إسلام ويب

حب يتدفقللشيخ : إبراهيم الحارثي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بين الشيخ إبراهيم الحارثي حفظه الله عظيم حب الوالدين لولدهما؛ بل تضحيتهما براحتهما وسعادتهما من أجل راحته. ولكن للأسف الشديد أن إحسان الوالدين يقابل من بعض الأبناء بالعقوق والجحود والعصيان والنكران. فإليك أخي القارئ صوراً مشرقة تبين كيف كان حال سلفنا الصالح مع الوالدين.
    الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فاتقوا الله -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون.

    أيها الإخوة: في هذا الزمان نضب الحب الصادق أو كاد، نسي الناس إلا من رحم الله خلق التضحية العظيم، وأنكروا الإيثار بشتى صوره وأنواعه، وفقدوا حرارة المشاعر وخالص الوداد، وانطفأت بينهم جذوة الأحاسيس الدافئة الحانية، وأصبح الكل يتحدث عن جفاف العلاقات وبرودة المشاعر، وجفاء الطبع، حتى لم يعد بين الناس -إلا من رحم الله- من يثق بصدق مشاعر الآخرين، وغدا الحذر والاحتياط هو الأصل الذي يُحتكم إليه، وكثر الحديث وطال في البحث عن معين آخر لا تنطبق عليه تلك الصور المظلمة، ولا ذلك الواقع المر.

    وحتى أوفر عليكم وعلى أولئك الجهد والتعب والعناء في البحث بعيداً عن ذلك المعين، سأقوم بدور الدليل، وأدلكم على المعين الذي يتجلى فيه الحب بأروع معانيه، وأرقى صوره وأشكاله، سأدلكم على المعين الذي تنقطع الأنفاس وتنقطع الدنيا وهو لا يزال يتدفق بالتضحية التي ليس لها في الوجود مثيل.

    سأدلكم على المعين الذي يقف الإيثار في ساحته وبين يديه ذليلاً مطأطئ الرأس، فهو الوحيد الذي يملكه، ويمسك بزمامه، كما لا يستطيع ذلك أحد، سأدلكم على المعين الذي تفيض أنفاسه بالحب، وتموج خواطره بالود، وتنطق أحاسيسه بالطهر، ويتمثل فيه الصفاء والنقاء كأحلى وأبهى ما يكون.

    المعين الذي يتغير كل شيء في هذه الدنيا إلا هو، تهتز المشاعر، وتتغير النفوس، وتتبدل القلوب إلا قلب هذا المعين .. إلا نفسه .. إلا مشاعره .. تظل ثابتة لا تتغير، وسداً لا يميل، وحصناً لا ينهدم، وملاذاً لا نظير له على الإطلاق، هذا المعين الرائع .. الكبير .. الراقي .. العظيم .. السامي .. الجليل .. هو معين الأم والأب، معين الوالدين الفياض الذي لا يغيض.

    هذا -أيها الإخوة- ما أعرفه وهو ما أدلكم عليه، فهل تعرفون أنتم شيئاً آخر .. أو معيناً يشبهه أو حتى يدانيه؟!

    لا والله ثم لا والله.

    موقف يبين عظيم حب الوالد والوالدة

    أيها الإخوة: جاء في بعض الكتب أن أمية الكناني كان رجلاً من سادات قومه، وكان له ابن يسمى كلاباً، هاجر إلى المدينة في خلافة عمر رضي الله عنه، فأقام بها مدة، ثم لقي ذات يوم بعض الصحابة، فسألهم: أي الأعمال أفضل في الإسلام؟ فقالوا: الجهاد، فذهب كلاب إلى عمر يريد الغزو، فأرسله عمر رضي الله عنه مع جيش إلى بلاد الفرس، فلما علم أبوه بذلك تعلق به وقال له: لا تدع أباك وأمك شيخين ضعيفين، ربياك صغيراً حتى إذا احتاجا إليك تركتهما، فقال: أترككما لما هو خير لي.

    ثم خرج غازياً بعد أن أرضى أباه، فأبطأ في الغزو وتأخر، وكان أبوه وأمه يجلسان يوماً في ظل نخلٍ لهم، وإذا حمامة تدعو فرخها الصغير، وتلهو معه وتروح وتجيء، فرآها الشيخ فبكى، فرأته العجوز يبكي فبكت، ثم أصاب الشيخ ضعف في بصره، فلما تأخر ولده كثيراً ذهب إلى عمر رضي الله عنه ودخل عليه في المسجد، فقال: والله يا بن الخطاب لئن لم ترد علي ولدي لأدعون عليك في عرفات.

    فكتب عمر رضي الله عنه برد ولده إليه، فلما قدم ودخل عليه قال له عمر: ما بلغ من برك بأبيك؟

    قال: كنت أوثره وأكفيه أمره، وكنت إن أردت أن أحلب له لبناً أجيء إلى أغزر ناقة في إبله فأريحها، وأتركها حتى تستقر، ثم أغسل أخلافها -أي: ضروعها- حتى تبرد، ثم أحلب له فأسقيه.

    فبعث عمر إلى أبيه، فجاء الرجل فدخل على عمر رضي الله عنه وهو يتهاوى، وقد ضعف بصره، وانحنى ظهره، فقال له عمر رضي الله عنه: كيف أنت يا أبا كلاب؟

    قال: كما ترى يا أمير المؤمنين.

    فقال: ما أحب الأشياء إليك اليوم؟

    قال: ما أحب اليوم شيئاً .. ما أفرح بخير ولا يسوءني شر.

    فقال عمر : فلا شيء آخر؟

    قال: بلى. أحب أن كلاباً ولدي عندي، فأشمه شمة، وأضمه ضمة قبل أن أموت، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: ستبلغ ما تحب إن شاء الله، ثم أمر كلاباً أن يخرج وأن يحلب لأبيه ناقة كما كان يفعل، ويبعث بلبنها إليه، فقام ففعل ذلك، ثم جاء وناول الإناء عمر ، فأخذه رضي الله عنه وقال: اشرب يا أبا كلاب! فلما تناول الإناء ليشرب وقربه من فمه قال: والله يا أمير المؤمنين! إني لأشم رائحة يدي كلاب ، فبكى عمر رضي الله عنه وقال له: هذا كلاب عندك، وقد جئناك به، فوثب إلى ابنه وأخذ يضمه ويعانقه وهو يبكي، فجعل عمر رضي الله عنه والحاضرون يبكون، ثم قال عمر : يا بني! الزم أبويك، فجاهد فيهما ما بقيا، ثم اعتن بشأن نفسك بعدهما.

    إنها قصة تؤثر في النفوس، وتستجيش المشاعر، إنها القصة التي يعيشها كل أب وأم، قصة الحب الذي يملأ قلبيهما تجاه أولادهما.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088976339

    عدد مرات الحفظ

    780292669