إسلام ويب

عودة فتاةللشيخ : عبد العزيز السويدان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فجأة وبغير موعد سابق تقع عيناها على آية من كتاب الله، فتتغلغل كلماتها إلى أعماق قلبها، وتوقظ إحساسها وخوفها، فيندفع سيل الذكريات في عقلها؛ لتستعيد كثيراً من المشاهد المخزية التي خلفتها وراء ظهرها، وينقطع هذا السيل الجارف بتصميم عجيب على الفرار إلى الله.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    الجلوس في غرفة انتظار النساء عند بعض العيادات الطبية طويل جداً، لا أدري ماذا يفعلون في الداخل، تسمع إحدى النساء تخاطب جارتها بتذمر، فتنظر هي إلى ساعتها وتقول في نفسها: لي الآن عشر دقائق مذ دخلتُ غرفة الانتظار، وهاتان المرأتان كانتا قبلي، فالظاهر أن المسألة سوف تطول، وتتنهد الفتاة بنَفَس طويل، وتلتفت يميناً وشمالاً، وتتفرس في وجوه من معها في الغرفة، لا توجد في غرفة الانتظار أية فتاة أعرفها! كلهن نساء كبار!

    فتُخرج الهاتف النقال من حقيبتها: دَعْنِي أكلمُ فلانة فقط وأضيع الوقت.. أُفّ! البطارية منتهية.

    وتتكئ بخدها على يدها بملل، وتمر بنظرها على أرجاء الغرفة، ويقف النظر عند طاولة فيها بعض المجلات، فتقوم من مكانها وتتجه إلى الطاولة، فتقلب تلك المجلات، وتقلب، وتقلب: ما هذه المجلات؟! أما مِن واحدة تفتح النَفْس؟!

    فترمي المجلة التي في يدها، وتهم بالرجوع إلى كرسيِّها، وقبل أن تلتفت لترجع يقع بصرها على مصحف، مصحفٌ وحيدٌ هناك على جانب الطاولة، لم يتناوله أحد: والله منذ زمن ما أمسكت مصحفاً -تقول في نفسها-، لم لا أقرأ فيه فقط لأتبرك؟!

    وتأخذ المصحف وترجع به إلى كرسيها، ثم تفتح المصحف، فإذا هي سورة التوبة، وإذا بها الآية: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:101-102].

    وتقف عند هذه الآية، ويبدأ قلبها يخفق بقوة، وتقرأ الآية مرةً أخرى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102].

    ويزداد قلبها خفقاناً، ويقشعر جلدها، وتحس بغصة بكاءٍ في حلقها، وتدمع عيناها، وكلما انتهت من الآية عادت وقرأتها من جديد، وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ... [التوبة:102]، سبحان الله العظيم! تريد أن تتجاوزها فلا تستطيع، سبحان الله! تقول في نفسها: ما هذه الآية؟! ما الذي أقرؤه؟!

    سبحان الله! هل تتحدث عني هذه الآية؟! هل تخاطبني؟! وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ... [التوبة:102]، أيكون هذا وقت الاعتراف؟! أتكون هذه علامته؟!

    سبحان الله! سبحان الله خالقي! أين أنا؟! أين موضعي في هذا الكون؟! أين كنتُ؟! وإلى أين أنا ذاهبة؟!

    سبحان الله! هل كنتُ نائمةً فاستيقظتُ؟! هل كنتُ ميتةً فحييتُ؟! أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].

    ويمر شريط الذكريات، ذكريات أعمالٍ لا تشرف أية فتاةٍ مسلمة آمنت بالله، فمِن خروجٍ مع شابٍ وخلوةٍ محرمةٍ معه، وما نتج عن ذلك مما تستحي من رؤيته العين المؤمنة، وما دار من كلماتٍ في تلك اللقاءات تأنَف عن سماعها الأذن، الأذن التي طالما استمعت لصوت الأذان يُرْفَع كل يومٍ خمس مرات: الله أكبر، الله أكبر، فلم تستجب ولم تقترب.

    سبحان الله! تقول في نفسها: أين كنتُ؟! ولماذا فعلتُ ما فعلت؟! لا تقولي: إنه الحب يا نفس! فالحب إن لم يكن فيما أحله الله تعالى فهو حبٌ شيطاني! أم إن الأفلام والمسلسلات هي الشرع الذي نحدد به سلوكنا وأخلاقنا! وهل أنا فتاةٌ مسلمة من أمة محمد، أمة الطهر والعفاف، أم من أمة الكفر والإباحة، غربية كانت أو شرقية؟!

    ويستمر شريط الذكريات يمر بسرعة: كم من صلاةٍ تكاسلتُ عن أدائها، حتى إنني لا أستيقظ لصلاة الفجر مطلقاً، يا ألله! وما صليتُ صلاة الظهر اليوم! سبحانك يا رب! كم تمهل! كم ترأف! كم تلطف! كم تستر! وهبتني الحياة، وأصححت جسدي، وعقلي، ألبسُ ما شئتُ، وآكل ما اشتهيتُ، وأنام كل ليلةٍ قريرة العين في أمنٍ وأمان، بين أهلٍ وإخوان، نِعَمٌ أتقلب فيها ليل نهار، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، أيكون هذا هو الرد على نعمة الله يا نفس؟!

    إلهي أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

    سبحانك وبحمدك يا رب! والله لأنت أحق من ذُكِر، وأحق من عُبِد، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك الذي لا شريك لك، وأنت الفرد الذي لا نِدَّ لك، كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكُر، وتعصى فتغفِر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حُلْتَ دون النفوس، وأخذتَ بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال، القلوبُ لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللتَ، والحرام ما حرمتَ، والدين ما شرعتَ، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، وليس لي ربٌ سواك.

    وتطأطئ الفتاة رأسها، وتضع يدها على وجهها، ويتردد بكاؤها في صدرها، ولكنها ما زالت في غرفة الانتظار والنساء من حولها ينظرن.

    فتحاول إخفاء شهقات البكاء التي تمَلَّكَتْها؛ ولكن أنَّى لها الإخفاء؟! إنها لحظة الصدق التي طال غيابها، إنها لحظة الإيمان التي هيأها الله لها بتلك الآية العظيمة من سورة التوبة.

    إنه قدر الله اللطيف مع هذه الفتاة، إنها للتوِّ الآن تستيقظ من عالم الغفلة، وتكشف لضميرها أوراق أمسِها، وأوراق يومها.

    إنها فتاةٌ كسيرة، إنها فتاةٌ تحاسب نفسها، وتفكر بجدٍّ في العودة إلى الله.

    وجديرٌ بها والله، وبكل فتىً وفتاة، ورجلٍ وامرأة، جديرٌ بنا كلنا أن نقف لمحاسبة النفس بين الحين والآخر.

    لقد قام قلب هذه الفتاة من رقاده بعد أن كان في سباتٍ عميق، وكأنما هي القومة لله المذكورة في قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46]. ولقد والله انتبهَتْ وتفكرَتْ، لقد أيقظَتْها الآية.

    وهنا بدأ قلب الفتاة يحيا من جديد، ويعود له نبضه الحقيقي، وتعود له حواسه الإيمانية، بدأ يميز بين المعروف والمنكر، بعد أن كان أعمى وأصمَّ لا يفرق بينهما، بدأ يفرق بين الطاعة والمعصية، لقد صحا وانتبه من غفلته، وأخذ يقلب في الماضي والحاضر، ويحس بطعم المعصية المر، وبدأ يفكر بالموت، بدأ قلبُها يفكر بالموت، ويشعر بالخوف من معاصٍ سالفة كثيرة، ويتساءل: كيف اجترأتُ عليها؟! كيف أمنتُ عقوبتها؟! كيف بارزت ربي بها؟! وكيف سأقابله بها؟! إنه الله العظيم! إنه الله الكريم! إنه الله الحليم!

    وتصرخ الفتاة في داخل أعماقها: كم كنتُ بعيدةً عنك يا رب! كم كنتُ بعيدةً عنك يا رب!

    وبدأ قلب الفتاة يتألم من لوعة الفراق، وليس أقسى ولا أوحش من بُعْد القلب عن محبوبه الأعظم! ليس أقسى ولا أوحش من بُعْد القلب عن الله! وهاهي الفتاة تعود إليه، وتناجيه بكل رقة، هاهي تناجي ربها وتشتكي إليه: يا رب! يا رب! ما لي مفرٌ ولا مخبأ، ولا حيلةٌ ولا ملجأ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك يا رب! فامنُن عليَّ بعفوك الكريم.

    لقد بدأ قلبها يتذوق لذة المناجاة، وروعة الإنابة والإخبات.

    حقيقةً إن علامة حياة القلب بعد موته هي في انتباهه لحق قدْر الله سبحانه وتعالى، هي في احترام وتبجيل حدوده، هي في معرفة المعروف وإنكار المنكر.

    قال ابن مسعود رضي الله عنه: [أتدرون من ميت القلب الذي قيل فيه:

    ليس مَن مات فاستراح بـمَيْتٍ     إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياءِ

    قالوا: ومن هو؟ قال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088989735

    عدد مرات الحفظ

    780413242