وبعد:
فهذه الحلقة الأولى من تفسير كتاب الله عز وجل تحتوي على سورة الفاتحة.
سورة الفاتحة اختلف في البسملة: هل هي آية من السورة، أم أنها زيادة؟ كما أنه قد اختلف في هذه البسملة في كل سورة من سور القرآن، فقيل: إنها آية من الآيات، وقيل: إنها بداية واستفتاح لكل سورة، وليست بآية إلا في سورة النمل، فهي جزء من آية في قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]، أما من قال: إن البسملة آية من كتاب الله عز وجل، فاستدل بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87].
فإذا قيل: إن السبع المثاني هي سورة الفاتحة؛ والقرآن العظيم هو بقية القرآن، وهذا من باب الاهتمام بسورة الفاتحة، فإن الآية السابعة هي البسملة؛ لأنها ست آيات دون البسملة، والآية السابعة هي البسملة، وعلى هذا فتصبح البسملة في سورة الفاتحة أو في أي سورة أخرى آية من القرآن، أي: لا تكون تلاوة كتاب الله عز وجل إلا بعد هذه البسملة.
وتسمى فاتحة الكتاب؛ لأنها أول سورة في القرآن العظيم، فيبدأ القرآن بسورة الفاتحة.
والعلماء متفقون على أنها لا تصح الصلاة السرية بالنسبة للإمام والمنفرد إلا بقراءة هذه السورة، فالمأموم في الصلاة السرية يلزمه أن يقرأ سورة الفاتحة، واختلف في الصلاة الجهرية إذا لم يترك الإمام فرصة بين الفاتحة وبين السورة الأخرى، وعلى هذا فإن هذا الخلاف واضح، بحيث إن قراءة الفاتحة ركن في كل صلاة، وفي الصلاة الجهرية مع الإمام فإنه اختلف في لو لم يترك الإمام سكتة، فإنه يجوز أن يتركها ويتحملها الإمام، ولكن إذا ترك الإمام سكتة وكانت هناك أية فرصة أو في سكتات الإمام المتقطعة فإنه في مثل هذه الحال لا بد أن تقرأ، واختلفوا فيما إذا لم يترك فرصة، وحينئذ فإنه يلزم أن يقرأها في أي حالة من الحالات، والذين قالوا: تسقط إذا لم يسكت الإمام ولم يترك سكتات، ففي مثل هذه الحال فإنها تسقط عند طائفة من العلماء، أما من استدل بحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقال: إنها لا تصح أي صلاة إلا بها، فريضة كانت أو نافلة سرية أو جهرية مع الإمام أو بدون إمام منفرداً أو مأموماً، فإنه يقول: لا بد أن تقرأ في أي حالة من الحالات، ولو كان الإمام يقرأ، واستدلوا بحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن منازعة القرآن، وقال: (إلا بفاتحة الكتاب) أي: في مثل هذه الحال.
وعلى هذا فإن هذه السكتة ولو كانت قليلة يستطيع أن يقرأ فيها المأموم سورة الفاتحة ولو بسرعة، أو يوزعها على السكتات، المهم أنه لا بد أن يقرأها.
أما الذين قالوا: لا يجوز أن يقرأها المأموم إذا كان مع الإمام في صلاته الجهرية، فاستدلوا بقول الله عز وجل: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
إذاً: سورة الفاتحة تعتبر أعظم سورة في القرآن العظيم، كما أن آية الكرسي أعظم آية، والدليل على أنها أعظم سورة في القرآن: أن الله عز وجل أثنى عليها، وجعلها منة ونعمة منه على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، فالسبع المثاني هي الفاتحة، وسميت مثاني لأنها تتكرر في كل ركعة، فيكررها المسلم عدة مرات في اليوم الواحد، معنى (مثاني) أي: مثنى مثنى، أي: تكرر مرة بعد مرة.
وجعل القرآن كله في كفة، وسورة الفاتحة في كفة، إضافة إلى أنها رقية كما ذكرنا، إضافة إلى أن هذه السورة لا تصح الصلاة إلا بها في أي ركعة من الركعات فرضاً كانت أو نفلاً.
وعلى هذا نعرف أن سورة الفاتحة أعظم سورة في كتاب الله عز وجل، بالرغم من قصرها، وقد جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، قال الله عز وجل: أنثى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، قال الله عز وجل: مجدني عبدي، ثم يقول الله عز وجل: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)، ويصبح آخر السورة النصف الثاني كله دعاء، في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، آمين. ولذلك الله عز وجل يقول بعد ذلك: (ولعبدي ما سأل)، والسؤال هنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7].
وعلى هذا فإنه يتوقع الهداية من الله عز وجل لكل من يكرر هذه الفاتحة؛ لأنها لا تقوم الصلاة إلا بها؛ ولأنها هي الركن الأول من أركان الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، فإن أركان الصلاة تبدأ بتكبيرة الإحرام وتثنى بقراءة الفاتحة، فالفاتحة ركن في كل ركعة كما ذكرنا سابقاً.
(من الشيطان): المراد بالشيطان كل متمرد من الإنس والجن والطير، فهناك شياطين الإنس، وهناك شياطين الجن، فشياطين الإنس: هم من ضل الطريق من بني آدم، وبدءوا يضلون الناس عن الطريق المستقيمة، وأما شياطين الجن: فالمراد بهم الشياطين من أبناء إبليس، وهم الذين يضلون الناس عن الطريق، ولكن شياطين الإنس والجن كما قال الله عز وجل: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، ولذلك فإن الإنسان قبل أن يبدأ أي قراءة، وفي كل حالة ينظر أن الشيطان قد تدخل في أمر من أموره، أو بدأ يسول له، فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، خصوصاً عند بداية القرآن، فإن الله عز وجل يقول عند بداية القرآن: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، كما في سورة النحل، وعلى هذا فإن معنى (قرأت القرآن) أي: إذا أردت القراءة؛ لأن الاستعاذة تكون قبل القراءة، وعلى هذا فإن المسلم عليه أن يبدأ كل شيء بالاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم.
ثم أيضاً هذه الاستعاذة تبعد شياطين الجن، وربما أنها لا تبعد شياطين الإنس إلا حينما تستعيذ بالله عز وجل منه مباشرة، وربما شياطين الإنس يحتاجون إلى جهد أكبر وهو البعد عنهم.
فعلى المسلم أن يبتعد دائماً عن المتمردين من البشر، وأن يبتعد عن مجالسهم ومخالطتهم، إضافة إلى أنه يستعيذ بالله عز وجل منهم، كما أنه يستعيذ بالله عز وجل من شياطين الجن، وعلى هذا فإنك تستعيذ بالله عز وجل من شياطين الإنس والجن، إلا أن شياطين الإنس يحتاجون إلى زيادة وهي الابتعاد عن مواقعهم، كما قال الله عز وجل: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68].
أيضاً يقول العلماء: الشيطان مأخوذ من (شاط) أو من (شطن)، فإذا كان من (شاط) فمعناه: احترق؛ لأن الشيطان محترق، أما إذا كان من (شطن) فمعناه: البعد، والشطان معناه: الرباط البعيد، فيسمى شطاناً، وعلى هذا فإنه مبعد عن رحمة الله عز وجل، فنقول: هو مأخوذ من (شطن) أي: ابتعد عن رحمة الله عز وجل، أو من (شاط) بمعنى احترق، والشيطان مبعد عن رحمة الله عز وجل، ومحترق، فهو يأخذ كلا المعنيين اللغويين.
و(الرجيم): فعيل بمعنى: مفعول، أي: مرجوم، والشيطان مرجوم بآيات الله عز وجل، ومرجوم بالذكر الذي لا يمكن الشيطان من وصول بني آدم، أيضاً الشيطان مرجوم بالنجوم؛ لأن الشياطين كانوا يسترقون السمع قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيصعد بعضهم فوق بعض إلى أن يصلوا إلى السماء، ويلتقطون من الوحي كلمة واحدة، ويضيفون إليها تسعاً وتسعين كذبة، ثم ينزلون بها فيخبرون بها الكهان، وبعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم سلط الله عز وجل عليهم هذه الشهب التي نلاحظها في السماء تنطلق من النجوم، والله عز وجل يقول حكاية عن شياطين الجن: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ [الجن:9]، أي: بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم: يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9]، ولذلك فعلى المسلم أن يكثر دائماً من الاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم.
(بسم الله) الباء: للاستعانة، أي: أستعين مبتدئاً بسم الله الرحمن الرحيم.
و(الله، والرحمن، والرحيم): كلها أسماء من أسماء الله عز وجل الحسنى، وكان أهل الجاهلية ينكرون اسم (الرحمن) من أسماء الله عز وجل، فكانوا يكتبون (باسمك اللهم) ويقولون عن (الرحمن): لا نعرف رحماناً إلا رحمان اليمامة، وهو صنم من أصنامهم، وينكرون الرحمن، وإن كانوا يؤمنون بالرحيم من أسماء الله عز وجل، ولذلك كانوا يكتبون: باسمك اللهم، ويكرهون كلمة (الرحمن)، ولا يؤمنون بها اسماً من أسماء الله عز وجل، ورد الله عز وجل عليهم في سورة الإسراء بقوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110].
ومما يذكر في هذا المقام قصة سهيل بن عمرو رضي الله عنه حين كان مشركاً، حينما أرسله أهل مكة ليعمل صلحاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، يوم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة ومنعوه من دخول مكة، فأرسلوا سهيل بن عمرو من أجل الصلح، وأن تقف الحرب سنين معينة، وأن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دون أن يتم عمرته، وأن يحلق رأسه، كما هو النظام الموجود في ذلك الوقت، وهو أيضاً أصبح حكماً شرعياً، ويرجع، فجاء سهيل بن عمرو رضي الله عنه -وكان مشركاً في ذلك الوقت- فجلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم يكتبون العهود والمواثيق التي اتفقوا عليها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعلي : (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأننا لا نؤمن بالرحمن، فقام
وفعلاً لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان سهيل بن عمرو قد دخل في الإسلام وحسن إسلامه، وكان من زعماء أهل مكة الموجودين يوم مات الرسول صلى الله عليه وسلم، وارتد كثير من العرب عن الإسلام، بعد ذلك وقف سهيل بن عمرو رضي الله عنه على باب الكعبة وقال: يا أهل مكة! أنتم آخر من دخل في الإسلام، فلا تكونوا أول من يخرج منه، يقول المؤرخون: فما ارتد واحد من أهل مكة بسبب كلمة سهيل بن عمرو رضي الله عنه.
ومعنى (الرحمن): الرحمة العامة، أما (الرحيم) فمعناه: الرحمة الخاصة، ولذلك يقول الله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، فرحيم على وزن (فعيل) بمعنى: فاعل، أي: راحم، فرحمن ورحيم معناهما متقارب: من الرحمة، ولكن كلمة (الرحمن) أعم لكل الناس، و(الرحيم) خاصة بالمؤمنين، ولذلك يقولون: الرحمن: رحمة عامة، والرحيم: رحمة خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43].
أيضاً الدين معناه: الجزاء، كما تقول العرب: كما تدين تدان، يعني: كما تحاسِب تحاسُب، أي: مالك يوم القيامة، وهو يوم المحاسبة أو يوم الجزاء؛ لأن يوم الدين هو يوم جزاء وليس فيه عمل، بخلاف أيام الدنيا فإنها أيام عمل وليس فيها جزاء، وقد يكون فيها شيء من الجزاء، فالله عز وجل قد يعطي شيئاً من الجزاء يعجله لبعض أوليائه في الحياة الدنيا، بخلاف أعدائه، فإن الله عز وجل يعجل لهم الجزاء كله في الدنيا، فمن عمل عملاً ظاهره الصلاح لكنه بدون نية وبدون إيمان؛ فإن الله عز وجل يعجل له جزاءه في الدنيا، ولا تبقى له في الحياة الآخرة حسنة واحدة، ولذلك يقول الله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15].
وهذا هو ما نشاهده في عالمنا اليوم حينما نرى أقواماً كفروا بالله عز وجل، أو تمردوا على طاعته، أو عصوا، أو أسرفوا في المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، ثم نجد أن الله عز وجل يمدهم بالأهل والمال والبنين والصحة والعافية، وربما نشاهد بلادهم فيها من الخيرات أكثر مما هو في بلاد المسلمين، وعندهم من النعيم والرخاء أكثر مما في أيدي عباد الله المؤمنين، فلعل السر في ذلك -والله أعلم- أن الله تعالى عجل لهم حسناتهم؛ لأن الله تعالى يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ [هود:15]، و(نُوَفِّ): أي: نعطيهم أجرهم كاملاً غير منقوص: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:15-16] نعوذ بالله! وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]، أي: كان باطلاً في الدنيا وحبط أيضاً في الحياة الآخرة، فصنعهم يحبط في ذلك اليوم، وكان باطلاً في الحياة الدنيا لأنه غير مقبول عند الله عز وجل؛ لأنه لا يصاحبه الإيمان أو لا تصاحبه المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يصاحبه إخلاص العبادة لله عز وجل.
وهذا أيضاً هو معنى قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ [الإسراء:18]، أي: الحياة الدنيا بعمله: عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، هؤلاء يأخذون جزاءهم في الدنيا، فيوم دينهم أي: جزاؤهم يأخذونه في الدنيا، أما المؤمنون فإن الله عز وجل قد يبعد عنهم رخاء الحياة الدنيا، فقد يعيشون فقراء أو محرومين أو معذبين أو مسجونين أو ما أشبه ذلك، ثم نجد أن الله عز وجل يدخر لهم ذلك في الحياة الآخرة؛ لأن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، بل إن الله عز وجل يقول: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر:15-17]، يقول: كلا! أي: لا هذا أكرمه ولا هذا أهانه، فإن الإكرام والإهانة هو في الحقيقة في الدار الآخرة، أما في الحياة الدنيا فقد يكرم الله عز وجل من لا يستحق ذلك استدراجاً أو جزاءً على عمل قدمه في الحياة الدنيا، كأن يبني المدارس، أو يحفر الترع، أو يبني القناطر، أو ما أشبه ذلك مما ينفع الناس لكن بدون نية، فالله تعالى يجعل جزاءه في الحياة الدنيا.
أما المؤمنون فإن الله تعالى وإن عجل لهم شيئاً من ذلك في الحياة الدنيا، لكن الجزاء الأكبر مدخر لهم في الحياة الآخرة، وهذا معنى قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، أي: مالك يوم الجزاء، فهو الجزاء الحقيقي.
كما أن في ذلك اليوم أيضاً جزاء الكافرين والعصاة، فإن كل واحد يأخذ جزاءه في تلك الدار إذا لم يتجاوز الله عز وجل عن سيئاته، كما يجزي المؤمنين بالجنة في الدار الآخرة، فإنه سبحانه وتعالى يجزي الكافرين بالعذاب وكذلك العصاة، إذا لم يتجاوز الله عز وجل عنهم؛ لأن الكفار مخلدون في النار، وعصاة المؤمنين تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته، فإذا تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وإن ماتوا على معاصيهم فإن الله تعالى قد يعذبهم وقد يعفو عنهم، وإذا عذبهم فإنهم لا يخلدون في النار إذا ماتوا على الدين والتوحيد والطاعة لله عز وجل، وإن كانت عندهم ما عندهم من المعاصي ولو كانت كبائر لم يتجاوز الله عز وجل عنها.
إذاً: قول الله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، أي: مالك يوم الجزاء، وعلى هذا فإن يوم الدين ويوم الجزاء هو يوم القيامة، والله تعالى مالك أيام الدنيا ويوم الدين، لكن ملك الدنيا قد يظن أحد من الناس أنه يملك فيه شيئاً، يملك بيته.. يملك أرضه.. يملك عقاره.. يملك أهله وماله وداره.. يملك الملك دولته ويتصرف هذا التصرف، لكن الملك المطلق يكون في يوم الدين لله عز وجل؛ لأنه لا يبقى ملك لأحد في ذلك اليوم إلا من يملكه الله عز وجل، كما قال الله عز وجل عن المؤمنين أنهم يقولون: وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74]، وهذا هو التمليك المطلق الدائم، لكنه بتمليك الله عز وجل، أما ذلك اليوم فالذي يملكه ويملك التصرف فيه، ويملك أيضاً الجزاء، ويملك من يشاء ويحرم من يشاء هو الله عز وجل، ولذلك خص يوم القيامة بقوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
إذاً: الدين معناه: الجزاء والحساب، وهذا دليل على أن الله عز وجل هو الذي يحاسب الإنسان بنفسه، ويحاسبه بناءً على علمه أولاً، بما فعل الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وما سجلته هذه الصحائف التي سجلت على كل إنسان، كما جاء في الحديث: (إن الله عز وجل ينشر على عبده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، وهي صحائف الأعمال، فيقول الله عز وجل: أتنكر من ذلك شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ ألك عذر؟ ألك حسنة؟ فيقول الإنسان: لا والله يا رب! فيظن أنه قد هلك، فيقال: بلى، إن لك عندنا حسنة، إنك لا تظلم، فيؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتوضع في كفة، وتوضع تلك السيئات العظيمة كلها في كفة، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات)؛ لأن هذا الإنسان حقق لا إله إلا الله وعمل بمقتضاها.
وعلى هذا فإن الجزاء من عند الله عز وجل، والله تعالى هو الذي يحاسب هذا الإنسان، حتى إن الله عز وجل كما جاء في الحديث: (يحاسب عبده ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، وبالرغم من كثرة الخلائق يوم القيامة فإن الحساب يكون في لحظة واحدة؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199]، لأنه قد اطلع، وقد أودع الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا شهوداً تشهد على هذا الإنسان:
فأولها كما ذكر الله عز وجل: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [يونس:61].
الأمر الثاني: أولئك الملائكة، الذين يقول الله عز وجل عنهم: كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:11-12].
الأمر الثالث: الأرض، فإن الأرض شاهدة على الإنسان؛ لأنه لا يمكن أن يفعل الإنسان شيئاً إلا على وجه الأرض، حتى لو كان في جو السماء، فالأرض مطلعة وتشهد عليه يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل يقول: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل علي فلان كذا في يوم كذا وكذا، وعمل علي فلان كذا في يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها).
أيضاً جعل الله عز وجل هناك شهوداً آخرين: كالناس يشهد بعضهم على بعض، كما جاء في الحديث: (مرت ذات يوم جنازة فأثنى عليها الناس خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه).
أيضاً: الشاهد الأكبر بعد الله عز وجل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء في قول الله عز وجل في سورة النساء: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قال بعض العلماء: معناه! مزكياً، وأن هذه الأمة تشهد على الأمم السابقة بأن المرسلين بلغوهم، ويزكيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: يزكي هذه الأمة؛ لأنهم أمة مزكاة وأمة عدول.
وقراءة: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، أعم؛ لأن (مَالِكِ) تعني أن الملك ملكه جزء من ملك الله عز وجل، أما (مَلِكِ) فمعناها: المتصرف تصرفاً مطلقاً؛ لأنه لا يوجد في ذلك اليوم ملك من ملوك الدنيا، فيصير الملك هو الله عز وجل وحده لا شريك له.
إذاً: معنى قول الله عز وجل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: لا نعبد إلا إياك، ونأخذ الحصر من تقديم ما حقه التأخير، وعلى هذا فإن هذه الآية بجزئها الأول حصرت العبودية لهذا الإنسان لله عز وجل وحده، أي: لا نعبد أحداً سواك، وعلى هذا فإنها تحتوي على كلمة التوحيد المطلقة التي لا تقبل أي جدال ولا شك، ولذلك لما أطلق التمجيد لله عز وجل في تخصيصه سبحانه وتعالى بالعبادة، وتخصص هذا الإنسان بالعبودية لله عز وجل، قال الله عز وجل كما في الحديث: (مجدني عبدي)، عند هذه الآية، فالتمجيد معناه: الثناء الكامل وإضافة المجد كله لله عز وجل.
وعلى المسلم وهو يكررها في كل ركعة من صلاته أو في غير الصلاة أن يفهم حقيقتها، فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، فلا يحني ظهره لغير الله عز وجل، ولا يطأطئ رأسه لغير الله عز وجل، ولا يضع أشرف عضو من أعضائه -وهو الوجه- على الأرض إلا لله عز وجل.
وعلى هذا فإن الله سبحانه وتعالى في مثل هذه الآية خص نفسه بالألوهية، ولذلك يرفضها المشركون؛ لأنهم يعبدون آلهة الكفر مع الله عز وجل، ولو قالوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فإنهم يقولون: نعبد الآلهة الأخرى مع الله عز وجل التي تقربنا إلى الله زلفى، ولذلك فإنهم يرفضون (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؛ لأنهم يعرفون أن معناها: لا نعبد أحداً سواك، وهم مضطرون -كما يظنون في قرارة نفوسهم الضالة- أنهم لا بد أن يضعوا هذه الآلهة واسطة بينهم وبين الله عز وجل، كما في قوله تعالى عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
أما إذا تفهمت يا أخي الكريم! (إياك نعبد)، فإنك تفهم أن معناها الحقيقي: لا يمكن أن يكون هناك معبود غير الله عز وجل، ولا هناك عابد لله عز وجل يعبد مع الله غيره، ونحن نرى أو نسمع أن هناك عشرين ألف ضريح يعبد من دون الله عز وجل في هذا العالم، وقد رأيت كثيراً منها يحج إليها طائفة من الناس، ويتمرغون حول هذه القبور، ويطوفون بها، ويسألونهم الحاجات من دون الله عز وجل، ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى، كما قال المشركون الأولون، إلا أنهم يغيرون اللفظ فقط ويقولون: هذه ترمز إلى رجال صالحين، وهذه قبور أناس صالحين نرجو شفاعتهم يوم القيامة، والحقيقة أن هذا يشبه إلى حد بعيد بل لا يختلف أبداً عن قول المشركين الأولين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، والله عز وجل لا يحتاج إلى واسطة، فمجرد ما يرفع يديه هذا الإنسان إلى السماء، أو يقول: الله أكبر في الصلاة؛ ينفتح الحجاب بينه وبين الله عز وجل، ويسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة دون أن يحتاج إلى وساطة؛ لأن الله عز وجل لا يريد أن يسأل بجاه أحد، أو بصلاح صالح، أو بأي شيء آخر، وأن يجعل بينه وبين الله عز وجل واسطة.
وعلى هذا: فإن أصحاب الأضرحة والقبور في أيامنا الحاضرة ضلوا الطريق حينما يقولون: هؤلاء الصالحون نرجو شفاعتهم في الآخرة، وأشبهوا المشركين الذين قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
وربما يكون هذا الكلام -في بلادنا هنا والحمد لله- قد لا يفهمه كثير من الناس، لاسيما الذين لم يسافروا خارج هذه البلاد، فإن بلادنا هذه -والحمد لله- حرسها الله تعالى بدعوة سلفية منذ مئات السنين، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، التي جددت لنا دعوة التوحيد التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، حينما اتفق مع أمير هذه البلاد محمد بن سعود رحمة الله عليهم أجمعين، فتعاهدوا على كلمة التوحيد، وهدمت القبور والأضرحة كلها، فبلادنا -والحمد لله- خالية تماماً إذا لم نذكر ما يوجد من القلة الذين يأتون من بلاد انتشرت فيها الوثنيات والشركيات في بلادهم، ثم يذهبون إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد يأتون بشيء من الشركيات التي نسأل الله عز وجل أن يوفق المسئولين -وهم ما زالوا يحاربونها- أن يزيدوا في محاربتها؛ لأن مكة والمدينة -حرسهما الله عز وجل- تلتقي فيهما عدة حضارات من حضارات العالم، كما تلتقي فيها جنسيات العالم، فيأتي أناس يحملون هذه الفكرة التي هي في بلادهم، وربما يقول أحدهم في بلادنا هنا حينما يصل إلى مكة والمدينة: إذا كنا هناك نعظم ونقدس أناساً عاديين فأولى بهذا التعظيم وهذا التقديس الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما يأتون بشيء من شركياتهم، وهذا هو ما نشاهده في بعض الأحيان حول قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، التي هي مركز التوحيد سابقاً.
لكن -والحمد لله- نجد في سلطتنا الخير الكثير، فهم ما زالوا ولم يزالوا وسيستمرون إن شاء الله على محاربة هذا الفكر الذي يرد ويأتي به أناس ربما لا يفهمون الحقيقة الواقعية في المملكة العربية السعودية، إضافة إلى أن بلادنا لا يوجد فيها الشرك، خصوصاً هذه المناطق التي نعيش فيها نحن هنا في نجد وما حولها؛ لأنها بلد انتشرت فيها قاعدة التوحيد والحمد لله، وجددها المجددان محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود رحمة الله عليهما، فنشكر الله عز وجل على هذه النعمة، ونسأل الله أن يزيد المسئولين في هذا البلد إيماناً ويقيناً وتوحيداً، وأن يثبتنا وإياهم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وعلى هذا نقول: الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه وهو حي فلا بأس أن تستعين به وتقول: يا أخي! ساعدني في كذا، أما إذا كان ميتاً فلا تجوز الاستعانة به بأي حال من الأحوال؛ لأن الميت هو بحاجة إلى الحي، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا نستعين به بعد موته، وإذا ذهبنا إلى قبره عليه الصلاة والسلام فإننا نسلم عليه بعد أن نزور مسجده، فنقف عند قبره نسلم عليه ولا نستعين به، وإنما نصلي ونسلم ونثني عليه بما هو أهله عليه الصلاة والسلام، ونسأل الله عز وجل شفاعته في الآخرة، لكن لا نسأله شيئاً، وهو أقدر الخلق في حياته عليه الصلاة والسلام على كل شيء، وقد هدانا الله تعالى بسببه، لكنه بعد موته لا يستطيع أن يقدم لنا أي خدمة أو أي معونة مادية، إلا أن نتبع سنته ونموت على ملته، ونسأل الله عز وجل الثبات على ملته.
هذا هو الأمر الذي نستفيده منه، بل هو صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى أن نصلي عليه، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم معناها الدعاء، إذاً: هو بحاجة إلى دعائنا عليه الصلاة والسلام بعد موته، ونحن بحاجة إلى الله عز وجل مباشرة بحيث لا نستعين إلا بالله عز وجل، فكيف إذاً بمن يستعين بالأموات الذين أصبحوا رفاة ويذهبون إليهم ويقولون: يا فلان! أعطني كذا؟! تذهب المرأة التي لا تحمل -نعوذ بالله- فتجلس عند صاحب الضريح، سواء كان تقياً أو براً أو فاجراً وتقول: أنا لا أحمل! تسأله وكأنه أصبح إلهاً مع الله عز وجل، وهو لا يملك لها ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً؛ بل إن الأموات ونحن نمر بقبورهم نسلم عليهم وندعو لهم، فكيف يدعو هذا الإنسان المصاب ويذهب إلى ميت؟! ألا يفر إلى الله عز وجل؟! فيذهب هذا المريض إلى صاحب هذا القبر ويقول: أعطني الصحة والعافية! عياذاً بالله!
وهذا هو معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف:194]، وعلى هذا فإن كل ميت لا يمكن أن يساعد حياً، وكل حي قد يستطيع أن يساعد، لكن فيما لا يقدر عليه لا يجوز أن نسأله، كأمور الآخرة، أو مغفرة الذنوب وما أشبه ذلك، ولو كان حياً، أما الميت فإنه لا يجوز أن نعطيه شيئاً من الدعاء، أو نسأله حاجة من الحاجات؛ لأنه أصبح تراباً، وهو أيضاً رهين في قبره بما قدمه في حياته الدنيا، فقد يكون من أهل السعادة، وقد يكون من أهل الشقاوة، وقبره إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، حتى لو فني جسمه فإن روحه باقية، وهي التي تعود إلى مكانها يوم يأذن الله عز وجل ببعث الخلائق.
إذاً: هذا هو معنى قولنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نعبد إلا أنت يا رب، ولا نستعين إلا بك، لكن ذلك لا يمنع أن تستعين بحي في أمور محدودة يستطيع عليها، وتطلب منه المساعدة والعون، لكنك حينما تطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، أو تطلب هذا الأمر من ميت أياً كان هذا الميت؛ سواء كان من المرسلين أو من عامة الناس، فإنك في الحقيقة تطلب المستحيل؛ لأن هذه الأمور لا يملكها إلا الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان حياً حياة برزخية في قبره كما نؤمن بذلك، إلا أنه ميت عليه الصلاة والسلام، بخلاف ما يقوله غلاة الصوفية والمارقون: أن النبي صلى الله عليه وسلم حي، ويقولون: محمد خلق من نور، وليس له ظل، وهذا كله في الحقيقة كفر بالله عز وجل، وكفر بما جاء من عند الله عز وجل، وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى أخبر بأنه ميت: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، أي: ستموت: أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران:144]، إذاً: الموت يقع عليه كما وقع على جميع الأنبياء، والخلاف في الذي لم يمت في الحقيقة هو عيسى عليه الصلاة والسلام، كما دل القرآن عليه حيث قال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، علماً أن طائفة من المفسرين يقولون: قوله: (إني رافعك إلي) فيه تقديم وتأخير في المعنى لا في اللفظ، أي: رافعك ومتوفيك، فالله عز وجل رفعه إلى السماء وتوفاه، ويوم القيامة قبل أن تقوم الساعة حينما يخرج المسيح الدجال ينزله الله عز وجل إلى الأرض، ويقتل الدجال، ويكسر الصليب.. كما جاء في الحديث.
إذاً: موت الأنبياء موت حقيقي، لكن حياتهم برزخية، وقد حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم كما جاء ذلك في الحديث، أما الموت فإنه كتبه الله عز وجل على كل كائن حي بما في ذلك المرسلون عليهم الصلاة والسلام، وفي يوم القيامة يموت كل شيء حتى الملائكة، وآخر من يموت حملة العرش بعد أن يموت ملك الموت، ويفني الله عز وجل هذا العالم كله؛ لأن الله تعالى يقول: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، فالذين يقولون: محمد غير ميت وهو حي، هم في الحقيقة يكفرون بالقرآن، ويكفرون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل من الكتاب والسنة، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم في بشريته حينما قال: (ألا أنما أنا بشر)، فلم يخلق من نور، وإنما خلق من لحم ودم، وهذا معنى بشر، وليس هو أول المخلوقات؛ لأن أول مخلوقات البشر هؤلاء هو آدم عليه الصلاة والسلام، كما أخبر الله عز وجل: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30].
وكل هذه من شطحات الصوفية الذين ضلوا الطريق، وأضلوا كثيراً من الناس في أيامنا الحاضرة وعبر سنين طويلة، وسوف يسألون يوم القيامة بين يدي الله عز وجل عن كل من ضل على أيديهم، وعن كل ما افتروه على الله عز وجل، وكذبوا به رسوله صلى الله عليه وسلم، بالرغم من أنهم يزعمون أنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم.
وعلى هذا نفهم قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أن الاستعانة أيضاً كالعبودية، وهذا نفهم منه أن الاستعانة نوع من العبادة، بل هي جزء مهم من جزئيات العبادة؛ لأن الله عز وجل ذكرها بعد العبودية مباشرة، وبالرغم من أنها جزء من جزئيات العبودية إلا أنها أصل من أصول العبودية لله عز وجل، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإذا استعنت فاستعن بالله)، لا تسأل غير الله عز وجل، وذلك كله مرتبط بقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: الاستعانة يجب أن تكون لله عز وجل وحده لا شريك له.
فنقول: إن لها معنيين: أي: دلنا على الصراط المستقيم، وإذا اهتدينا إليه ثبتنا عليه، ويكون معنى (اهدنا) بالنسبة للمسلم وهو يقرؤها أي: اهدنا إليه هداية تامة مطلقة؛ لأن هناك من يزعم ويظن أنه على الصراط المستقيم، لكنه ضل الطريق، كما قلت لكم في غلاة الصوفية الذين انحرفوا عن الطريق، وكما يوجد في العلمانيين في هذا العصر، يقولون: إن هذا الدين دين عبادة، والقرآن نزل للعبادة، والمسلم مكلف بالعبادة فقط من عند الله عز وجل، أما بالنسبة لأنظمة الحياة فيقول هؤلاء العلمانيون: هذه ليست لله وإنما هي للبشر، هذا لله وهذا لشركائهم، ولذلك يرون أن هذا الدين لا يتدخل في أنظمة الحياة: لا في الأنظمة الاقتصادية، ولا في الأنظمة السياسية، ولا في الأنظمة الأخلاقية، ولا في الأكل ولا الشرب ولا اللباس، إنما يقول هؤلاء العلمانيون قاتلهم الله: إن معنى هذا الدين أن تذهب إلى المسجد تصلي إذا جاء وقت الصلاة، وتصوم إذا جاء رمضان، وتحج إذا جاء الحج وتعتمر.. إلى غير ذلك من العبادات، أما أموال الناس ومعاملاتهم وسلوكهم وحكمهم وسياستهم فيقولون: لا يتدخل الدين في ذلك، فهذا منهج العلمانيين.
أما الصوفية فإنهم يصرفون أنواعاً من العبادة لغير الله عز وجل، ويبدأ ذلك من البدع والعياذ بالله! والبدع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطبة جمعة: (كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وعلى هذا: فإن أي بدعة فإنها تعتبر ضلالة في الحقيقة، وعلى هذا فإن المسلم مطالب بأن يسأل الله عز وجل دائماً الهداية، فإذا كان ذلك الإنسان ضالاً وهو يسأل الله الهداية ويقول: أنا مهتدي، وهو ضال في الحقيقة، كما ذكرت عن هؤلاء الذين يزعمون أنهم على الصراط المستقيم، فهؤلاء أشد الناس فتنة يوم القيامة، وهم في الدنيا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً قال تعالى عنهم: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104]، وأخبر الله عز وجل عنهم في مكان آخر بقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39].
فهؤلاء الذين يعبدون الله عز وجل على غير بصيرة أو بدون قاعدة التوحيد، أو المنافقون أو من كانت عندهم شطحات عظيمة تخرجهم من الملة: يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104]، وأَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]، و(السراب) معناه: الشيء الذي يرى في شدة الحر وكأنه ماء للعطشان، فيركض وراءه، وكلما قرب ابتعد، والحقيقة أنه ليس ماءً، وإنما هو فقط أمام عينيه، وهكذا أعمال هؤلاء القوم الذين يحسبون أنهم على حق وهم على ضلال، ولذلك يروى أن علياً رضي الله عنه كان يسير في الطريق ذات يوم في صحراء، فمر بدير من أديرة اليهود فنادى، فأطل عليه راهب كانت الدموع تسيل على لحيته، فلما رآه علي رضي الله عنه قال: صدق الله العظيم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [الغاشية:2]، أي: في الدنيا، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3-4]، أي: في الآخرة، فلا ينفع مثل هذا إيمانه؛ لأنه يبكي على غير منهج صحيح، ولذلك نلاحظ كثيراً من الناس يصرفون وقتاً كبيراً للعبادة، لكن هذه العبادة إما مبنية على قاعدة البدعة أو الشرك بالله عز وجل، أو عمل ليس على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ليس صواباً غير مقبول.
ولذلك المسلم يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، فيطلب الهداية إن كان عنده شيء من الأخطاء التي تضله عن الطريق أو هناك من يضله، يسأل الله تعالى أن يهديه، ثم يسأل الله عز وجل الثبات أيضاً على ذلك، أي: ثبتنا على الصراط المستقيم؛ لأن الهداية هي دلالة وثبات، فالله تعالى هو الذي يدل الإنسان على الطريق المستقيم، وقد يضل أذكى الناس كما نشاهد في أيامنا الحاضرة، فإن الذين صنعوا الكمبيوتر والأجهزة الدقيقة، وصعدوا في الفضاء، ووصلوا إلى القمر، وغاصوا في أعماق الأرض، واكتشفوا أشياء دقيقة جداً، ما هداهم الله عز وجل إلى هذا الطريق المستقيم؛ لأن الله عز وجل لا يهدي إلا من يريد، والهداية لا تقوم على الذكاء، أو على الآباء والأمجاد، أو أبناء الذوات أو ما أشبه ذلك، وإنما تقوم على توفيق من الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]، ولذلك المسلم يكررها في كل ركعة، وفي غير الصلاة أيضاً: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
وهذا دعاء يطلب من الله عز وجل وإن كان أمراً في ظاهره، لكنه لا يكون من الأقل للأعلى إلا دعاء، فالأمر له عدة حالات: فإذا كان من الأعلى أو من المساوي قد يكون أمراً، لكن إذا كان من الأقل إلى الأعلى فمعناه دعاء وتضرع بين يدي الله عز وجل، وطلب من الله عز وجل الهداية والثبات، وعلى هذا فإن معنى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، أي: ثبتنا عليه، سؤال من الله عز وجل أن يثبتهم على الصراط المستقيم.
والمسلم دائماً عليه أن يتأكد من صحة المسار، ومن تأكده أن يكثر من قول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، بل إذا قالت له نفسه شيئاً من الغرور، يسأل الله عز وجل الثبات، وإن لم تقل له نفسه شيئاً من هذا الغرور فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق وأحسنهم عملاً وإخلاصاً ومتابعة لأوامر الله عز وجل كان دائماً يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ونحن أولى بأن نقول ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، ولم يقل: أسلموا، وإنما قال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وجاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -يعني: قرب الأجل- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً في أهل النار: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -أي: فيما يظهر للناس- فيسبق عليه الكتاب -أي: يقرب الأجل- فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ويأتي إذا قرب الأجل ما قدره الله عز وجل له في اللوح المحفوظ، نسأل الله الثبات، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، فهو في طول حياته -نعوذ بالله- ضال، لكن الله عز وجل أراد له الهداية وحسن الخاتمة، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) نسأل الله الثبات والموت على الملة.
قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، أي: ثبتنا عليه، وهذا الثبات هو الذي يحرس هذا الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، وكم نرى من الناس من هو على صلاح وتقى، ولكن الله عز وجل أراد له الضلالة وسجل عليه الشقاوة في جبينه يوم كان في بطن أمه وفي اللوح المحفوظ؛ لأن أول ما خلق الله القلم فقال له: (اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فكتب ذلك كله في اللوح المحفوظ، فنرى صلاحاً وتقى في إنسان، ثم إذا به ينحرف نعوذ بالله! وقد نرى والحمد لله ما هو أكثر من ذلك في أيامنا الحاضرة، أناساً رأيناهم في ضلال، حتى إذا جاء الله عز وجل بهذه الصحوة الإسلامية المباركة، وهذا الاتجاه الطيب، وجدنا أن هؤلاء والحمد لله أصبحوا في مقدمة الصالحين، وقد يكونون أبناء أناس فسقة ومن الله عز وجل عليهم بالهداية، لاسيما في هذا العصر الذي أثلج -والحمد لله- صدور المؤمنين ما نشاهده من اتجاه إلى دين الله عز وجل، نسأل الله لهم الثبات والاتزان والانضباط، حتى لا يتعدوا الحدود التي شرعها الله عز وجل.
ولذلك يقول العلماء: إنه كلما جاء الصراط المستقيم أو دين الإسلام أو الطريق الموصل إلى الجنة جاء بلفظ المفرد، كقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وكقوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام:153]، وأما إذا جاءت الطرق المنحرفة فإنها تذكر بلفظ الجمع، كما في قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]؛ لأن طرق النار كثيرة نعوذ بالله! وطريق الجنة واحد، ليس هناك في الجنة إلا طريق واحدة، وهي طريق الإيمان والتوحيد والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والمرسلين قبله قبل أن تنسخ أديانهم.
وعلى هذا فإن هذه القاعدة مطردة، كلما جاء الصراط أو السبيل بلفظ الجمع فالمراد به طرق النار نعوذ بالله! والطرق المنحرفة، كما رسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما جاء في هذه الآية، ولكن ورد في قول الله عز وجل في آخر آية في سورة العنكبوت: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فلم تأت حسب ما أعرف (سبل) مجموعة إلا في هذه الآية، وهي من سبل الطريق المستقيم، قال بعض العلماء عنها: (سبلنا) أي: الطرق التي تنتهي بطريق واحدة، فكأنها ممرات تنتهي بطريق واحدة، وهي طريق الجنة وهو الصراط المستقيم، ولذلك فإن السبل وإن تعددت إذا كانت تنتهي بطريق واحدة فهي طريق الجنة؛ كما جاءت في آخر آية من سورة العنكبوت.
ولذلك فإننا نجد أيضاً أن هذه السبل -كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم- على كل واحد منها شيطان، وهؤلاء الشياطين منتشرون من شياطين الإنس والجن في أيامنا الحاضرة، وفي كل عصر من العصور، يدعون الناس إلى هذه السبل المنحرفة، وكما جاء في الحديث نفسه الذي ذكرته: (أن على كل واحد منها شيطاناً)، وهذا الشيطان قد يكون من شياطين الإنس، وقد يكون من شياطين الجن، وقد يكون من الجميع، قال تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، وهذا نجده في هؤلاء المنصرين والمهودين في أيامنا الحاضرة، أو نجده في الذين يدعون الناس إلى الضلال ولو كانوا من أبناء المسلمين، ومن أبناء جلدتنا، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
ولذلك فإن المسلم مطالب أن يكون على المنهج المستقيم، وأن يكون متبعاً لا مبتدعاً، ثم أيضاً المسلم مطالب بأن يسأل الله عز وجل الثبات على ذلك، وعليه أن يبحث عن أفضل فرقة، وأفضل أمة، فيضم صوته إلى صوتها، ويضم نفسه إلى مجموعتها؛ حتى لا يضل الطريق، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه حذيفة بن اليمان قال: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني - ثم قال في آخر الحديث:- دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال
وعلى هذا يا أخي الكريم! فإن على المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يبحث دائماً عن الصواب، وعن الطريق المستقيمة في هذا الأمر، وهذا معنى قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، إذاً تسأله الثبات على دين الإسلام، وهذا الطريق كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أوله في الدنيا، وهو طريق الاستقامة، وآخره في الجنة، نسأل الله أن نسلكه جميعاً، وأن يهدينا إليه، وأن يجنبنا السبل الضالة حتى لو كان يتقمصها ويتبناها من أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بألسنتنا.
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: من عباد الله المؤمنين، وهذه النعمة المراد بها نعمة الإسلام، وليس المراد بها نعمة المادة فقط التي يسألها ويطلبها ويسعى إليها كثير من الناس، فنعمة الإسلام هي أكبر نعمة، وأكبر ما من الله عز وجل به على واحد من الناس أن هداه لهذا الدين، ولذلك أخبر الله عز وجل فقال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: أنعمت عليهم بالهداية، وأنعمت عليهم بالتوفيق، وقد ضل عن هذا الطريق أناس كثر، ولذلك قال هنا في أولها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وأخبر بأن هؤلاء الذين هداهم الله عز وجل هم الذين أنعم الله عليهم، كما قال الله عز وجل في سورة النساء: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69]، أي: نعمة الهداية في الدنيا، ونعمة الجنة والدرجة العالية في الحياة الآخرة، ولذلك قال الله عز وجل: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: نعمة سابغة، وهي أعظم نعمة، فنعمة المال والأهل والولد كل هذه في الحقيقة تعتبر نعمة، لكنها وإن كانت نعمة في الحقيقة إلا أنها نعمة دون النعمة الكبرى، فالنعمة الكبرى هي هداية الإسلام، وما أنعم الله عز وجل على أحد أفضل وأكثر مما أنعم به في الهداية إلى الإسلام، وهذا معنى قوله تعالى: (أنعمت عليهم) وهم المسلمون.
وكلمة (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، تدل على أن المغضوب عليهم أشد خطراً وسوءاً وإجراماً من الضالين؛ لأن الإنسان إذا ضل الطريق هو في الحقيقة ترجى له الهداية، لكن الذي يغضب الله عز وجل عليه فإنه يعتبر أسوأ الناس؛ لأن الله عز وجل غضب عليه وقال: وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [المائدة:60]، فالمغضوب عليهم: هم اليهود؛ بدليل هذه الآية التي في سورة المائدة: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة:60].
وسمى اليهود مغضوباً عليهم؛ لأن كتبهم السماوية التي نزلت على أنبيائهم كلها تذكر صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا ينتظرون قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيبعث، ويعدون العرب في مكة والمدينة، كانوا يخبرون أهل المدينة بأنه سيبعث رجل من العرب هذه صفاته، وهذا اسمه.. إلى غير ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، ولذلك يقول الله عز وجل: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ [البقرة:101] وهم اليهود، نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [البقرة:101]، وكذلك النصارى معهم: كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة:101]، الذي هو التوراة والإنجيل الذي جاء بصفات محمد صلى الله عليه وسلم، نبذوا حتى كتبهم وراء ظهورهم وكفروا به؛ لأنه أخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك غضب الله تعالى عليهم وتوعدهم بالنار، بل جعلهم أشر أنواع الكفار، كما في قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82].
علماً يا أخي الكريم! أن هذه الآية لا تدل على أن النصارى إخوة للمسلمين، كما يقول بعض المارقين -نعوذ بالله- أنهم أهل كتاب سماوي، وأنهم لا يكفرون، فإن تكفيرهم أمر مطلوب، ومن لم يكفرهم فقد كفر بالله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، لكن هذه الآية تدل على أن اليهود أشد عداوة وأخطر على الإسلام من النصارى، ولكن العداوة مشتركة؛ لأن الله تعالى قال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، فالعداوة موجودة من الجميع، إلا أن التفضيل هنا يزيد اليهود عداوة، ولكن النصارى أعداء أيضاً.
وكما نشاهد في عالمنا اليوم كيف أن النصارى الآن يقفون في وجه هذا الدين كما وقف اليهود، وهم الآن يدمرون بلاد المسلمين، ويدمرون اقتصادهم وأخلاقهم فيما يبثونه في بلاد المسلمين من هذه المحرمات.. إلى غير ذلك.
واليهود والنصارى يشتركون في العداوة؛ لأن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73]، لكن في الحقيقة العداوة عند اليهود أشد، ولذلك سماهم الله تعالى مغضوباً عليهم، وقدمهم في الذكر هنا مقابل المؤمنين، ولكنه ذكر بعد ذلك النصارى فقال: (وَلا الضَّالِّينَ)، أي: لا هؤلاء ولا هؤلاء، والمراد بالضالين: النصارى، وليس معنى ضالين أنهم ضلوا الطريق، وأنهم ما بلغتهم الرسالة؛ لأن الذي لم تبلغه الرسالة لا يحاسب، والله عز وجل يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فمعنى: ضالون أي: ضلوا الطريق على بصيرة، هذا هو معنى ذلك، لكنهم أقل خطراً من اليهود، وأقل جرماً من اليهود.
وعلى هذا فإننا نعتبر أن الطريق المستقيم هو طريق واحدة، أما الطرق المنحرفة فهي لليهود والنصارى وأصحاب البدع والخرافات والوثنيين، وغيرهم من أصحاب الملل حتى من أصحاب الدعوة من الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ففيهم ضالون كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، أي: أمة الدعوة والبلاغ الذين بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لبلاغهم، على ثلاث وسبعين فرقة، بل قد يكون بعضهم ممن يحمل الهوية الإسلامية، فنجد أن العلمانيين يحملون الهوية الإسلامية، ونجد أن غلاة الصوفية يحملون الهوية الإسلامية، وأصحاب القبور يحملون الهوية الإسلامية والاسم الإسلامي، لكن ذلك كله لا ينفعهم؛ لأن الإسلام ليس دين هوية وإنما هو منهج عمل.
وعلى هذا فإننا نستعيذ بالله تعالى في كل صلاة من منهج اليهود والنصارى، ثم إذا أكملنا الفاتحة نقول: (آمين)، و(آمين) ليست آية من القرآن، وليست آية من الفاتحة، ومعناها: اللهم استجب؛ لأن آخر سورة الفاتحة يعتبر دعاءً، والله تعالى يقول: (ولعبدي ما سأل)، فنقول: (آمين) أي: اللهم استجب؛ لأن آمين اسم فعل أمر بمعنى: استجب يا ربنا.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر