اللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، ولك الثناء كله، وإليك يُرْجَع الأمر كله، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على حمدنا إياك، لك الحمد عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
أيها الإخوة: لا أعتقد أن أحداً منكم شكَّ يوماً في عقله أو في رشده.
ولا أعتقد أيضاً أن أحداً منكم اعتبر نفسه يوماً مجنوناً فاقداً للأهلية الشرعية.
ولا أعتقد أيضاً أن أحداً منكم يوماً فكر في أن يمسك بتلابيب نفسه معتبراً إياها خصماً يجب طرحها، وإزهاقها، وتخليص الناس والمجتمع من شرها وفسادها، معتبراً ذلك بطولة يستحق عليها أرفع الأوسمة وأعلاها.
لا أحد كذلك؛ وإلا لكان فاعله مجنوناً يستحق أن يقضي بقية عمره في مصحة نفسية.
ولكن لو رأيتم رجلاً يريد أن يشعل ناراً في وسط البحر، وعلى سطح الماء مباشرة، بل ويستخدم الماء كوقود لإشعال النار، ألا ترون أن هذا مجنون جنوناً بيِّناً؟!
بلى، إنه كذلك، فإذا جاءكم من يقول لكم: أبداً! إنه رجل عاقل! وهو يسعى لإيقاد النار بطريقته الصحيحة والمنطقية، ولعلمكم! لا يمكن أن يوقد أحدٌ النار إلا في البحر، وعن طريق صب الماء على الأخشاب التي يريد أن يشعل بها النار! هكذا يقول.
أعتقد -أيها الإخوة- أنكم حينئذٍ سوف تضربون كفاً بكف، وتقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله! ما هذا الجنون المركب؟! وما هذا الخبل المطبق؟!
إنني أوافقكم تماماً، وأعتقد أن كل عاقل راشد يجب أن يوافقكم، وأن يحترم عقولكم الرشيدة.
والآن لعل البعض يريد أن يقول: ما هذه المقدمة التي لا معنى لها؟! وما هذا الكلام الذي يتصدر خطبة الجمعة؟! إن هذه المقدمة فيها نوع من الجنون الذي تتحدث عنه!
ودعوني أصدقكم القول وأقول لكم: نعم، إنها مقدمة غريبة؛ ولكنني مُكْرَه عليها إكراهاً، وملزم بها إلزاماً، أكرهني على ذلك عصري الذي أعيش فيه، وألزمتني بذلك الأحداث التي أراها بعيني، وأسمعها بأذني، ويكاد عقلي أن لا يستوعب منها شيئاً.
أيها الإخوة: أليس من الجنون أن تسعى بعض أمم اليوم للحرب المدمرة المهلكة، ثم تقول: إن هذا من أجل السلام المنشود؟!
مَن هو الذي لديه مسحة من عقل يؤمن بهذا الكلام؟!
هل يُعقل أن يَجرؤ أحد على سطح هذه الأرض أن يؤكد أن الحرب مثلاً التي يشنها اليهود في فلسطين هدفها النهائي هو السلام، وأنهم يبحثون عن الأمن من خلال كل تلك الحالات التي تبرز فيها صفات الجبروت والغطرسة؟!
للأسف! نعم. هناك من يقول: إن هذه الحرب مشروعة من أجل السلام.
فمن الذي يقول ذلك؟!
إنها أمريكا .
هل هناك من يستطيع أن يقول: إن السلام مع اليهود يمكن تحقيقه؟!
نعم. هناك من يقول هذا.
من الذي يقول ذلك؟
إنهم أبطال الحلول السلمية والمفاوضات الماراثونية من أبناء العرب والمسلمين.
هل هناك من يستطيع أن يقول بعد تقرير الأمم المتحدة عن مذابح جنين : إن الأمم المتحدة حَكَمٌ عدل، وجهة محايدة، يمكن الاحتكام إليها؟!
نعم. هناك من يقول هذا.
من يقوله؟!
إنهم الحجاج إلى الأمم المتحدة ، الطائفون حول مقرها الدائم في عاصمة الحرية.
هل هناك من يستطيع أن يقول: إن أمريكا بمبعوثيها الدائمين المهذبين الأنيقين الذين يتجولون في عواصم الشرق الأوسط يتفهمون مأساة الفلسطينيين، ويتألمون لأحوالهم وظروفهم الصعبة؟!
نعم. هناك من يقول هذا.
إنهم الذين تعرفونهم دائماً، إنهم أصحاب المؤتمرات والبيانات، أصحاب الشجب والإدانة والاستنكار، الذين مللنا من بياناتهم ومن مؤتمراتهم.
هل هناك -أيها الإخوة- مَن يشكك في أن الغرب قد كشف القناع الذي كان يضعه على وجهه الصليبي الكالح؟!
نعم. هناك من يقول هذا، هناك من يدافع عن فلتات اللسان كما يرى، هناك من المسلمين من يقول: إن كل الكلمات التي صدرت عن القادة الأمريكان والتي تبين الروح الصليبية المتغلغلة في أعماق نفوسهم هي عبارة عن فلتات غضب وزلات لسان غير مقصودة.
أيها الإخوة: هل تصدقون أن أمريكا ستضرب العراق حباً فيكم، أو من أجل عيونكم، أو خوفاً على أنفاسكم وأجسادكم من أسلحة العراق النووية الفتاكة؟!
إياكم أن تصدقوا هذا! وإذا أردتم أن تعرفوا لماذا تريد أمريكا أن تضرب العراق، ولماذا تسمح لصحفها وقنواتها ومراكز الاستشارات عندها أن تهاجم المملكة، فعليكم بقراءة ما نشر في الصحف السعودية فقط، ولا تتعدوها إلى غيرها، اقرءوا الردود، والتعقيبات، والتحليلات الرائعة التي كتبت في تلك الصحف؛ لتكتشفوا ما هو الهدف النهائي.
وللعلم والإحاطة أيها الإخوة: تقول بعض الإحصاءات العسكرية القديمة: إن لدى إسرائيل أكثر من (200) رأس نووي، ويعرف ذلك من له أدنى خبرة بالشئون العسكرية.
ولكن والحق يقال حتى لا نظلم أحداً ومن باب الإنصاف: هذه المعلومات لم تصل إلى أمريكا بعدُ، وإلا لاتخذت موقفاً مشرفاً يشهد لها به محبوها، والمعجبون بها في عالمنا العربي المقدام، وما أكثرهم!
وللمدافعين عن
أمريكا المثنين على مواقف ساستها الصليبيين الحاقدين الذين لا يختلف على صليبيتهم عاقلان، أقول لهم: في يوم أمس، وبعد كل هذا الهجوم الصارخ على بلادنا، وعلى ديننا، وعلى مكتسباتنا أيضاً خرجت علينا مجموعة جديدة من ضحايا من يسمَّون ببرجَي مركز التجارة العالمي، ليقولوا: إنهم يطالبون بتعويضات تزيد على ثلاثة آلاف ترليون دولار، رقم فلكي خرافي لا يُصَدَّق، يطالبون بهذا الرقم عدداً من الدول العربية والإسلامية، ويطالبون عدداً من المنظمات والهيئات والمراكز الإسلامية الدعوية والخيرية، كما يطالبون عدداً من الشخصيات المهمة بحجة أن كل أولئك قاموا بتمويل
منظمة القاعدة المسئولة عن أحداث الحادي عشر كما يدعون.
وقد قال أحد المحامين: إن السعودية كدولة ليست من الدول المطالَبة بالتعويضات؛ ولكن إذا ثبت لدينا بالبينات أنها دعمت تنظيم القاعدة فسوف نرفع عليها الدعوى، وسوف ندخلها ضمن من أدخلنا.
فهل بعد هذا -أيها المسلمون- يقول قائل: إن أمامنا فرصة للتعايش؟! إن أمامنا فرصة للتحاور الحضاري؟! للجلوس إلى بعضنا البعض في أمن وأمان وسلام عالمي، يرفرف على أرجاء الأرض؟!
مَن هو المجنون الذي يقول ذلك؟!
إنهم -بكل أسف!- كُثر في عالمنا العربي والإسلامي، لا يعدهم عاد، ولا يرصدهم راصد.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: من سيدفع التعويضات لضحايا اليهود في فلسطين عبر أكثر من نصف قرن؟!
من سيدفع التعويضات لضحايا الغطرسة الأمريكية في أفغانستان ؟!
من سيدفع التعويضات لمئات الطلاب السعوديين والعرب الذين أوذوا وتعرضوا للسجن وللتعذيب وللإهانة في بلاد الحرية بعد تلك الأحداث؟!
من سيدفع التعويضات لأسرى غوانتانامو الذين لم يثبت عليهم أي شيء، ولم يعترفوا بأي شيء، باعتراف المسئولين عنهم في ذلك المعتقل؟!
من سيدفع التعويضات للتهم الباطلة، والهجوم الشرس على الإسلام والمسلمين، وعلى بلادنا على وجه أخص؟! من سيطالب بذلك؟! ومن سيجرؤ على ذلك؟! ومن سيتحمل المسئولية؟!
أيها الإخوة: إننا كأمة لا نعادي أحداً هكذا، ولا نسعى للحرب اعتباطاً، ولا نقاتل الناس أشَراً وبطَراً، وإنما نرفع راية الجهاد للدفاع عن الأمة ومقدساتها ومكتسباتها، ونرفع أيضاً راية الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، ونشر كلمة التوحيد فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولا نبدأ بالقتال، وإنما نخير مَن أمامنا، وندع له الفرصة الكاملة في أن يختار واحدة من ثلاث:
إما الإسلام وهو الدين الحق.
وإما الجزية.
وإما القتال.
فهو ثالث الاختيارات، بل آخرها، نضطر إليه اضطراراً؛ لكي نواجه به الطواغيت، ونحطم به الأغلال والأسوار التي يفرضونها على عباد الله.
فإذا فعلنا ذلك تركنا للناس فرصة الاختيار بين الإسلام وبين البقاء على دينهم،
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
[البقرة:256]، هكذا كان المسلمون في تاريخهم الطويل.