الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين المنازل التي يكون عليها أهل الإيمان, والمراتب من جهة عمل الظاهر ومن جهة عمل الباطن, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ), توجيهات من رسول الله صلى الله عليه وسلم تتضمن الحرص على تقوية الإيمان, وليس المراد بذلك القوة البدنية, وإنما المراد بذلك العزيمة القلبية وقوة الإيمان والثبات عليه, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك؛ لأن هذا أحظى بالدوام وأرسخ للإنسان وأرجى للقبول وآمن من الانتكاسة والانحراف والحيدة والإلحاد عن منهج الله, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حث أهل الإيمان على الاستزادة من الطاعات, والتقلل قدر الإمكان من المعاصي والذنوب؛ وذلك أن الطاعة بها يقوى الإنسان من جهة الإيمان, وبالمعصية يضعف إيمان الإنسان حتى وإن كان صاحب بدن قوي متين آتاه الله عز وجل بسطة إلا أنه يكون وزنه حينئذ كالشعرة الخفيفة التي تذروها الرياح, ولهذا الإيمان القلبي منه تخرج الحجة وتخرج البينة وتخرج العزيمة, فلا عبرة بقوة البدن إذا كان القلب ضعيفاً هيناً ليناً رقيقاً بعيداً عن الثبات والتمكين, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى وأمر وحث وحض في مواضع كثيرة من سنته عليه الصلاة والسلام على تقوية الإيمان, النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ), لا يريد بذلك القوة البدنية؛ لأن هذه فطرية يجبل عليها الإنسان, فلا يملك الإنسان من حاله أن يجعل نفسه طويلاً أو عريضاً, وإنما هذه بسطة يؤتيها الله عز وجل من يشاء من عباده, وأما ما يتعلق بالأشياء المكتسبة التي يكتسبها الإنسان من جهة المعرفة والعلم واليقين والإيمان, فهذه أمور مكتسبات يستزيد بها الإنسان, وبقدر زيادته في ذلك يكون قوياً, وبقدر ضعفه يكون ضعيفاً, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أثر تفاوت الإيمان في قلوب العباد في مواضع كثيرة من جهة الثبات والرسوخ في الأزمات, سواء الأزمات الذاتية في ذات الإنسان, أو المتعدية الخارجة عنه.
ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر المؤمن القوي والمؤمن الضعيف, قال عليه الصلاة والسلام: ( استعن بالله ولا تعجز ), إشارة إلى أن القوة يصاحبها الثبات وعدم العجز, وأن الضعف يتلوه في ذلك الانتكاسة والحيدة, والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بترسيخ المبادئ وقوة الإيمان حتى يثبت الإنسان, ويتساءل كثير من الناس عن النصوص الكثيرة من جهة الثبات والرسوخ، وكذلك أيضاً عدم الحيدة والانتكاسة عن منهج الحق وأمر الله عز وجل بتقوية الإيمان, كيف يقوي الإنسان إيمانه؟ وكيف يصبح في ذلك ثابتاً راسخاً؟ وكيف يضعف أيضاً إيمان الإنسان حتى يتلاشى في ذلك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم كما أنه بين قوة الإيمان وبين ضعفه كذلك بين مواضع القوة وأسبابها, وبين أيضاً مواضع الضعف وأسبابها, وهذا من مقتضى عموم البيان في شريعة الله, وفي كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشريعة بينة ظاهرة, لا تدل على شيء وترشد إليه, أو تأمر بتكليف وقول وفعل إلا وعبدت الطريقة إليه, حتى يسلكه الإنسان على بينة, ولهذا الشريعة لا تأمر الإنسان بشيء أن يصل ويسعى إليه ثم لا ترشده إلى الطريق الموصل إليه بأسهل سبيل, لهذا أرشدت الشريعة إلى الحق, ودللت على الطريق إليه, وحذرت من الشر وبينت الطرق الموصلة إليه؛ حتى لا ينخدع الإنسان فيظن أنها توصل إلى الحق بينما تصل به إلى الشر, وتودي به إليه, فبين الله جل وعلا طرق الشر, وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مواضع عديدة.
إن الأمة بحاجة إلى أفراد ثابتين, أكثر من حاجتها إلى جماعات ليسوا من أهل الثبات وإنما ينتكسون عند الأزمات, ولا يكونون من أهل الرسوخ والقوة عند التحديات, لهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت وحيداً, وانتكس أقوام وهم جماعات؛ وذلك لقوة ما في القلب من رسوخ وعزيمة وإيمان يختلف عن غيره, ولهذا يوجد من الناس من هو في بيئة ضالة, وفي بيئة كفر وضلال, يثبته الله عز وجل على الحق ثم يعجب الإنسان من رسوخه وإيمانه وقوته وصموده في وجه التحديات, وينظر الإنسان فيما يقابل ذلك فيجد أناساً في بلدان مسلمة، وبين أناس صالحين أو في أسر صالحين يحيد بهم الطريق يميناً وشمالاً, ويتقلبون في الحق تارة وفي الباطل تارة, وربما كانوا في تدرجات من الباطل وفي دركاته المتنوعة, وهذا أمارة على أن الإيمان الذي يثبت به الإنسان هو الذي يرسخه في وجه الأزمات والتحديات والابتلاءات والاختبارات التي يجعلها الله عز وجل في طريق الإنسان وتعترضه ولا بد من ذلك, لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما أوصى بهذه المقدمة وأشار إلى تباين الناس في القوة والضعف من جهة الإيمان, وأن هناك أناساً أقوياء وأناساً ضعفاء, أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشير إلى أن الإنسان في طريق يسير إلى الله, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: ( استعن بالله ولا تعجز ), إشارة إلى أن الإنسان قد يهم بأن يفعل الشيء وأن يقوم به, وهذا هو طريق الحق الذي يسير فيه الإنسان, والإنسان يأمر غيره: استعن بالله, يعني: أنه سيقدم على عمل, سيقدم على سير, أو سيقدم على قول, أو سيقدم على فعل أو غير ذلك, فيؤمر بالاستعانة بالله عز وجل والتوكل عليه إذا أقدم على ذلك العمل؛ لأن الإنسان في طريق يسير إلى الله سبحانه وتعالى, والطريق في ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله عز وجل بسلوكه وعدم الخروج عنه, والذي ندعو الله جل وعلا كل يوم يطلب الهداية إليه اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].
كذلك أيضاً هو الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود , قال: ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً, وخط عن يمينه وشماله خطوطاً, وقال: هذا الصراط المستقيم، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها, ثم تلا قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ), النبي صلى الله عليه وسلم رسم طريق الحق ثم قال: ( استعن بالله ولا تعجز ), وسر في هذا الدرب.
واعلم أن ثمة عقبات ستأتيك في هذا الطريق, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن أصابك شيء -يعني: في هذا الطريق- فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ), لماذا؟ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتوكل والاستعانة بالله, والالتجاء إليه, والاستبصار بأمره وفعل ذلك, واجتناب نهيه كما جاء في كتابه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وألا يتكل الإنسان إذا جاءه ابتلاء إلى تدبيره ورأيه وحذقه, وأنه قصر ذكاؤه ونحو ذلك باختيار مثل هذا الرأي, وإنما يجب عليه في ذلك أن يكل الأمر إلى الله؛ لأن الله عز وجل هو الذي أرشده إليه, وأكثر الناس الذين يقعون في ابتلاءات يتبعها انتكاسات هم أصحاب ضعف, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين طريق القوة والضعف وطريق الاستعانة بالله، ثم طريق الابتلاءات وحال المنتكسين بعد ذلك.
الناس يتغيرون من حق إلى باطل بشيء يزلزل القلوب أو يزلزل الأبدان وذلك بشيء من الاختبار والامتحان, ومهما بلغ الإنسان من قوة فلا بد أن يأتيه شيء من الزلزلة والامتحان والاختبار, ولهذا الله جل وعلا يمتن على نبيه عليه الصلاة والسلام بثبيت فؤاده عليه الصلاة والسلام, وذلك لشيء من الاختبار والزلزلة التي يلحقها الله عز وجل بأوليائه الصالحين, يريد من ذلك اختباراً وابتلاء وامتحاناً, وكذلك تثبيتاً وتجلداً, واقتداء لمن يرى أنهم قدوة أن يسير الناس على مسارهم الذي هم عليه, ولهذا الله سبحانه وتعالى لم يجعل هذه الدنيا موضع كرامة للإنسان, الكرامة الحقيقية للإنسان هي سلامة دينه لا سلامة دنياه, ولو كانت سلامة الدنيا هي من جهة الحقيقة كرامة لكان الأنبياء أغدق الناس عيشاً, وأوسعهم رزقاً, وأبسطهم في ذلك, وأوسعهم ملكاً, وأبعد الناس عن الأذى والمرض والمصائب والهموم والأحزان التي تلحق البشر وتكدر عليهم صفوهم, ولكن الله سبحانه وتعالى ألحق بأنبيائه نصيباً من ذلك وافراً لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، ويتفاوت الأنبياء في ذلك, وجعل الله منزلة الأنبياء بقدر البلاء, لهذا نرى أن الله جل وعلا جعل منهم أنبياء وجعل رسلاً وجعل من رسله أولي عزم, وجعل سيد أولي العزم محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إمام في النبوة وفي الرسالة وفي الولاية والعبادة, وإمام في جانب الابتلاء, وإمام في الصبر عليه, وكثير من الناس يلحق به بلاء ويشتد عليه البلاء وليس من الأنبياء, لكن العبرة ليست بنزول البلاء, فهناك من يُقتل ومن يحرق ومن يُغرق ومن يرمى من جبل أو شاهق أو غير ذلك, بل يُدفن حياً ليحصل له من الابتلاءات ما ربما لم تحصل لأحد من الأنبياء, ولكن المراد ما يقابل ذلك من الثبات والصبر؛ لأن الإنسان لا يؤجر على البلاء وإنما يؤجر على الصبر عليه؛ لأن الله عز وجل يلحق الأذى والحزن والمصيبة بالإنسان ليرى الله عز وجل ثباته وصبره على ما هو عليه, لهذا النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالتهيؤ لطريق الحق حتى يثبت الإنسان ولا ينتكس، فقال: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ), لأنه إذا حصل له امتحان واختبار ثبت هذا ولم يثبت ذاك, وبمقدار قوة الإيمان يكون ثبات الإنسان, وبمقدار ضعف الإيمان يكون تردي الإنسان وانتكاسته, لهذا انظروا إلى المنتكسين والمرتدين, سوء كان ذلك في زمن اختبار وامتحان وشيء من الابتلاء والمصيبة التي وقعت في الأرض أو الأحداث التي جلت في القلوب, المرتدون ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم لهول ما حدث, فكان ذلك موضع اختبار؛ لأنهم تعلقوا بداعي الحق ولم يتعلقوا بالحق الذي دعوا إليه, فالناس إن تعلقوا بالذوات فإنهم يتزلزلون عند زوالهم, وإن تعلقوا بالحق الذي دعاهم إليه الأفراد فإن ذهب الأفراد أو لم يذهبوا كان رسوخهم في ذلك واحداً, ولهذا كان الصديق أبو بكر عليه رضوان الله تعالى على ثبات في الصديقية والولاية والعبادة والإيمان والثبات والرسوخ قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته, بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي حزن عليه أبو بكر حزن البشر على ما يفقدون من أمر مما يحبونه، على تفاوت حبهم في ذلك والمصائب التي تلحقهم في ذلك, لكن من جهة الإيمان والحق الذي هو عليه لم يتزحزح من ذلك شعرة, بل تلا قول الله جل وعلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144], لهذا الله جل وعلا أمر بالثبات والاعتماد على الله عز وجل والحق الذي دعا إليه, لا أن يتعلق الإنسان بالرموز والأشخاص, وكذلك أيضاً بالأفراد والجماعات والأحزاب وغير ذلك, وإنما يجعل ذلك أمراً ثانوياً كما اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه في الجهاد والغزوات, وكذلك بالمشورة في الرأي وفي الهجرة, واعتمد النبي صلى الله عليه وسلم بعد ربه جل وعلا على بعض من يعينه في ذلك من أزواجه والمقربين منه في مكة وكذلك المدينة, ولكن المتعَلق الأسمى هو في الله سبحانه وتعالى, لهذا النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى موضع الاعتماد وإلى نوعه, ونوعه هو الحق, وموضعه أن الإنسان لا يتعلق بالذي يدعو إلى الحق فربما ينتكس, ولهذا كثير من الناس يتزحزحون لانتكاس الرموز وانتكاس الأعيان, فلا يثبتون حينئذ؛ لأن لديهم قدوات زالوا فيتزحزحون, وربما يرون أنه إذا ذهب حامل الحق ذهب الحق معه, والحق ثابت وباقٍ في الأرض, والناس في ذلك حملة له وأوانٍ يحملون الحق لينتقل من إناء إلى إناء, ولهذا الله سبحانه وتعالى يجعل الحق باقياً في الأرض, ويحفظه الله سبحانه وتعالى كرامة لبعض عباده بمقدار عزائمهم, ولا يموت الحق, ربما يمرض ويسقم ويطول مرضه، ولكن الله عز وجل يحفظه إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها, لهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتقوية العبادات, وتقوية الإيمان في قلب الإنسان.
وأعظم ما يقوي الإيمان في قلب الإنسان ويرسخه هي العبادات, وأعظم العبادات في ذلك هي طاعات الخلوات, أن يكثر الإنسان من ذلك تعبداً لله جل وعلا بينه وبين ربه؛ لأن عبادة الخلوات تغرس في قلب الإنسان الإيمان واليقين, وتجعله يتجاوز مرتبة الإسلام والإيمان إلى مرتبة الإحسان, وذلك أنه يعبد الله جل في علاه كأن الله عز وجل يراه كما ورد: ( اعبد الله كأنك تراه, فإذا لم تكن تراه فإنه يراك ), فيعبد الله في ظلمة الليل, وفي الخلوات, أما الفرض ففي الجماعة, والجماعة تعظم عند الله عز وجل عبادته بمقدار زكائه في أمر الخلاء, لهذا الله جل وعلا ما من نبي من أنبيائه أراد الله عز وجل أن يصطفيه في الرسالة إلا حثه على عبادة الخلاء, فأول كلام وجهه الله جل وعلا إلى أنبيائه أن أمرهم بالصلاة, ومعلوم أن الصلاة إذا أمر الله عز وجل بها نبياً أنه لا يوجد مصلون يصلون معه؛ لأنه وحيد, أرسله الله عز وجل إلى أقوام لا يصلون, فيصلي منفرداً, بل منهم من يأمره الله جل وعلا بقيام الليل, ولم يكن الناس حينئذ يصلون لا ليلاً ولا نهاراً، وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل, بقوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2], أمر الله عز وجل موسى, أول كلمة أمر جاءت إلى موسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14], أمره الله عز وجل بالإتيان بالصلاة, ولهذا أعظم الصلاة هي صلاة الليل, وأعظم الصلوات هي صلاة الفجر وصلاة العشاء؛ لأنها في موضع خفاء, لا يقوم إليها الإنسان إلا قاصداً رضا الله سبحانه وتعالى، وليس لمن حضرها حظوة عند أحد في دنياه, وإنما يرجون ما عند الله عز وجل, لهذا كلما كان الإنسان في عبادة خفاء كان أثبت عند الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يرسخ في الأرض, ويكون ثبات الإنسان حينئذ بمقدار خفائه, وإذا كان الإنسان بديناً أو قوياً أو نحو ذلك فإنه لا يلتفت إليه إذا كان قلبه ضعيفاً, لا من جهة المواقف ولا الشجاعة في الحق والثبات عليه, وإنما ينتكس، وربما يثبت من الناس ضعاف البدن الذين يختلفون عنه ممن لم يؤتهم الله عز وجل بسطة في جسم ولا في قوام, فجعل الله عز وجل لهم في ذلك ثباتاً, لهذا النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى عبادة الخفاء كثيراً؛ وذلك لتأثيرها على ثبات الإنسان؛ والإنسان إذا أراد أن يوقف عموداً في الأرض, فبمقدار ما خفى منه في الأرض يكون ثباته, وإذا وضعت عموداً دقيقاً وجعلته ثابتاً في الأرض فإنه يرسخ ولو كان دقيقاً, ولكن لو أتيت بعمود عريض جداً ولم تجعل له رسوخاً في الأرض فربما تسقطه الرياح, وربما يأتيه طفل ويدفعه ويسقط.
