أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً، اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا علمت الوفاة خيراً لنا! اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين!
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.
ثم أما بعد:
فمع المحاضرة الحادية عشرة من المحاضرات الخاصة بقضية فلسطين، ما زلنا في حديث حول بعض الوسائل الإيجابية لمساعدة أهلنا في فلسطين، وواقع الأمر أن هذه الوسائل ليست خاصة بفلسطين فقط، بل إنها تصلح لكل بلاد المسلمين، كما تصلح لكل زمان يمر على أمة المسلمين، فالفهم الصحيح لا يساعد فلسطين، بل هو أساس وركن ركين لحل كل قضايا المسلمين، والأمل وقتل الإحباط لا يساعد فلسطين فقط، بل هو كالروح في الجسد، إن ذهبت الروح فلا حراك للجسد ومصيره إلى تآكل وفناء، وكذلك إن ذهب الأمل أصبحت الأمة بأسرها بلا حراك، ومصيرها إلى تآكل وفناء، وبذل المال لا يساعد فلسطين فقط، فأمة الإسلام لا تقوم إلا على أكتاف من تاقت نفوسهم لبذل المال، وتعاظم حب الله في قلوبهم على ما سواه من مال وأهل وديار ونفس.
فهذه وسائل ثلاث: الفهم، والأمل، والبذل، وهي هامة لفلسطين ولكل منطقة إسلامية جرحت فسالت دماؤها غزيرة، كالشيشان وكشمير والبوسنة، بل هي هامة لكل دولة إسلامية، فأنى لك بأمة صالحة قائدة رائدة بغير فهم متبوع بعمل، وبغير أمل متبوع بحركة، وبغير تعاطف متبوع ببذل، فلا تقوم الأمة بغير ذلك، فنحن لا نبني فلسطين فقط بل نبني أمة بكاملها، ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق.
اليوم حديثنا عن وسيلة رابعة لبناء فلسطين بل لبناء الأمة الإسلامية المنشودة، أقدم لهذه الوسيلة بحدث مر عليه أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان لكنه بأبعاده كلها ما زال حياً إلى الساعة، في السنة السابعة من بعثة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد دعوة كريمة من سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ومقاومة لئيمة من صناديد قريش الكافرين، وبعد إجابة غالبها من ضعفاء القوم، ورفض غالبه من كبراء القوم، بعد هذه السنوات السبع من الدعوة والمقاومة والإجابة والصبر والثبات والتعذيب واليقين والشك اجتمع زعماء الكفر وحلفاؤهم وتآمروا على المسلمين ومن عاونهم ولو لم يكن مسلماً فصنفوا الناس صنفين:
الصنف الأول: القبائل المارقة.
والصنف الثاني: القبائل الصديقة.
أما المارقون: فهم المسلمون ومن انحاز لهم، وأما الأصدقاء: فهم من رضي بالكفر، وزعماء الكفر، وحلفاء الكفر، ومن غريب الأمر أن بني المطلب وبني هاشم انحازوا للمسلمين مع كونهم كافرين، حمية وقبلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن غريب الأمر أن زعماء الكفر وحلفاءهم اعتبروا بني هاشم وبني المطلب مارقين أيضاً مع كونهم على نفس ملتهم، لكنها كانت حرباً صريحة على الإسلام، ليس فيها اعتبار لعرق ولا لملة ولا للون، فالصراع بكل وضوح كان صراع أديان.
قرر التحالف الآثم ألا يناكحوا المارقين ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، وكتبوا بذلك وثيقة وأقسموا باللات والعزى وأشباههما ألا يخالفوا وثيقتهم.
ومنظمة القبائل المتحدة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت أنه من العدل والإنصاف، وللحفاظ على الحرية والحضارة والمدنية في مكة، أن تحاصر جماعة المسلمين وزعيمهم محمداً صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، وبالفعل تم الميثاق وعلقت الصحيفة الظالمة في جوف الكعبة المشرفة، مع تغطية إعلامية واسعة داخل مكة وخارجها؛ وذلك لتسهيل عملية قتل الأبناء والإخوة.
لا بد من إقناع الجميع أننا ما قتلنا أهلنا في الشعب إلا للحفاظ على النظام العام في مكة، والسلام في المنطقة بأسرها، واشتد الحصار على المسلمين، وقطعت عنهم كل المواد والمؤن، لكن بفضل الله لم يقصف شعب أبي طالب بالرماح، ولم يخترق مجاله الجوي بالسهام، فما زال هناك بصيص رحمة في قلوب الكافرين، كان المشركون لا يتركون طعاماً ولا بيعاً يدخل مكة إلا ابتدروه بالشراء حتى بلغ الجهد بالمسلمين فأكلوا أوراق الشجر والجلود، وكان يسمع من وراء الشعب أصوات النساء والصبيان يتضورون من الجوع.
استمر الحصار الأليم الظالم ثلاث سنوات كاملة، حتى أذن الله أن يفك بنخوة خمسة من الكافرين، وبوحي عجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أظهر له غيب الصحيفة في باطن الكعبة، فالحدث كبير، والدروس لا تحصى.
والشاهد من الحدث: أن أسلوب الحصار أو المقاطعة أسلوب قديم جداً استخدمه المشركون ليضغطوا على المسلمين كي ينزلوا على رغباتهم، استخدم مع المسلمين منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، وما زال يستخدم ضدنا إلى الآن، ولكن بصورة أشد ظلماً وأكثر فتكاً وأقل ضميراً، رأيناهم في العراق وفي ليبيا وفي السودان وفي إيران وفي البوسنة وفي كوسوفو وفي كشمير وفي أفغانستان، ونراه في صورة قاسية في حبيبتنا فلسطين، رأيناه يعكس وجهاً قبيحاً لحضارة مزيفة قلبت الباطل حقاً والحق باطلاً، عانينا من جاهلية اليوم أضعاف أضعاف ما عانيناه من جاهلية الأمس.
ففي العراق مثلاً بلغ عدد الذين ماتوا من جراء الحصار والقصف مليوناً ونصف المليون حسب إحصائية 1998م أي: بعد ثمانية أعوام من الحصار، كان أكثر من نصفهم من الأطفال، فمن رفع صوته وقال لظالمي العراق: حرام في شرع الإسلام أن يفعل هذا مع حيوان، أو نبات، أو أن نحبس هرة، أو لا نسقي كلباً، أو نقطع شجرة، أو نعقر نخلة؟ أما في شرعهم فهو فضائل ومكارم.
ألا تستحي أمريكا وإنجلترا من حملاتهم الجوية وقنابلهم العنقودية؟
ألا يستحون من مليون طفل عراقي يعانون من سوء تغذية مزمن؟ ومن أن ربع أطفال العراق لا يذهبون إلى المدارس؛ بسبب نقص الكتب والفقر وانعدام العمل؟ ومن وفاة خمسة آلاف طفل كل شهر لنقص الألبان والتطعيمات؟
ومن يورانيوم يبقى في تربة العراق مليار سنة إن كان في عمر الأرض بقية، يصيب بالأورام الخبيثة، ويشوه الأجنة في بطون الأمهات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
فنحن المليار وثلث المليار مسلم في العالم، الذين حملنا الأمانة.
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
فهل من المناسب بعدما رأينا الدماء تسيل في فلسطين والعراق والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان والسودان وليبيا أن يمر الأمر دون وقفة ولا تعليق؟ وأن نستمر في علاقتنا معهم كشعب وكأمة وكجيل شاهد بعينه وسمع بأذنه وكأن شيئاً لم يكن؟! وأن نبيع لهم ونشتري منهم وهم لا يرتوون إلا بدمائنا؟! وأن نأكل أكلهم ونشرب شربهم ونلبس ملابسهم ونلعب ألعابهم ولا يتحرك في قلوبنا شيء؟!
حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في شعب أبي طالب فكه خمسة من كفار قريش لشيء دخل في قلوبهم رغم كفرهم، هذا الشيء هو النخوة والرجولة والنجدة والحمية، رغم أنهم ليسوا من قبيلة بني هاشم وبني المطلب، فأين قلوب المسلمين؟ وأين قلوب المؤمنين الصادقين؟ وأين قلوب الملهوفين على إخوانهم؟ وأين قلوب الخائفين من إله يرقبهم ويحصي عليهم أعمالهم؟ إن لم يكن لنا طاقة نفك بها حصارهم عن إخواننا لضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس فليس أقل من أن نحاربهم بسلاحهم ولكن بضوابطنا كمسلمين.
هنا تبزغ الوسيلة الرابعة من وسائل مساعدة أهلنا في فلسطين، بل ومساعدة الأمة الإسلامية لتعاود القيام من جديد، ألا وهي المقاطعة الاقتصادية لمنتجات اليهود ومن عاونهم، المقاطعة لإسرائيل ولأمريكا ولانجلترا ولمن حذا حذوهم وسار على طريقتهم، ما لكم تترددون؟! ألا تقاطعون قوماً قتلوا أبناءكم وإخوانكم وعشيرتكم؟! ألا تقاطعون قوماً خربوا دياركم، وجرفوا أرضكم؟! فإنه لمن المرارة أن تشتري من قاتلٍ قتل إخوتك وما زال يقتل، وليست أفغانستان منا ببعيد.
وإن كنا ننادي بالمقاطعة فإننا كمسلمين متمسكون بديننا وأخلاقنا لا نقاطع إلا بضوابطنا الشرعية، فلا نجر إلى قذارات السياسة الغربية والعلمانية، نحن نحارب بأسلوبنا الذي يقره قرآن وسنة، لا نخالف ربنا وإن خالفه الآخرون، ففي شرعنا لا نقتل المدنيين، ولا نحرض على قتلهم، ولا نروعهم، ولا نسعد بقتلهم، ولا نقاطع بطريقة أبي جهل أو بطريقة بوش أو كلينتون ومن تبعهم بإساءة إلى يوم الدين، نحن لا نستخدم المقاطعة إلا لجلب مصلحة هي أعلى من مصلحة أخرى، أو لدفع ضرر هو أكبر من ضرر آخر، نحن لا نستخدم المقاطعة في مصادرة ما لا يجوز لنا أن نصادره، فلا نجمد أرصدة أحد، ولا نسطو على أموال أحد، ولا نستخدم المقاطعة لتدمير ما لا يجوز لنا تدميره، فنحن المسلمين ضد حرق الممتلكات غير المدنية، سواء كان ذلك في بلادنا أو في بلاد غيرنا، وسواء كانت البلاد الأخرى محاربة أو غير محاربة، وكما أمرنا سبحانه وتعالى أن نحافظ على مساجدنا أمرنا أيضاً أن نحافظ على كنائسهم ومعابدهم، وكما أمرنا سبحانه وتعالى أن نحافظ على أموالنا أمرنا أيضاً أن نحافظ على أموالهم.
والمقاطعة بالضوابط الشرعية تعني: أنه إذا عرضت علي سلعة من دولة مسلمة أو وطنية وأخرى من دولة تعلن العداء السافر لنا اخترت السلعة المسلمة أو الوطنية؛ لأقوي من اقتصاد بلادي وتجنبت السلعة الأخرى؛ إضعافاً لاقتصاد دولة معادية، أما إن كانت الدولة معاهدة أو غير محاربة جاز الشراء منها، وإن كان من الأفضل أن نشتري من المسلمين.
والمقاطعة بالضوابط الشرعية تعني: أنني قاطعت الشراء فقط، وما زالت السلعة سلعته فما صادرتها وما أتلفتها.
أما موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد أن هاجر إليها، فإنه كان يعلم أنه سيحاصر يوماً في المدينة، وستجتمع عليه قريش وحلفاؤها من القبائل العربية، وسيغدر اليهود كعادتهم.
فجهز نفسه صلى الله عليه وسلم لهذا اليوم، فأمن الماء بشراء بئر رومة، وأنشأ السوق الإسلامي، وقاطع بذلك سوق بني قينقاع اليهودي، وشجع التجار والزراع والصناع للعمل حتى يكفوا حاجة المدينة، فتجار اليهود لم يؤذوا فإن التجارة عرض وطلب، والمشتري مخير بإرادته أن يشتري ممن يشاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصادر بئر رومة، أو سوق بني قينقاع، بل اشترى البئر بالمال وأقام السوق البديل، والناس جميعاً مخيرون، ولا شك أن الصحابة كانوا راغبين في التعامل مع السوق الإسلامي بدلاً من السوق اليهودي.
واليهود في المدينة لا يجبرون على الشراء من أسواق المسلمين، فلهم أن يبتاعوا من حيث شاءوا، بل قد يتعاملون فقط فيما بينهم، وهذا مقبول في عرف العالم أجمع، وكذلك في شرعنا معروف ومقبول، والمسلمون إن احتاجوا لبضاعة ليست في سوق المسلمين كانوا يشترونها من اليهود بثمنها، ولا يبخسون أحداً حقه.
إذاً: المقاطعة الاقتصادية لمنتجات اليهود ومن عاونهم أمر مشروع بل محمود ومندوب، بل لعله واجب لكن لا يخرجنا عداؤنا لغيرنا عن ضوابطنا الشرعية وحدودنا الأخلاقية، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة:8]، أي: لا يجرمنكم عداوة قوم، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
سؤال لا شك أنه يخطر على أذهانكم: لو عذبنا أنفسنا بمقاطعة طويلة محكمة، هل يمكن أن نحدث أثراً في شركات عملاقة جبارة مثل الشركات الغربية التي تنتشر فروعها في مشارق الأرض ومغاربها؟ فهي شركات متعددة الجنسية كما يقولون، وقد يساوي اقتصادها اقتصاد بعض الدول في العالم الذي يطلقون عليه عالماً ثالثاً، أفي هذا العذاب فائدة؟ أم أنه مجهود ضائع وعمل مبدد؟ أعلم أن في قلوبكم بعض الشكوك وفي أذهانكم بعض الشبهات، لأنكم تسمعون من هنا وهناك حوارات مثيرة وجدالات محيّرة، وعقل المرء يتشتت.
إن فوائد المقاطعة عشر وهي كما يلي:
الفائدة الأولى: الخسارة الاقتصادية الحتمية لهذه الشركات، وإن كانت في ظننا بسيطة، لكن الواقع أنها ليست بسيطة.
فإن العالم الإسلامي سوق استهلاكي ضخم هائل، حيث يبلغ عدد المسلمين ملياراً وثلث المليار، أي: ألفاً وثلاثمائة مليون مسلم موزعين على أكثر من ستين دولة، فلو أن نصف مليون رجل فقط سيقتنعون بفكرة المقاطعة في كل دولة، هذا معناه أن عدد المقاطعين يساوي ثلاثين مليون رجل، ولو ضربنا في متوسط عائلة الرجل المقتنع خمسة أفراد: هو وزوجته وثلاثة أولاد، بالرغم أن هناك رجالاً ليسوا متزوجين وهناك رجالاً عندهم خمسة وستة وعشرة من الأولاد.
إذاً: المحصلة هي ثلاثون مليون رجل في خمسة أفراد بمائة وخمسين مليون رجل وامرأة وطفل، أي: مائة وخمسون مليون مشترٍ سيقاطعون المنتجات اليهودية والأمريكية، أليست هذه خسارة محققة؟ هذا لو اكتفى الرجل المسلم المقتنع بأسرته الصغيرة، فما بالك لو أقنع أباه وأمه وأخاه وأخته وصديقه، فإنه سيصبح المقاطعون الضعف مثلاً يعني: ثلاثمائة مليون مشتر سيقاطعون وهو ما يمثل حوالي 23% من الأمة الإسلامية، فهذا الرقم مهول وخطير ومبهر لكن ليس ببعيد، والرجل منا يقابل أكثر من مائة رجل كل يوم، فادع مائة على مدار الأسبوع أو الشهر أو حتى على مدار السنة، واكتب مقالاً عن المقاطعة، وألق كلمة في ندوة، أو في مسجد، أو في مدرج جامعة، أو في فترة راحة في مصنع، إن كنت مدرساً خاطب تلامذتك، وإن كنت طبيباً خاطب مرضاك، وإن كنت سائقاً خاطب زبائنك، وإن كنت تاجراً خاطب عملاءك، وإن كنت مهندساً خاطب عمالك، وزع شريطاً أو كتاباً عن المقاطعة، ادع متحدثاً إلى صالون ثقافي في بيتك، افعل أي شيء عن المقاطعة، انشر الفكرة وسيمر الوقت ويصبح الرجل رجلين والرجلان أربعة والأربعة مائة والمائة نصف مليون رجل، ولا تنس أن أول الغيث قطرة.
والأمر في بدايته يكون صعباً لكن لما حمله رجال تحول الصعب إلى سهل، والمستحيل إلى ممكن، المهم أن تبدأ الآن لتنال شرف السبق، وادع غيرك ولا تنتظر أن يدعوك أحد، قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10].
إذا اتفقنا أن الحصيلة المادية التي ستدخل خزانات هذه الشركات سوف تقل، يعني: أن أرباح الشركة بدلاً من أن تكون ألف مليون دولار -مثلاً- ستصبح سبعمائة مليون دولار، سيحدث لهذا التداعي في الأرباح أمران: أولاً: ستقل الضرائب المدفوعة للحكومة الأمريكية نتيجة قلة الأرباح، ومن المعروف أن جزءاً كبيراً من حصيلة الضرائب في أمريكا توجه لمساعدة إسرائيل مباشرة، فإسرائيل هي أكثر دول العالم تلقياً للمعونات الأمريكية.
الأمر الثاني: بعض هذه الشركات تفرض على نفسها أو يفرض عليها أن تعطي نسبة من أرباحها تبرعاً لإسرائيل فإذا قلت الأرباح ستقل النسبة، فـ(5%) من المليون غير (5%) من عشرة مليون، غير (5%) من مائة مليون وهكذا.
إذاً: بالمقاطعة ستقل حتماً الحصيلة المادية المتجهة إلى إسرائيل، ومن الممكن أن تضحي أمريكا بنفسها من أجل الحفاظ على إعانة إسرائيل لكن هذا سيكون في حدود، فلو قاطعت فسوف تحرم إسرائيل من بعض الرصاصات التي قد تنطلق إلى صدور أهلك في فلسطين، وإذا اجتمع مسلمو شارع أو شارعين أو مدينة أو مدينتين فقد يحرمون اليهود من دبابة، وإذا قاطعت دولة أو دولتان فقد يحرم اليهود من سرب طائرات، وبمقاطعة الأمة ستحرم إسرائيل حتماً مما هو أعظم من ذلك.
ومع كل هذا التحليل فأنا أعلم أن البعض ما زال يشك أن تحدث خسارة فعلية في هذه الشركات، وبالتبعية لإسرائيل، يعتقدون أنه ليست لنا طاقة، فهذا من رواسب الهزيمة النفسية التي تحدثنا عنها في المحاضرة التاسعة، ويبدو أن المسلمين هم الوحيدون في الأرض الذين لا يدركون مدى قوتهم، وإذا كنا لا ندرك مدى قوتنا فهم يدركون، وإذا كنا لا نقدر طاقتنا فهم يقدرون، وأمثلة ذلك ما يلي:
شركة مستلزمات رياضية أمريكية مشهورة كتبت لفظ الجلالة على أحذيتها الرياضية المسوقة في أمريكا، ففجع المسلمون هناك بذلك، ولوحوا مجرد تلويح أنهم سيقاطعون الشركة، مع العلم أن المسلمين في أمريكا 8 مليون فقط وليسوا ملياراً وثلث المليار، وليسوا مجتمعين في هيئة واحدة يسمعون لها ويطيعون.
فكان رد هذه الشركة العملاقة ما يلي:
1- اعتذار صريح في أكثر من صحيفة أمريكية.
2- سحب للمنتج بكامله من السوق مع التضحية بالخسارة المادية الملموسة.
3- عرض سخي لأموال ضخمة تبرعاً للمراكز الإسلامية.
مثال آخر:
في مصر لما تنامت فكرة المقاطعة في أوائل أيام الانتفاضة الفلسطينية المباركة، فإذا بالشركات الجبارة تصدر إعلانات في كل مكان في الصحف والمجلات والتلفزيون والإنترنت وعلى واجهات المحلات: أن هذه الشركات تدار بأيدٍ مصرية 100% وكأنها ما جاءت لهذه البلاد إلا رأفة بأهلها، وخدمة لشعبها، وأنها لا تساعد إسرائيل، وفرضت تخفيضات لا مثيل لها على كل منتجاتها، ووزعت هدايا لكل مشتر، وتبرعات للمستشفيات وللفقراء والمساكين وأبناء السبيل.
ونتساءل لماذا هذه الرحمة المفاجئة؟! ولماذا هذه المشاعر النبيلة الفياضة التي اكتشفوها في قلوبهم فجأة؟! وكيف انقلب الجشع إلى رحمة؟! وتحول الطمع إلى زهد؟! وتغير الشح إلى كرم؟! ألكون هذه الشعوب البسيطة الفقيرة المسلمة قد قررت أن تقاطع؟! فلو كانت الشركة فعلاً جبارة وعملاقة فلماذا تهتم بمقاطعة بلد لا يمثل في سوقها إلا القليل؟
ثم لماذا هذا التفخيم المفزع لقوة الغرب؟ فقد رأينا مؤخراً بعد حوادث سقوط الطائرات في أمريكا كيف تداعت وانهارت شركات ما كان يدخل في حسابات أحد أنها تتأثر بأحداث عارضة ولو كانت جسيمة، فإن شركات الطيران الأمريكية سرحت أكثر من مائة وعشرين ألف عامل، وشركة بوينج من أضخم شركات تصنيع الطائرات في العالم سرحت ثلاثين ألف عامل، وشركة رولزرويس لتصنيع محركات الطائرات وهي ثاني شركة في العالم قللت إنتاجها إلى النصف، وسرحت الآلاف من العمال، وأفلست شركة ساس السويسرية للطيران، وأوشكت شركة سبينا البلجيكية على الإفلاس، وشركات يابانية واسترالية أغلقت أبوابها، هذا غير ما حدث لشركات السياحة والفنادق والمحلات التجارية وغيرها.
ألهذه الدرجة تكون هذه الشركات من الضعف بحيث أن مقاطعة الناس لها في شهر أو شهرين يؤدي إلى كل هذه التداعيات؟ فقد قاطعها الناس خوفاً على حياتهم، أفلا نقاطع والشركات اليهودية والأمريكية خوفاً على حياة أهلنا في فلسطين؛ وخوفاً على حياتنا في المستقبل؟ فلو قاطع المسلمون بجدية ستأتي شركة عملاقة للمياه الغازية مثلاً وتسرح عمالها، أو شركة جبارة للمطاعم وتغلق أبوابها، وهذا سنشاهده رأي العين إن بدأنا بالمقاطعة بجدية.
الفائدة الثانية: خسارة هذه الشركات ستؤدي إلى تغيير القرار السياسي في أمريكا من التحيز السافر لإسرائيل إلى غيره، فالمقاطعة وسيلة من وسائل الضغط في تلك البلاد التي يصل فيها مغيرو السياسة وأصحاب القرار إلى مراكزهم في الكونجرس والرئاسة عن طريق الانتخابات الحرة، والتي تتأثر بدورها بجماعات الضغط هناك.
فإن أكبر جماعات الضغط في أمريكا هي جمعية رجال الأعمال المكونة من أصحاب الشركات التي نفكر نحن بمقاطعتها، ومن وسائل ضغط اليهود على أمريكا: الضغط المالي على الحكومة الأمريكية.
إذاً: الخسارة الاقتصادية تؤثر بشكل مباشر على القرار السياسي بأمريكا؛ لأنها بلاد رأسمالية بحتة، الشركات اليهودية ذاتها قد تبيع إسرائيل إذا خسرت، فالمال عندهم مقدم على كل شيء، ولذا فإن بعض العمليات الفدائية الفلسطينية تتم بتسهيلات من اليهود في مقابل المال، فهم يغيرون القرار حفاظاً على المصالح، ولا بد أن يعلم الغرب ويتيقن أنه وإن كان له مصالح حيوية في إسرائيل فإن له مصالح أخرى أكثر حيوية في بلاد المسلمين.
الفائدة الثالثة: هذه المقاطعة ستؤدي إلى استخدام البدائل الوطنية مما سيؤدي إلى انتعاشها وبذلك يتقوى اقتصاد الأمة على ممتلكاتها وليس على ممتلكات الغير، وهذه قضية محورية، وأمر مصيري، وليست قضية جانبية، والأمة التي لا تملك احتياجاتها لا تملك قرارها، فالقضية ليست خسارة للشركات اليهودية والأمريكية فحسب بل هي بناء أمة وحياتها، ما الفارق مثلاً بين أمة الإسلام وأمة الصين أو اليابان؟ هم لا يملكون مناهج أفضل من مناهجنا، ولا أناساً أفضل من أناسنا، والعقل الإسلامي يتفوق كثيراً على عقولهم إذا توافقت الظروف، فلماذا لا نخلق الظروف التي تمكن أمتنا من التفوق؟
إن بداية الصين واليابان كدول صناعية لم تكن بعيدة عن بدايتنا، بدأت الصناعات الصغيرة المحلية وقلل من الاستيراد، وبدأ الشعب في بادئ أمره على منتجات أقل جودة من المنتجات الغربية، ثم مرت الأيام وتحسن الإنتاج ثم تفوق، فالسيارات اليابانية منذ ثلاثين سنة مثلاً كانت لا تسوق إلا في بلاد العالم الثالث، أما الآن فهي السيارة رقم واحد في أمريكا.
والمستهلك يبحث عن الجودة المناسبة والسعر المناسب، ولا شك أن المنتجات المستوردة كثيراً ما تكون أكثر جودة وأقل سعراً، أما حسن الجودة فللتقنية العالية ولدقة النظام ولضخامة المصانع وللكفاءة المهارية، ولكن كيف يأتي المنتج من آخر بلاد الدنيا إلى بلادنا ثم هو أرخص من منتجنا المصنع في بلادنا؟
زوجتي اشترت منبهاً صغيراً (ساعة صغيرة) من إنتاج الصين بثلاث جنيهات فقط، فكم سيكسب المورد للخامات، والعامل في المصنع، وصاحب المصنع والمصدر والناقل بسفينته والمستورد وبائع الجملة والقطاعي ثم البائع الجوال؟ ثم اكتشفنا بعد ذلك أن ثمنه اثنين جنيه فقط، فلماذا هذا السعر المنخفض؟ والواقع أنه لعوامل عديدة منها: رخص الأيدي العاملة، ولا أعتقد أن الأيدي العاملة في بلادنا مكلفة، ومنها أنهم يكسبون قليلاً ليبيعوا أكثر، وهو مبدأ تجاري معروف ويستخدم أيضاً في بلادنا، ومنها أن الإنتاج بكميات كبيرة جداً يغطي التكاليف والأرباح، وهذا ما لا يستطيع منتجنا أن يفعله؛ خشية كساد السلعة، وهنا يبرز دور المقاطعة فلو قاطعنا المنتجات المستوردة فإن هذا سيشجع المصنع المحلي على مضاعفة الإنتاج وبالتالي تخفيض السعر إلى أدناه، أما وهو يعلم أنه لن يبيع إلا وحدات محدودة فإنه قد يوفر في التكاليف على حساب الجودة، ويصبح الأمر دائرة مغلقة لا نخرج منها أبداً.
وليست النتيجة المباشرة للمقاطعة هو إصلاح الاقتصاد الإسلامي وتغير الحال فحسب، بل هناك نتيجة هامة جداً وهي تحول الهزيمة النفسية إلى انتصار، حيث إن كثيراً من المسلمين لا يعتقدون في إمكانية إنتاج منتج محلي ينافس المنتج الغربي.
أذكر أن صديقاً مصرياً كان معي في أمريكا، ذهب ليشتري قميصاً من إحدى المحلات الفخمة هناك، وانتقى قميصاً أعجبه، ولما عاد إلى المنزل اكتشف أن القميص منتج مصري، فاتصل بي بسرعة وهو حزين جداً فهو يشعر أنه قد ضحك عليه، أما أنا فسعيد لأن المنتج المصري ينافس الأمريكي والغربي في أمريكا ذاتها، وعلى قدر هذه السعادة على قدر حزني من الهزيمة النفسية القاسية التي يعاني منها صاحبي.
نحن نحتاج إلى ثقة بالله، وثقة بالنفس، وثقة بالوطن، وثقة بأهلنا وعمّالنا، وثقة في المنتج.
نقطة أخرى هامة: إنه ليس معنى ذلك أن المنتج المحلي سيكون سريعاً على قدم المساواة مع المنتج الغربي وفي كل التخصصات أبداً، لا بد أن يعرف المستهلكون المسلمون أنهم إذا أردوا أمة قوية اقتصادياً وسياسياً فلا بد أن يصبروا في البداية، وأن يقبلوا بما أضعف نسبياً إلى أن يتحسن، فلابد من تضحية، وستكون تضحية مأجورة إن شاء الله.
فالمستثمرون وأصحاب الشركات والمصانع المحلية على ثغرة عظيمة فليراقبوا الله في أعمالهم، يرتفع أجرهم في الآخرة ويكثر ربحهم في الدنيا.
وأتمنى أن يتجه أصحاب رءوس المال ولو كان صغيراً إلى إنتاج ما يفيد الأمة، فبدل إنتاج اللبان والشبس والمصاصة أشكال وألوان ننتج مستلزمات للمستشفيات، والآلات الزراعية والسماد، والإلكترونيات، والورق، وبدل من أن نزرع الفراولة والمانجو وأشياء كثيرة من الفواكه نزرع رز وذرة وبطاطس وقطن وكتان، وبدلاً من أن نشارك في البورصة في شركات تنتج أفلام ومسلسلات، وخمور، أو بنوك ربوية، نشغل أموالنا في شركات بترول وشركات حديد، وشركات أسمنت، وشركات أدوية، وشركات دقيق، وبدلاً من أن نعمل مشروع قهوة أو كفتيريا أو صالة بلياردو نعمل مشروع استصلاح أراضي، أو مزرعة سمكية، أو مدرسة متميزة جادة تعلم الأجيال، وبدلاً من أن نستورد من إسرائيل أو أمريكا، أو نحرص على أخذ توكيل أمريكاني، نستورد من ماليزيا أو إندونيسيا أو تركيا أو سوريا أو مصر أو الجزائر وسنجد الذي نريده، المهم أن نبحث في بلاد المسلمين.
وأتمنى للمستثمرين وأصحاب الشركات المحلية، الذين يقفون على ثغرة عظيمة، أن يهتموا بإتقان العمل وجودة الصناعة حتى لا يفتتن المسلمون فيتجهون للشرق والغرب، وأتمنى أن يخفضوا من السعر قدر المستطاع وسيزيد الربح إن شاء الله، وأن يحسنوا معاملة العمال في شركاتنا ويعطوا حوافز مجزية على كثرة الإنتاج، ويبتسموا في وجه العمال البسطاء وفي وجه العملاء المشترين.
بعض الناس يلاحظون فرقاً كبيراً في المعاملة الحسنة في الشركات الأجنبية، والمعاملة الجافة في بعض الشركات المحلية، خلاصة أننا نريد مقاطعة للمنتج الأمريكي مقرونة بتحسين وتجويد وشراء للمنتج المحلي، وعلى المسلمين أن يصبروا في البداية، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة.
الفائدة الرابعة: إذا حدث حصار اقتصادي على البلد في أي وقت ماذا سيكون موقفنا؟ وهذا وارد لأتفه الأسباب، ودوام الحال من المحال، فأهل العراق كانوا يتمتعون بمال وفير، وخير كثير، ثم ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال، وليبيا كانت لها علاقات كثيرة جداً مع كل بلاد العالم، فلما خطف رجلان ليبيان طيارة حوصرت ليبيا اقتصادياً وفرض عليها عقوبات، فمن الجائز أن اثنين غداً يخطفون طائرة من أي بلد فيفرضون الحصار على البلد من غير أي أسباب ومبررات، ولو حدث هذا الحصار على بلادنا ونحن نعتمد على منتجات غربية من شركات أجنبية ماذا سيحدث لو سحبت هذه الشركات نفسها من السوق المسلم؟ أليس من الحكمة ألا نعتمد على المنتجات الغربية التي ستقطع لو حوصرت البلاد المسلمة؟
سوبر ماركت ضخم ومشهور دخل السوق المصري بثقل كبير وفتح فروعاً كثيرة جداً وضخمة جداً ورخص الأسعار بشكل لافت للنظر، فكانت النتيجة أن معظم المحلات المحلية الوطنية المجاورة أغلقت أبوابها ولم تستطع أن تبيع شيئاً، والمصنع الأجنبي على استعداد أن يخسر في البداية لأجل خسارة كبيرة في سبيل أنك تغلق مصنعك أو محلك وبعد هذا هو يتحكم في السوق، وماذا يحدث لو فتح محل مثل هذا وأغلق بعد ذلك كل المتاجر الوطنية المجاورة ثم انسحب فجأة من السوق إذا حدث حصار اقتصادي على البلاد؟ فهذه كارثة محققة، فلو حصل حصار اقتصادي على مصر -مثلاً- في الوقت الذي نحن نعيش فيه الآن، فإن المستشفيات على سبيل المثال ستغلق أبوابها؛ لأنه لا توجد تجهيزات لغرف العمليات مصنعة محلياً، ولا كشافات إضاءة ولا خيوط جراحية ولا أدوات جراحية.
باكستان لها تجربة عظيمة جداً في إنتاج الأدوات الجراحية، ليأتي العالم الإسلامي كله يتعلم منها ويستورد منها، والجزائر لها تجربة رائدة في صناعة القناطر على الأنهار لنأتي ونتعلم منها ونستورد منها، ومصر لها تجارب كبيرة جداً في صناعة الورق والنسيج والحديد وغيرها من الصناعات لنأتي ونتعلم منها ونستفيد من هذه التجارب.
إذاً: المقاطعة تجهزنا ليوم نحاصر فيه، تجهزنا تجهيزاً إيجابياً اختيارياً وفي ظروف أفضل جداً من وقت الحصار الحقيقي، والحصار فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو سياسية قديمة غير مستبعدة في أي زمان.
الفائدة الخامسة: المقاطعة ستؤدي إلى التذكر المستمر الحقيقي للمسلمين، وإلى معرفة ووضوح وتذكر الصديق، وبذلك يتميز الحق والباطل، والعدو والصديق، ومن عادة الناس أنهم ينسون مع مرور الوقت وتغير الظروف، وقد يبتسم الظالم في وجهك يوماً، ويمد إليك يده مصافحاً، ويفتح لك صدره متودداً، وهو مستمر في ظلمه، فينسى الناس الظلم لاختفائه خلف الابتسامة والتودد، مثلما فعل مناحيم بيجن عندما مد يده مصافحاً ومعاهداً ومبتسماً والجميع يعلم أنه صاحب مجزرة دير ياسين، وما زال يقبع بجيوشه في بلادٍ مغتصبة ظالماً الملايين دون اكتراث.
إن استمرار المقاطعة يجعلنا في شبه حالة استنفار عام تام كامل، فلا ننسى عدونا إلا إذا تخلى عن اعتداءه تماماً، ونزح عن بلادنا، وأعاد الحقوق إلى أصحابها، استمرار المقاطعة يعيننا على تربية أبنائنا بطريقة يعرفون فيها عدوهم، ولا يخفى على عاقل أي فائدة هذه.
الفائدة السادسة: إن المقاطعة ستقضي على الانبهار المسيطر على الناس من كل ما هو يهودي أو أمريكي أو غربي أو مستورد، لقد سيطرت حالة من الانبهار على الناس شملت البضائع وغيرها، بل شملت الأشخاص والأفكار، فالرجل الأمريكاني في نظر كثيرٍ من الناس أبعد نظراً وأقوى شكيمة وأذكى عقلاً وأسرع خطوة وأخفى دماً، وأكثر عطفاً وحناناً، فاستمرار المقاطعة سيقضي كثيراً على هذا الانبهار المخيف، وستعلم الأمة أنها تستطيع أن تعيش بدون أمريكا بل وبدون الغرب جميعاً، هذا إذا ما أرادت الأمة أن تعيش.
الفائدة السابعة: إن المقاطعة سترفع معنويات الشعوب المسلمة عندما ترى نجاحاً من النجاحات نتيجة للمقاطعة، فعندما ترى صرحاً أجنبياً ضخماً بفروع متعددة وأعداد هائلة من العمال، وأموال لا تحصى، وقدرات لا تنتهي، يغلق أبوابه نتيجة للمقاطعة، معلناً فشله الذريع في كسب إرادة الشعب الأبي الفاهم الواعي، فهذا -والله- هو النجاح بعينه.
عندما تمر على محلات الأمريكان للأطعمة فتجدها خاوية على عروشها وقد ازدحمت المحلات المحلية بالرواد أليس هذا انتصاراً؟ وعندما تشاهد تكالب من محلات الغرب على اكتساب الزبائن عن طريق الخصم والهدايا والمسابقات والحفلات ثم تجد إعراضاً من الناس مع حاجتهم أحياناً، ومع رغبتهم أحياناً أخرى، لكنهم يعرضون مقاطعة لهم وبعداً عنهم، فاعلم أن الشعب قد نجح بالفعل، عندما تقرأ عن محل أطعمة أمريكي مشهور يخسر حوالي 35% من دخله المعتاد في الشرق الأوسط في الأسابيع الأولى فقط للانتفاضة المباركة في فلسطين بسبب المقاطعة فاعلم أن هذا مقياس جيد لنجاح الأمة، وهكذا بالمقاطعة وملاحظة النتائج ستعيش الأمة نوعاً من الانتصار وسترى لوناً من النجاح هي في أشد الحاجة إليه.
الفائدة الثامنة: استمرار المقاطعة سيحدث حالة من الرعب عند أعداء المسلمين مقابلة لحالة من الشعور بالفخار والنصر عند المسلمين، فسيشعر أعداء المسلمين بالهزيمة في مجال من المجالات، وسيشعرون بالهلع عندما يشاهدون وحدة الصف المسلم في كل الأقطار الإسلامية، وسيشعرون بالصغار عندما يلحظون قوة إرادة الأمة في مقاطعتها لهم مع احتياجها إليهم، وسيشعرون بالذل الواضح أمام عزة الإسلام والمسلمين، وهذه كلها بوادر نصر، والهزيمة النفسية لعدونا من أشد أنواع الهزائم، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) .
الفائدة التاسعة: المقاطعة تربية عظيمة للنفس بأن تحرمها من أشياء تعودت عليها، وذلك تماماً مثل فكرة الصيام فأنت في نهار رمضان تمنع نفسك عن الطعام والشراب وهما في الأصل من الأمور الحلال، فإن استطعت ذلك فأنت على تجنب الحرام أقدر، فهذا نوع من التربية.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان لا يأكل السكر مع رغبته إليه، وليس السكر بمحرم لكنه يربي نفسه، وكان يقول: اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم، نريد أن نعود أنفسنا على كسر الروتين اليومي في حياتنا وعلى التغلب على شهواتنا، وعلى الانتصار على أنفسنا، وعلى تغليب المصلحة العامة للأمة على المصلحة الخاصة للأفراد، فلو خرجنا من المقاطعة بهذا الدرس العظيم وهو درس التربية لكان هذا مكسباً لا يقارن بما قبله من المكاسب.
الفائدة العاشرة وأختم بها الفوائد وأنا أعتبرها أهم فوائد المقاطعة على الإطلاق: وهو أننا مع إخلاص النوايا في نصرة الإسلام والمسلمين، وفي مساعدة إخواننا في فلسطين، وفي تقوية اقتصاد المسلمين، وفي تربية الأمة المسلمة، فإننا نرجو من الله ثواباً، ونسأله عوناً، ونتوقع منه نصراً، وننتظر منه رضاً ورحمةًً وفضلاً وكرماً.
فلعل حسنات المقاطعة تكون هي المرجحة لكفتنا يوم القيامة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
فالمقاطعة تعتبر من الأسلحة الحتمية التي يجب على المسلمين جميعاً أن يتحدوا في القيام بها.
أما الشبهات حول فكرة المقاطعة، فهي كما يلي:
الشبهة الأولى: أن الأيدي العاملة في هذه المحلات وطنية 100%، وغلق المحلات سيؤدي إلى تشريد الآلاف أو الملايين على نطاق أمة المسلمين، كما سيؤدي إلى خسارة رأس المال الوطني صاحب التوكيل، وللرد على هذا نقول:
1- نحن جميعاً متفقون أن الشركة الأجنبية ما جاءت إلى البلاد المسلمة بحدها وحديدها ومالها ورجالها وأفكارها إلا بغية الربح وجمع المال، ولم تأت حباً في مصلحة البلاد أو تأثراً بحال الفقراء، فعملنا في هذه الشركات سيؤدي حتماً إلى قوتهم وزيادة أموالهم وتوسيع أعمالهم وتثبيت دعائمهم، وهذا لا ينبغي لنا فعله إذا كنا مستيقنين بعدائهم أو بمساعدتهم لأعدائنا وبالذات في أوقات الحروب والأزمات، حتى لو كانت هناك خسارة حتمية للمسلمين.
2- أين كان هؤلاء العمال المسلمون يعملون قبل أن تفتح الشركات الأجنبية أبوابها لهم؟ فالعامل الذي يشتغل في محل الفراخ أو البيتزا الأمريكاني كان يشتغل في محل الكباب الوطني، والذي يبيع في السوبر ماركت الغربي كان يبيع في السوبر ماركت الوطني، والذي يشتغل في محطة بنزين غربية -ومعظم رأس مالهم يهودي حتى وإن لم يكونوا أمريكان- كان يشتغل في محطة بنزين وطنية، وهكذا.
3- الخسارة المتوقعة للعمال في فارق المرتبات، ولرءوس الأموال في الأرباح خسارة مقبولة، فنحن في حالة مواجهة لمؤامرة وحرب وكيد وتدبير من قبل أعدائنا لا لفلسطين فقط ولكن لعموم أمة المسلمين، فإذا اعتدى عدو على بلدك هل تقاتله لترده أم تقول أن القتال فيه خسارة سلاح ومال ومعمار ونفس؟ فإنك ستقاتله، والخسائر تصبح لا قيمة لها إذا قورنت برد العدوان، فالخسائر المتوقعة مقبولة؛ لأنها نوع من رد العدوان على الاقتصاد المسلم والشعوب المسلمة، ثم إن هذه الخسارة مؤقتة ولو تحسن الإنتاج المحلي وزاد لعاد الوضع أفضل مما كان عليه من قبل.
4- نحن المسلمين نختلف عن غيرنا من البشر في أننا نعتقد تماماً أن الرزق مضمون من رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فالإنسان المسلم يقتنع بأنه لم يقل رزقه الذي قسمه الله له بانتقاله من مكان إلى آخر، فإن قيل: بأن هذا أخذ بأسباب الرزق، فإننا نقول: اللهم لا تجعل رزقناً أجوراً من أعدائنا، فليس من جمال الطلب أبداً أن أطلب رزقي من قاتل إخواني.
5- صاحب رأس المال الوطني عندما يشاهد بعد الناس عن المنتج اليهودي أو الأمريكي سيفكر ألف مرة قبل أن يأخذ توكيلاً من شركة يهودية أو أمريكية، وبذلك مع مرور الوقت سيجد أصحاب رءوس الأموال البدائل المناسبة وستدور الدورة من جديد لصالح المسلمين.
6- ألا يشعر المسلمون بالأنفة والغيظ والهم والنكد؛ لأنهم يعملون في مصانع وشركات تؤيد اليهود سواء عن طريق الضرائب أو المساعدات المباشرة، لقد كان المصريون في السابق يأنفون من العمل في مصانع وشركات وثكنات الإنجليز؛ لأنهم كانوا محتلين للبلد، كذلك كان يفعل الليبيون مع الطليان، ويفعل الجزائريون مع الفرنسيين، فما الذي تغير؟ هل تغيرت الظروف أم النفوس؟ أليس لراحة النفس بالعمل في شركات المسلمين ثمن؟ فلو كان الثمن لهذه الراحة النفسية هو فارق المرتب فإنه ثمن زهيد حق زهيد.
7- اعتبر فارق المرتب هذا صدقة على المجاهدين وإسهاماً في قضية فلسطين، وإنفاقاً في سبيل الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وما نقص مال من صدقة) ، وستعوض من طريق آخر، أو يسد عليك باب إنفاق، هذا ما لا يشك فيه مؤمن.
أما الشبهة الثانية فهي: أننا بهذه المقاطعة نستعدي الشعب الأمريكي علينا، فالشعب شيء والحكومة شيء آخر، والرد على هذه الشبهة ما يلي:
1- المقاومة حق مشروع لا يختلف عليه اثنان، فنحن ندافع عن اقتصادنا وبلادنا وإخواننا، وليس من المعقول أبداً أن أطلب ود قاتلي، وأنا أسعى إلى رضا ذابحي، إذا كان هناك اقتصاد سيعاني من أجل اقتصاد آخر، فإنه من واجبنا أن نهتم باقتصادنا وإخواننا ولو كان على حساب اقتصادهم دون ظلم لهم ولا عدوان، وأمريكا نفسها لما رأت السيارات اليابانية تغزو السوق الأمريكي وتؤدي إلى كساد السيارات الأمريكية في بلدها رفعت الجمارك عليها؛ لتجبر الناس على شراء المنتج الوطني، وهذا تفكير منطقي جداً لا ينكره أحد من الشعوب.
2- لماذا الفصل بين الحكومة والشعب؟ فمن أين أتت الحكومة؟ ألم تأت من الشعب؟ أليس الشعب الأمريكي هو الذي اختار الرئيس الأمريكي والكونجرس الأمريكي أصحاب القرارات الظالمة؟ وهو الذي يوافق على الظلم الأمريكي في الاستفتاءات المتكررة؟
عاصرت مظاهرة في نيويورك قامت بها هنري كلينتون عضو الكونجرس عن دائرة نيويورك المعروفة ومعها عدد كبير جداً من الشعب الأمريكي تطالب فيها بوقف الإرهاب الفلسطيني، وتنادي أن يفك الفلسطينيون الحصار على اليهود، وشر البلية ما يضحك.
3- الحكومة الأمريكية نفسها أتت بكثير من الشركات الأمريكية وفرضتها على كثير من دول المسلمين للتجارة أو للإعمار أو للتوظيف، وكثير من هذه الشركات كادت أن تفلس لولا تدخل الحكومة الأمريكية بفرضها على بلاد المسلمين؛ لأن نجاح هذه الشركات في النهاية هو نجاح للحكومة الأمريكية، وقوة هذه الشركات في النهاية هو قوة للحكومة الأمريكية، وبالذات الشركات العملاقة التي توزع في أنحاء الأرض بما فيها بلاد المسلمين، فتعتبر بلا مبالغة جزءًا رئيسياً من الحكومة الأمريكية.
الشبهة الثالثة: أن هذه الشركات ستنعش الاقتصاد المسلم بإنفاقها الأموال الغزيرة داخل بلادنا وبإقامتها للمشروعات العملاقة، وللرد على هذه الشبهة نقول:
1- هل ستنفق هذه الشركات عشرة مليون دولار -مثلاً- داخل البلد وتخرج خالية أم أنها ستخرج بدلاً من العشرة مليون بمائة مليون؟
2- هذا إنعاش مؤقت؛ لأنه يقوم على شفا جرف هارٍ وإلا فكيف تكون البنية الأساسية في الاقتصاد مملوكة لفريق لا يستغرب عداؤه، ولا يتوقع استمرار ولائه.
3- ما أدراك أن وراء الأمور أموراً، وأن هذه الشركات أو المصانع أو الهيئات تهدف في النهاية إلى إضعاف أو إهلاك الاقتصاد المسلم بطريقة نعلمها أو لا نعلمها، وليس ببعيد ما فعله خبراء الزراعة اليهود الذين استخدموا أسمدةً أدت إلى إنتاج أنواع عظيمة من الفاكهة والخضروات عاماً أو عامين ثم أدت بعد ذلك إلى بوار الأرض، أو كشركات الأسمنت التي لا تستطيع أن تقيم مصانعها في بلادها خشية التلوث البيئي فتأتي بالمصانع إلى بلادنا، وعلى نفسها جنت براقش.
الشبهة الرابعة: إن هناك أشياءً لا تصنع في بلادنا ولا في بلاد المسلمين، وليس لها بديل، ولا بد من استيرادها من الغرب، هنا نرد ونقول:
1- في حالة الاضطرار الأكيد فإننا نأخذ المضطر في ذلك إلى أن يفتح الله علينا بتصنيع ما نحتاج إليه لكن لا بد أن يكون اضطراراً لا نوعاً معيناً من التحف ليس فيه اضطرار، أو أكلة معينة ليست عندنا فهذا ليس اضطراراً، بل لا بد أن يكون اضطراراً أكيداً.
2- يوجد في العالم بدائل أخرى كثيرة وإن لم تكن من دول مسلمة لكنها لا تعلن العداء السافر للمسلمين، فلا مانع من الاستعانة المؤقتة بها إلى أن يمن الله علينا بإنتاج.
3- لا بد أن يسعى المسلمون لا لاستيراد المنتج ولكن لاستيراد تكنولوجيا التصنيع، والتقنية التي نصنع بها المنتج بعد ذلك، بحيث يستطيع المسلمون مع مرور الوقت أن يكملوا احتياجاتهم، ثم بعد ذلك يصنعوا تقنية التصنيع وليس هذا بمستحيل.
4- على العقول المسلمة المهاجرة إلى بلاد الغرب أن تعود إلى بلاد المسلمين، فليس من المعقول أن يبقى علماء الذرة يعلون من شأن الطاقة النووية الأمريكية، ويبقى علماء الكيمياء والفيزياء يعلون من شأن المعامل الأمريكية، ويبقى علماء الطب يعالجون الأمريكان ويتركون المسلمون في مرضهم.
الشبهة الخامسة والأخيرة: أحد الناس يقول: أنا لا أستطيع أن أعيش من غير كذا وكذا من المنتجات الغربية، وآخر يقول: لا أستطيع أن أقاطع الكاتشب الأمريكية، وهو نوع معين من أنواع الصلصة المشتقة من الطماطم، فهذا شيء عجيب جداً.
وآخر لا يستطيع أن يستغني عن المياه الغازية بأنواعها المختلفة، فأقول لهؤلاء:
1- اعتبر تخليك عن هذه الأشياء هو جهاد في سبيل الله، فهو نوع من أنواع الجهاد، فاستحضر فيه النية وستؤجر، وهو اختبار، والأجر على قدر المشقة، واعلم أن من الاختبار والامتحان والابتلاء أن تقاطع ما تحب بل ما تغلغل حبه في قلبك رغبة فيما هو أعظم وهو الأجر.
2- الإعلام يسيطر على أفكارنا بحيث تتخيل الحياة صعبة جداً بدون شيء معين معلن عنه، فعندما ترى إعلان المياه الغازية تحسب وتظن أنه لن تستقيم لك حياة ولن يصلح لك حال ولن تقوى لك عزيمة إلا بشرب المياه الغازية، ومعلوم أن كوب عصير القصب أو التمر الهندي أو الكركديه أكثر فائدة من المياه الغازية، فالأطباء دائماً ينصحون الناس بتجنب المياه الغازية، وبالذات الذي عنده قولون عصبي، ومعظم الشعب عندهم قولون عصبي، وكذا الذي عنده مشاكل في المعدة، ومعظم الشعب عندهم مشاكل في المعدة، وذكر الأطباء أن هذه المشروبات تعمل على زيادة معدل تكوين الحصوة في الكليتين، والكلام هذا حقيقي وواقعي، فلماذا ندخل أنفسنا في كل هذه المتاهات؟ لا تقاطع المشروب الغازي الأمريكي لتشرب مشروباً وطنياً تنتجه شركة من شركات الخمور الوطنية حتى لو كان خالي من الكحول، لأن فيه تقوية لشركة من شركات الخمور، ولعن الله من صنع الخمور أو باعها، بل حتى الإعلانات عنه فإن معظمها يعطي إحساساً بالفسق والفجور والانحلال، وكأنها تعلن عن خمور وليس عن مشروبات خالية من الكحول كما يقولون.
3- ولو أن أحداً من الناس لا يستطيع فعلاً أن يقاطع منتجاً بعينه، فليقاطع المنتجات الأخرى، وما لا يدرك جله لا يترك كله.
ونأتي إلى النقطة الأخيرة في المحاضرة وهي الحديث عن فن المقاطعة وفيها خمس نقاط وهي ما يلي:
1- المقاطعة المتخصصة بمعنى: أنه من الممكن عمل قوائم للمنتجات اليهودية والأمريكية يقاطعها كل الناس، وتهم كل الناس، وعمل قوائم أخرى تخصصية لا تهم إلا مجموعة معينة من الناس، ولا داعي لشغل بقية الأمة بها، فمثلاً: الأدوية، فمن المعروف أن عامة الأمة لا يصفون لأنفسهم الأدوية فليس هناك داعي أن يعرف الناس جميعاً مصادر الأدوية وشركات الأدوية، لكن من المهم أن يعرف ذلك الأطباء والمستشفيات، فتوزع قوائم بالأدوية على هذه الطائفة فقط من الناس، بل إنه من الممكن الزيادة في التخصص داخل طوائف الأطباء المختلفة، فالأدوية التي يستعملها طبيب القلب مثلاً غير الأدوية التي يستعملها طبيب العيون، غير التي يستعملها الجراح، فإذا قام كل طبيب من كل مجموعة بعمل الأدوية التي يحتاج إليها تخصصه ووزعها على زملائه في التخصص سيكون ذلك أكثر فائدة لهم وأقل شغلاً لتفكيرهم، وأدعى لاستجابتهم، وهكذا المهندسون، والمزارعون والكيمائيون، وكل طوائف الشعب المصري.
2- أن ترشد بوضوح إلى البديل أسميها المقاطعة المعوضة، ولا بد أن تعوض هذه المقاطعة بشيء آخر، ولا بد أن نبحث عن البديل الوطني، وندل الناس عليه ونعرف به، ومن المهم أن نثير ذلك في مجالسنا أو يكتب كل واحد منا البدائل لأقاربه وأصحابه وزملائه في العمل وهكذا حتى نسهل على الناس المقاطعة.
3- البحث عن التطورات في السوق والاهتمام بها ونشرها أسميها المقاطعة المتطورة، فقد تشتري شركة يهودية أو أمريكية شركة أخرى فننتبه إلى ذلك، كما حدث عندما اشترت مؤخراً شركة بطاطس أمريكية شركة أخرى وطنية، فيعلم الناس ذلك حتى يسهموا في مقاطعة هذه الشركة الأخيرة، قد تغلق شركة أمريكية أبوابها نتيجة لمقاطعة فيشار إلى ذلك لتحميس الناس، وقد تتبرع إحدى الشركات الأمريكية لإسرائيل مباشرة فينشر ذلك حتى يشجع الناس على المقاطعة، كما حدث من شركة كبيرة للأدوية تبرعت بإنشاء مستوطنات كثيرة داخل إسرائيل، وكما حدث من مطعم أمريكي مشهور تبرع بدخل يوم السبت لإسرائيل، وكما تبرعت شركة مياه غازية مشهورة بمبالغ ضخمة بالإضافة إلى دعاية سافرة لإسرائيل، وعلى قبة الصخرة كما وضعوا في الإعلانات.
4- المقاطعة المستمرة وهو الحديث عن المقاطعة بصفة مستمرة والتذكير بها دائماً، فمن عادة الناس أنهم ينسون، وكثيراً ما يكون المرء متحمساً لشيء ثم ينساه مع مرور الوقت، فإن أعيد التذكير عاد حماسه من جديد خاصة إذا أشير إلى حال المسلمين في فلسطين، وداومنا على التذكير بأحوال المسلمين في بقاع الأرض المختلفة على أيدي هؤلاء الذين نقاطعهم.
5- وأخيراً من المؤكد أن هناك ابتكارات كثيرة في هذا المجال أسميها المقاطعة المبتكرة، وليس المجال يتسع لشرح هذه الأمور، لكن من المؤكد أن عقول المسلمين لا تنضب عن الأفكار الحسنة والذكية، فمثلاً: استخدام الإنترنت أو التلفونات المحمولة أو أي اختراع ممكن يقوم به المسلمون للتأكيد على موضوع المقاطعة.
فالمقاطعة سلاح هام جداً وفعال جداً ومؤثر جداً، ولا يجب أبداً أن يتهاون فيه المؤمنون، وسيؤتي ثماره إن شاء الله طيبة حسنة في الدنيا والآخرة.
وختاماً:
فهذه كلمة أخيرة لأخي المقاطع في سبيل الله! ولا شك أنك ستألم من مقاطعتك للبضائع اليهودية والأمريكية، وهو ألم كبير وليس هذا بمستغرب، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فاعلم أنك إن كنت تألم فألمك بأجر أما هم فيألمون وعليهم الوزر، قال تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].
تذكر إخوانك المحاصرين في فلسطين والعراق وأفغانستان، تذكر أنهم حرموا دون إرادتهم من أشياء قاطعتها أنت بإراداتك، تذكر أن آباءك وأجدادك عاشوا طويلاً دون هذه الأشياء، فقد أدخل الناس في روعك أن الحياة بغيرها لا تستقيم وكذبوا، تذكر عدواً يقتل بيد ويبيع بالأخرى كيف تشتري منه؟!
تذكر يوماً عصيباً طويلاً نحاسب فيه، فمقاطعتك حسنات في رصيدك لا تضيعها، تذكر أن حرمانك من أشياء بسيطة في الدنيا قد يورث جنة لا حرمان فيها، تذكر إلهاً ناظراً إليك، مراقباً لأعمالك، فرحاً بطاعتك، مؤيداً لخطواتك، تذكر أنه يحب الصابرين ويحب المجاهدين ويحب المتقين فكن منهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر