، والناس بطبعهم ينفرون من الذين يطلبون منهم شيئاً ويستقرضونهم في كل مناسبة، ومن ثم فلا عجب أن أهل مكة كانوا يحبون مجلس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وفوق ذلك كما يقول طلحة رضي الله عنه وأرضاه: كان تاجراً صاحب خلق واستقامة، والتجارة والمال كثيراً ما يغيران من نفوس الناس؛ فكثيراً ما يغش التاجر في تجارته، ويدلس على زبائنه، وكثيراً ما يحلف على بضاعته بالكذب؛ ليزداد ربحاً، لذا فإن التاجر المستقيم صاحب الخلق لابد وأن يكون محبوباً في هذا الجو، ولابد وأن يكون مقرباً في قلوب الناس، وبالتبعية فإن الله عز وجل يعظم من أجر التاجر المستقيم. روى الترمذي والدارمي رحمهم الله وقال الترمذي : حديث حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء).

    فالمكافأة للتاجر الصادق أنه مع النبيين والصديقين، فما بالك لو كان هذا التاجر ليس صادقاً بل صديقاً وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟

    فرجل بهذه الصفة لابد أن يحب بين الناس، وأن يحترم بين الناس، وأن يستمع إلى كلامه بين الناس. يقول طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه وهو يذكر صفة ثالثة للصديق رضي الله عنه وأرضاه: وكنا نألفه ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش وحفظه لأنسابها.

    فهذه صفة جديدة تحبب الصديق إلى الناس، وكان لها أثر في استجابة الناس له.

    فـالصديق كان عالماً بالعلم الذي يفيد في زمانه، وطبعاً في وقتنا ليس الناس بحاجة إلى حفظ الأنساب من أجل أن يكونوا مثل الصديق ، وإنما يتعلم العلم الذي يحتاجه أهل البلد، وعلم الأنساب في ذلك الوقت كان من العلوم الهامة جداً في المجتمع المكي القديم في ذلك الزمن، وقد شهد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للصديق في الحديث الذي روته عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها) وفوق علمه بالنسب كان كريم الخلق رضي الله عنه وأرضاه، ولم يكن يطعن في نسب أحد مهما علم فيه من مثالب ومساوئ، هكذا جعل الصديق رضي الله عنه وأرضاه علمه مفيداً للناس، فأحبه الناس حباً جماً، وهذه رسالة إلى كل الدعاة أن عليهم أن يتعلموا العلم النافع الذي يصلح بيئتهم ومجتمعهم، وألا يتكبروا بعلمهم على الناس؛ فذلك كما علمنا الصديق الطريق إلى قلوب العباد.

    و الصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يكن حريصاً على أصدقائه ومعارفه على حساب أهل بيته.

    ونحن نرى كثيراً جداً من الدعاة ينفقون الساعات الطوال في دعوة الآخرين، ثم هم يقصرون تقصيراً شديداً في دعوة أهل بيتهم، مع أنهم سيسألون عنهم قبل الآخرين.

    روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته).

    و الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان راعياً في بيته؛ أدخل في الإسلام زوجته أم رومان رضي الله عنها، وزوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وأدخل أولاده عائشة وأسماء وعبد الله رضي الله عنهم أجمعين، ثم ما لبث أن أدخل أمه أيضاً في الإسلام بعد أن طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية، ويتأخر ابنه عبد الرحمن عن الإسلام كثيراً؛ فإنه أسلم يوم الحديبية، وشق ذلك على أبي بكر رضي الله عنه، وكان له موقف عجيب معه، سيأتي ذكره لاحقاً -إن شاء الله- في محاضرة قادمة.

    وتأخر إسلام أبيه أكثر من ذلك، لكن ما نسيه الصديق رضي الله عنه حتى كان يوم فتح مكة، فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو قحافة رجلاً مسناً طاعناً في السن حتى قالوا: كأن رأسه ثغامة، والثغامة: نبات أبيض يشبه به الشيب، فجاء به الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرسول الكريم المتواضع صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر ! هلا تركته حتى نأتيه؟ فقال أبو بكر - في أدب جم -: هو أولى أن يأتيك يا رسول الله! فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    في رواية البزار : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نحفظه لأيادي ابنه عندنا) يعني: نحفظ هذا الرجل الكبير المسن لأيادي ابنه الصديق عندنا.

    وهكذا فعائلة الصديق كلها مسلمة.

    ومن غرائب عائلة الصديق أنها هي العائلة الوحيدة التي تميزت بأنها تجمع في طياتها أربعة أجيال متعاقبة صحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

    الجيل الأول هو: جيل أبي قحافة وزوجته والدة الصديق رضي الله عنهم وأرضاهم.

    الجيل الثاني هو: جيل الصديق وزوجاته.

    الجيل الثالث: جيل أولاد الصديق : أسماء ، وعائشة ، وعبد الله ، وعبد الرحمن ، وكان الصديق له بنت خامسة اسمها: أم كلثوم لكن ولدت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليست بصحابية.

    الجيل الرابع: جيل أحفاد الصديق الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن الزبير بن العوام ابن السيدة أسماء ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.

    وطبعاً أدخل الصديق في الإسلام كل غلمانه وأعتقهم، وأشهرهم - كما تعلمون - عامر بن فهيرة ، وبلال بن رباح رضي الله عنهما.

    هذه العائلة المباركة بارك الله فيها، وعمت بركتها على أمة المسلمين جميعاً، وسبحان الله! انظر كيف عمت بركة الصديق رضي الله عنه وأرضاه على عائلته من أولها لآخرها.

    1.   

    سبق الصديق رضي الله عنه إلى كل أعمال الخير

    وكما رأينا سبقه رضي الله عنه وأرضاه في الإسلام والإيمان والدعوة وغير ذلك فإننا أيضاً نرى بوضوح سبقه رضي الله عنه وأرضاه في كل أعمال الخير.

    روى الإمام مسلم عن أبي هريرة والبيهقي عن أنس بن مالك والبزار عن عبد الرحمن بن أبي بكر حديثاً يوضح لنا مثالاً لمسارعة الصديق رضي الله عنه إلى الخير.

    ونذكر رواية البزار ؛ لأن فيها توضيحاً أكثر للموقف: يقول عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه فقال: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ فقال عمر : يا رسول الله! لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطراً، فقال أبو بكر : ولكني حدثت نفسي بالصوم البارحة فأصبحت صائماً) وطبعاً هذا تفتيش مفاجئ من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة.

    ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (هل أحد منكم اليوم عاد مريضاً؟ فقال عمر : يا رسول الله، لم نبرح فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر : بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاك فجعلت طريقي عليه لأنظر كيف أصبح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ فقال عمر : صلينا يا رسول الله! ثم لم نبرح، فقال أبو بكر : دخلت المسجد فإذا بسائل فوجدت كسرة من خبز الشعير في يد عبد الرحمن فأخذتها ودفعتها إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت فأبشر بالجنة) ثم قال كلمة أرضى بها عمر رضي الله عنه.

    بل إن في رواية أبي هريرة في صحيح مسلم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا فيقول: (فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ فقال أبو بكر : أنا) وفي نهاية الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم : (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).

    وحقاً والله! إنه من العسير أن تحصي مواقف السبق في حياة الصديق رضي الله عنه.

    فالسبق في حياته يشمل كل حياته، يلخص هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في الحديث الذي أختم به حديثي هذا، الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

    يقول عمر : (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، قلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً) وواضح من هذا أن الصديق كان يسبق عمر بن الخطاب في كل الأفعال، قال: (فجئت بنصف مالي)، وهذا عطاء ضخم جداً، فواحد معه عشرة آلاف جنيه مثلاً وأخرج منها خمسة آلاف جنيه للدعوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستكثر هذه الصدقة: (ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده)، سبحان الله! أتى أبو بكر بكل ماله الذي في البيت، أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا بكر ! ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر بن الخطاب : لا أسبقه في شيء أبداً) هكذا يقول: لسان مقاله: إنه لا يسبق الصديق رضي الله عنه، وعن عمر وعن الصحابة أجمعين.

    وصل وسلم وبارك على الذي علمهم وأرشدهم ودلهم على كل خير صلى الله عليه وسلم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767205724