كذلك أيضاً عبادة الخفاء من أعظم ما يقوي الإيمان, ولهذا العبادة اليسيرة في الخفاء أعظم عند الله من أمثالها في العلانية, لهذا كانت عبادة الليل وقيام الليل أعظم من غيرها, فالوتر وهي ركعة واحدة, أعظم النوافل على الإطلاق؛ لأن العبرة ليس بالعدد, وإنما العبرة بخفاء العبادة؛ لأن موضعها في الليل, فلا يرى الإنسان أحد, إلا ربما من قرب منه لا لأنه يرجوه, ولا يرجو حظوة عليها في دنياه وليس لديه مال لأنه ينفق على زوجه وولده, وإنما يتعبد بذلك لله سبحانه وتعالى, فكانت ركعة واحدة أعظم عند الله عز وجل من سائر النوافل الراتبة والمطلقة؛ وذلك لأنها في موضع خفاء.
وكذلك أيضاً ما جاء في حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, ذكر منهم رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ), ذكر الله خالياً, فليس العبرة بالبكاء فحسب, ولكن العبرة بالبكاء خالياً, يعني: وحدك, ليس عندك أحد؛ لأن القلب لا يرى أحداً؛ لأن الدمع يستدر بوجود عاطفة أو مواكبة للناس, فيسهل على الناس الحزن ويستسهلون الفرح وغير ذلك, ولهذا يوجد في الناس من يحزن إذا وجد إنساناً حزيناً ولا يعلم السبب؛ لفطرة فطر الله عز وجل عليها الناس, ومن الناس من يضحك إذا رأى الناس يضحكون ولا يعلم ما هو السبب, لكن لشيء جبل الناس عليه بأمر المشاكلة, ولكن الإنسان إذا كان خالياً تتحقق حينئذ السعادة والحزن والخوف والخشية والمحبة لله عز وجل على وجهها الحقيقي بلا محاباة لأحد, لهذا كانت دمعة واحدة تكون من الإنسان في الخلاء أعظم عند الله عز وجل من عبرات تسكب في العلانية, وبهذه الدمعة الواحدة في الخلاء يثبت الإنسان ويرسخ أكثر من غيرها, ولهذا أعظم ما ينفي النفاق عن الإنسان عبادة السر, وقد روى ابن عساكر وغيره من حديث حذيفة بن اليمان أنه جاءه عمران فقال له: هل أنا من المنافقين؟ قال له: أتصلي إذا خلوت وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم, قال: اذهب فما جعلك الله منافقاً, يعني: إذا خلوت بنفسك وأغلقت دارك ولم يرك أو يسمع قراءتك أحد, فتصلي لله عز وجل كما تصلي علانية, فإن كان كذلك فاعلم أن أمرك عند الله عز وجل على خير, وأما إذا كان الإنسان ليس لديه نصيب في جانب عبادة السر فإن أمره في جانب العلانية على خطر, ولهذا كثير من الذين يتعبدون لله عز وجل بالعلانية وعبادة السر عندهم ناقصة أو زائلة فإنهم يشكون كثيراً من جانب الرياء والسمعة وعدم إخلاص النية لله جل وعلا, وما من أحد يرائي الناس إلا وعبادة السر لديه معدومة, فإذا كانت عبادة السر لديه كثيرة وزائدة فإنه يضعف الرياء عنده، حتى يتلاشى بمقدار وفرة عبادة السر لديه وعبادة الخفاء؛ لأن الذي عبد الله عز وجل في السر لا يرجو الناس في العلانية, لهذا من أعظم وسائل الثبات أن يستعين الإنسان بعبادة الخفاء بينه وبين ربه, وبالإكثار من الصلاة, وبالإكثار من الصيام والصدقة والتخفي بها, والإسرار بذكر الله سبحانه وتعالى, وأن يغتنم الإنسان الخلوات للتعبد لله جل وعلا وأن يفرح بذلك؛ لأنها فرصة سانحة للتعبد لله جل وعلا, لهذا الإنسان لا يخلو من الناس, وهذا أمر تعم به البلوى, إما أن يكون في طريق، وإما أن يكون في مسجد، وإما أن يكون في عمل أو في سوق أو في داره, فيشهده الناس كثيراً, لكن إذا اغتنم الخلوات وفرح بها؛ لأنها وقت المناجاة لله فلا يراه أحد، وهي نوع من سقيا القلب بقوة الإيمان حتى يثبت إيمان الإنسان ويقوى ويرسخ, حينئذ يستحق الوصف بقوة الإيمان, وهو أقرب الناس رسوخاً وثباتاً.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي للإنسان أن يعرفها في حاله من جهة قوة الإيمان وضعفه: أن يختبر الإنسان عبادته من جهة الصلاة وذكر الله عز وجل وغير ذلك, فينظر إلى صلاته في العلانية هل تشابه صلاته في السر من جهة الخشوع والإطالة والخضوع وغير ذلك؟ هل يستويان أم لا؟ إذا لم يستويا فليعلم أن الفارق بينهما هو النفاق, ولهذا النفاق الذي هو النفاق العملي لا يكاد يسلم منه إلا الخُلَّص والكُمَّل من أولياء الله سبحانه وتعالى, الذي إذا صلى في علانية وبكى صلى في الخفاء وبكى, وإذا صلى وخشع في العلانية صلى في الخفاء وخشع لله سبحانه وتعالى, وطول صلاته وخشوعها وقراءته في الخفاء كصلاته في جانب العلانية, وهل يؤدي ما يؤديه من نوافل الصلاة لو أدى الصلاة في بيته كما يؤديها في الجماعة على حد سواء, من خشوع وإطالة وذكر لله جل وعلا والسنة الراتبة, فإذا كان كذلك فليعلم أنه على قدر من الثبات واليقين والإيمان وقوته بإذن الله تعالى, وأما إذا وجد الإنسان تبايناً في ذلك فهذا هو المقدار الدقيق في ذلك, والناس يتباينون في البعد بين الظاهر والباطن, لهذا ينبغي للإنسان أن يستزيد من عبادة الخفاء حتى يرسخ له جانب العلانية فيثبت عليه, ولهذا المنتكسون عن الحق الحائدون عنه في زمن الابتلاءات وزمن الشدائد وزمن المصائب أو زمن المواجهة أو غير ذلك؛ هؤلاء نصيبهم من جانب الحق إنما هو ظاهر, فانتكسوا عن الظاهر كما انتكسوا عن الحقيقة الباطنة, ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يرسخ إيمانه بأمثال هذه العبادات عموماً, وأعظم العبادات هي عبادات الخفاء, وتتعاظم عبادات الخفاء بمقدار تعظيم الشارع لها, فإذا خلا الإنسان وأغلق بابه وأسدل ستاره فليغتنم ركعتين, أو تسبيحاً, أو تهليلاً, إذا خلا في طريق ليس فيه أحد يذكر الله ويسبحه ونحو ذلك, ويغتنم الخلوات للطاعات, فيكثر من ذلك حتى يرسخ الإنسان في هذا الباب, ويكون فرحه في جانب الطاعات كفرح أهل المعاصي في الخلوات للشهوات, فيفرح بذلك, حينئذ يعلم الإنسان من مقدار اليقين والإيمان الموجود لديه أنه صاحب قوة ورقابة إلهية؛ لأنه يعلم أن هذا ينصرف إلى الله, ولا يوجد أحد يجامل ولا يحابى، ولا يطلب من جهة الرجاء ولا الخوف ولا المحبة, فينصرف ذلك كله لله سبحانه وتعالى.
وليحذر الإنسان أيضاً من قوادح عبادة الخفاء, وذلك أن يتعبد في الخفاء ثم يفسدها بالحديث عنها, ويكون حينئذ قد فعلها خفاء وحدث بها بعبارة واحدة وكأنما فعلها في جانب العلانية, فليتعبد في الخفاء وليحم عبادة الخفاء أن تفسد عليه بشيء من مداخل الشيطان, والنبي صلى الله عليه وسلم بين في مواضع كثيرة وذلك أيضاً موجود في كثير من آي القرآن وهو أن العبادات تزيد في جانب إيمان العبد وقوته وثقله, وهذا له أثر على رسوخ الإنسان وثباته عند الابتلاءات والشدائد والمحن وغير ذلك, فما من أحد إلا ويهز في البلاء والامتحان, وذلك ربما بنكوص الناس عنه, أو بوجود تيارات مواجهة له, تيارات شركية, تيارات بدعية, تيارات فكرية ضالة تواجه الإنسان, فبقدر ثباته يصمد أمامها؛ وذلك كصمود الماديات في وجه الرياح, منها ما تجتالها, ويرى الإنسان في الطريق إذا جاءت رياح أشياء تأخذها الريح معها, وثمة أشياء تهتز اهتزازاً يسيراً, وثمة أشياء ثابتة من الماديات, كذلك أيضاً القلوب, منها ما تطير بها الرياح، ومنها ما تهزها، ومنها ما تبقى ثابتة شامخة لا يهزها شيء, كذلك أيضاً القلوب, ولهذا في مداخل الشيطان على الإنسان أسهل مواضع تغيير الحقائق في قلب الإنسان هي مواضع الابتلاءات, فإنها موضع لهجوم الإنسان على قناعات الإنسان ليغيرها؛ لأن القلب والفكر رقيق جداً فيقوم بتشكيله, ولهذا الله عز وجل ذكر عن حال الصحابة لما بلغت القلوب الحناجر ما حكى بقوله: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10], ومن هم؟ إنهم الصفوة من هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام, يعني: أن موضع الابتلاء جعلهم يظنون: هل هم على حق أو ليس بحق, يأتي الإنسان نوع من الأفكار, لماذا نحن على هذه الشدة وهذا الابتلاء؟ فإذا قوي يقين الإنسان وثباته لم يغتر, رجع فلان عن الحق أو لم يرجع, جاءت رياح أو لم تأت رياح، يبقى ثابتاً, ولهذا كان إمام الثابتين عليه الصلاة والسلام رسولنا صلى الله عليه وسلم راسخاً ثابتاً مع شدة الابتلاءات والاختبار والامتحان, فمر عليه من الابتلاء في مكة الابتلاء الشديد, ومر عليه من الابتلاء في المدينة ما مر وكان على رسوخ تام وتثبيت وإعانة من الله سبحانه وتعالى, وذلك لكماله في جانب العبودية لله سبحانه وتعالى, وكمال عون الله عز وجل له وتسديده, لهذا نقول: إن أول ما يزيد إيمان الإنسان هي جوانب العبادات والإكثار منها, والخفاء أعظم عند الله عز وجل من العلانية.
الجانب الثاني -وهو مهم أيضاً-: الاستعانة والتوكل على الله عز وجل وعدم الاعتماد على النفس, فلا يعتمد الإنسان على حذقه وذكائه ودرايته, بل يتضرع لله عز وجل ويوجل من إزاغة القلب؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله جل وعلا, وألا يغتر, وعلامة ذلك وأمارته من جهة الاعتماد على الله أن يكثر من دعائه الله عز وجل بالهداية, ولهذا أمر الله عز وجل الناس في كتابه العظيم أن يدعوا في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6], حتى تكون هداية الله عز وجل للإنسان أثبت, ولكن الناس يسألون الله عز وجل الهداية إلى الصراط المستقيم ومع ذلك نرى الناس يضلون؛ لأنهم يسألون الهداية ولا يتفكرون, بل يسألون بقلوب ساهية لاهية, والإنسان إذا دعا من غير حضور قلب وتفكر فهو هذيان لا يسمعه الله, ولهذا أكثر الناس يأتون إلى هذا الدعاء في سورة الفاتحة -وهو من أعظم إن لم يكن أعظم دعاء- يأتون إليه ويتلونه تلاوة كتلاوة العجم لا يتدبرون فيه, وهو أكثر دعاء يتلوه الإنسان في يومه وليلته، ومع ذلك يرى الإنسان الناس تضل, ويرى حيدة الإنسان عن الحق في كثير من المواضع وهم يتلون هذه الهداية, فهل الله عز وجل ما استجاب؟ لا, إنما كان الدعاء بذلك هذياناً كحال النائم, ولهذا: ( النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من دعاء لا يُسمع ), والله جل وعلا لا يجيب الدعاء إذا كان من قلب ساهٍ لاهٍ ليس بمقبل على الله سبحانه وتعالى, لهذا حضور القلب مهم عند الدعاء, والتوكل على الله عز وجل بالإكثار من ذلك والاستعاذة منه, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع بلوغه مقام النبوة ووعد الله عز وجل له بالثبات يسأل الله عز وجل أن يصرف قلبه على دينه, ويوصي أصحابه بذلك كما جاء في حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله لما قال له: ( قل: اللهم اهدني وسددني, وتذكر بالهداية هداية الطريق, والسداد سداد السهم ), فمع وجود العلم ووجود الوحي يسأل الله عز وجل التثبيت عليه والدلالة إليه, يعني: أن الله عز وجل أعطاك الحق فاسأل الله عز وجل أن يثبتك عليه لتسير, والناس يرون الحق كما تراه, لكن لا يوفقون إلى الهداية, فمن الناس من هم علماء ولكن لا يوفقون إلى العمل بعلمهم, ومن الناس من علمهم قليل, ولكن يوفقون للعمل بالقليل, إذاً العبرة بتحصيل الحق أم بالقناعة والإيمان والعمل به؟ العبرة بالعمل به, ولهذا أهل الضلال في الأرض من أولهم إبليس, وأتباعه ومن جاء بعد ذلك, ألا يعرفون الحق؟ بلى يعرفون الحق, لكن ما الذي منعهم من الحق؟ منعهم من ذلك أنهم اعتمدوا على أقيستهم وآرائهم في ذلك فحرمهم الله عز وجل التوفيق والسداد, ولهذا من أعلم إن لم يكن أعلم من في الأرض من أهل الشر إبليس, فقد رأى الأنبياء كلهم, ورأى نزول الوحي, ورأى أصحابهم ورأى تقلبات البلاد وتنوعات الناس وتدرجات الضلال, فيعرف أحوال الناس من البدع وغير ذلك, ويعرف أحوال الأنبياء ومع ذلك كان أشد الناس ضلالاً؛ لأنه عرف الحق واعتمد على نفسه لا على ربه فأضله الله عز وجل وأزاغه, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف )، قال: ( استعن بالله ولا تعجز ), استعن بالله سبحانه وتعالى ولا تستعن على نفسك بنفسك وتتكل عليها لثقتك بحذقك ودرايتك ومعرفتك وعلمك, ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل كما جاء في الصحيح من حديث أبي سلمة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويستفتح صلاته في قيام الليل بقوله: اللهم فاطر السماوات والأرض, عالم الغيب والشهادة, اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، أنت تحكم بين عبادك فيما اختلفوا فيه, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ), فهذا تضرع نبي, ويظنه الإنسان لو لم يكن حديثاً أن هذا الرجل في متاهة من صحراء ونحو ذلك, ولكنه دعاء نبي أدرك مقدار عظمة الله سبحانه وتعالى من جهة توفيق العباد وعدم توفيقهم, وأن الناس ينتكسون عن الحق كثيراً, وهذا يكون موضع زلزلة لقلوب كثير من الناس في الأزمات والتحديات وغير ذلك, وربما يكون غلبة الباطل على الحق مشككاً عند بعض الناس في أن هذا أمارة على قوة الحق وصدق أهله, وليس كذلك, وإنما من يفتن في ذلك هم أصحاب اليقين الضعيف أو الإيمان الضعيف، ولا يتزحزح في هذا أصحاب الإيمان القوي, ولهذا الله سبحانه وتعالى بين ذلك في كتابه العظيم في قوله جل وعلا: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة:5]، رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس:85], يقول عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر : لا تسلطهم علينا بذنوبنا فنكون فتنة لهم, أي يقولون: ما غلبناهم إلا أننا على الحق وهم على الباطل, وغلبة الماديات ليست عبرة, والاختبار والامتحان في المعنويات ربما يكون أشد على الإنسان من الماديات, فالمعنويات شديدة, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أعظم شدة وابتلاء نزل عليه هو الابتلاء المعنوي وليس الابتلاء المادي؛ لأن الابتلاء المعنوي شديد, ورسول الله صلى الله عليه وسلم لقي من ذلك كثيراً, وكثير من الناس يظن أن الابتلاء إذا فقد الإنسان ماله أو فقد ثروة أو ولداً أو غير ذلك, لكن إذا لحق الإنسان شيء من المعنويات وسلبه الله عز وجل شيئاً من ذلك كان ذلك أشد عليه وأنكى, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بلاؤه أشد من بلاء الأنبياء, وهو سيد الرسل, ومنهم أولو العزم عليهم الصلاة والسلام, مع أن من الأنبياء من قتله قومه, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أشد بلاء؛ لأن البلاء الذي لحق النبي صلى الله عليه وسلم بلاء معنوي ودام, والإنسان ربما يقتل ويكون بلاؤه في ذلك شديداً، ولكنه يستريح فيما بعد ذلك, ولهذا عائشة عليها رضوان الله تعالى -كما جاء في الصحيح- سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ( يا رسول الله, هل لقيت من قومك أشد من يوم أُحد؟ -يعني: مما لحق النبي صلى الله عليه وسلم من أذية, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جُرح وكسرت رباعيته, فهي تذكر هذا, ولصغر سنها لا تذكر إلا ما كان من مثل هذه الحادثة من شدة الألم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة , لقد لقيت من قومك ما لقيت -يعني: أشياء لا تدركينها أنت- لقد عرضت نفسي على ثقيف -يعني: في الطائف- فطردوني, فخرجت مهموماً على وجهي، فلم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب ), وقرن الثعالب يبعد من الطائف ستة وأربعين كيلو, وهو يمشي على قدميه لم يفق من شدة الألم النفسي, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حبيب الله وسيد ولد آدم- أنزل الله عز وجل عليه هذا البلاء, ولهذا نقول: إن الله عز وجل إذا أنزل بلاء على الإنسان فلا يعني أنه لا يحب العبد, ولكن الله عز وجل بينه وبين عباده عقد؛ أن الدنيا ليست لكم, لكن إن أصبت فيها فبإذن الله عز وجل, وهو اختبار وابتلاء, وإن سلمك الله عز وجل فاحمد الله سبحانه وتعالى, وإنما الكرامة عند الله جل وعلا بسلامة الدين؛ أن يحفظ الله عز وجل لك دينك, ولكن الإنسان ينظر إليها بمنظار مادي, فإذا أحب شخصاً فلا يحب أن ينزل عليه مكروه؛ لأن المعادلة بينها دنيا فقط, أما الله عز وجل فهو يملك الدنيا ويملك الآخرة, والله جل وعلا هو الذي أعد لعباده من أمر الآخرة ما اشترى به أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة, ولهذا يكون بين الإنسان وبين ربه عقد, وهذا العقد طرف فيه الله وطرف فيه العبد, وإذا انتكس الإنسان عند أي نوع من البلاء فهو إشارة إلى شيء من المنة, اختبرك الله عز وجل عليه, ألم تبع لي نفسك ومالك؟ فلماذا تراجعت وانتكست؟ إذاً أنت لست صادقاً ببيعتك, ولهذا أيضاً الله عز وجل ينزل بلائه على عبده وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم خصوصاً ليعلم الناس والأولياء أنهم ليسوا بأكرم عند الله من رسوله, ومع ذلك أنزل الله عز وجل عليه البلاء, فيضربه المشرك ويؤذيه, ويوقع فيه الأذى المعنوي، والله عز وجل يسمع ويرى, إشارة إلى أن الدنيا ليست موضع عقد لحفظ الماديات وحفظ النفس, وإنما لله سبحانه وتعالى, والسلامة في ذلك يُرجعها الله عز وجل إلى حكمته سبحانه وتعالى في إنزال البلاء أو عدمه, ولهذا الغلبة في الماديات والتمكين في الأرض والعزة أو غير ذلك، ليست معياراً على سلامة الحق, فقد يقوى كافر على مؤمن, أو يقتل كافر مؤمناً، ولا يعني ذلك أنه أحق منه, ولهذا كان الصحابة يؤمرون بالدعاء ألا يجعلهم الله عز وجل فتنة للكافرين, لأنهم إذا غُلبوا ظن الكافرون أنهم على الحق فاستماتوا بقاء عليه, والمعيار عند الله سبحانه وتعالى ليس في الماديات من جهة الكثرة والقلة وإنما هو في الحق, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موقناً بهذا المعنى, وينزل به البلاء، ويعلم أن هذا خارج معادلة سلامة الدين وخارج معادلة الحق والباطل, والخير والشر, والصواب والخطأ, وإنما هو دائرة أخرى.
وهذا يشير إلى مسألة مهمة وهي أن من وسائل الثبات: العلم بالحق, والعلم بالباطل, وليس وسيلة منفردة, فربما يعلم الإنسان ويضل, ولكنه يفيد مع تلك الوسائل؛ لأن الإنسان كلما كان أبصر بالحق لم يتزحزح عنه؛ لثباته عليه كحال الإنسان الذي يقال له: هذا حائط, وهذه أرض أو نحو ذلك, فيعلم موضع الحائط من غيره, وهذه بلدة كذا من هذه الجهة, وهذه بلدة كذا من هذه الجهة, فيبعد أن يُلبس عليه وإن زيَّف الناس, وإن وجد من الألواح المكتوبة أن بلدة كذا إليها سهم وبلدة كذا إليها سهم فإنه يُخطِّئ الألواح لثباته وعلمه بأن هذه البلدة هي بلدة كذا, وأن من وضع هذه اللوحة مخطئ؛ لأنه وجهها إلى غير وجهها؛ لأنه يريد أن يدلس ويلبس, ومرجع ذلك إلى علمه ويقينه ورسوخه وثباته, كذلك أيضاً معرفة الحق الذي أمر الله عز وجل به, لهذا كان العلماء في منزلة تختلف عن الجهال, وكلما كان الإنسان من أهل العلم كان من أهل الرسوخ والثبات, وإذا كان من أهل الجهل كان من أهل التذبذب، ويسهل حينئذ انطلاء الكذب عليه, فيشك ويتذبذب, ثم يبدأ بالرجوع عن الحق إلى دائرة الباطل, وبمقدار الجهل وبمقدار العلم يتفاوت الناس في هذا الباب, لهذا لم يأمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يسأله زيادة في أمر دين أو دنيا إلا أن يسأله زيادة علم, وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114], لهذا ينبغي للإنسان أن يستكثر من زيادة العلم بالأخذ بأسبابه, وأن يسأل الله عز وجل الزيادة في العلم, وكذلك أيضاً أن يستعيذ من أن يجعل الله عز وجل العلم حجة عليه وأن يجعله حجة له, من جهة العمل والدلالة إلى الخير, وإقامة الحجة في الناس, من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا من المعين على تثبيت الحق, فإذا قام الإنسان بالحق في غيره فإنه يقوم في نفسه من باب أولى, والعلم بذلك على مراتب, أعلاه توحيد الله جل وعلا, الذي لأجله خلق الله عز وجل البشر, وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56], يعني: ليوحدوني ويطيعوني طوعاً أو كرهاً, كما جاء عن عبد الله بن عباس وغيره, فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته ولتوحيده, وبهذا اشترك سائر الأنبياء على هذا الأمر, فيدعو إلى توحيد الله ويعمل به وينهى عن الشرك بسائر أنواعه, وذلك شرك الباطن وشرك الظاهر وكفر الباطن والظاهر من التوجه لغير الله عز وجل وعبادة غير الله سبحانه وتعالى, من الأضرحة والقبور والطواف عليها والنذر لها والسجود لها من غير الله, أو سؤالها قضاء الحاجات وتفريج الكربات وغفران الذنوب وإعادة المفقود أو غير ذلك مما لا تملك منه نفعاً ولا ضراً, فهذا ضرب من ضروب الشرك الذي كان عليه أهل الجاهلية, وإن كان أولئك ينطقون بالإسلام ويشهدون ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فهؤلاء ينطقون بالشهادتين ولا يعملون بمعناها, وإنما يذكرونها كشيء من الأذكار العامة والترانيم التي لا يعرفون حقها كما ينطقها الأعجمي في الصدر الأول, فيقال له: قل لا إله إلا الله محمد رسول الله فيقول: لا إله إلا الله ولا يعلم حقيقتها, وإنما كان يمتنع عنها كفار قريش لأنهم يعرفون معناها, فيمسكون عن ذلك, فوجب على الإنسان أن يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك ويحذر منه, ووجوب ذلك على الإنسان بمقدار مخالطته للشرك, وأنتم في هذا البلد المبارك, وهو بلد علم ودين وفكر وثقافة وديانة ودخول للإسلام منذ الصدر الأول, ولكن يوجد في هذا البلد من القبور والأضرحة ما يشاهده الإنسان عياناً, فيجب على الإنسان بيان التوحيد, وبيان خطر الشرك والتحذير مما يرى الإنسان قدر وسعه وإمكانه؛ لأنه إذا قام الشر بين ظهراني الناس وهم يرونه ويحارَب الله عز وجل بذلك, فيعبد من دون الله ويكفر ويلحد به، والإنسان منصرف عن جانب توعية الناس في هذا فهو يبعد شيئاً فشياً عن العمل بالعلم الذي تعلم, ويبعد كذلك عن منهاج النبوة, ولهذا الأضرحة والقبور التي توجد في بلدان المسلمين هي بذاتها, مؤداها كما كان كفار قريش يعبدون الأصنام, بل كانوا يعبدون عند الكعبة, وعند البيت الحرام, وكانوا يعظمون إبراهيم و يعظمون إسماعيل , وينتسبون إلى ذلك, ولكن بدلوا ما بدلوا, وتعظيمهم لـإبراهيم الخليل ولإسماعيل هو شبيه بتعظيم من ينتسب للإسلام ولمحمد وينطق بالشهادتين, لكن هؤلاء قالوا ذلك و رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم براء, فوجب القيام بإنكار المنكرات, وبيان خطرها, وأعظمها الشرك, وهو أعظم الذنوب على الإطلاق, والحجة تقوم على الإنسان كلما قرب أو جاور بلاء أو شركاً أو كفراً أو معصية, فكلما دنى من ذلك فإنه يعظم عليه التكليف, وقد يكون من الابتلاء والاختبار والامتحان أن يوجدك الله عز وجل في موضع شرك أو موضع شر ليختبر ما عندك, ومرد ذلك إلى عملك وإمساكك في هذا الباب.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل الهدى والتقى والعفاف والغنى, وأسأله سبحانه وتعالى أن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى, وأن يسلك بنا المنهج القويم والصراط المستقيم، وأن يعيذنا من سيئات أنفسنا وشرورها, وأن يسلك بنا هدي وسنة رسوله وخلفائه الراشدين, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر