الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
[الفصل السادس: في نصاب العروض] وفيه مذاهب الأول: مذهب مالك و الشافعي أنه يعتبر النصاب بآخر الحول، فإذا اتجر في مبلغ من المال لا يبلغ نصاباً، فجاء آخر الحول وهو نصاب زكاه.
مثلاً كان لديه من المال أقل من النصاب، وفتح بقالة له في محرم، فما جاء آخر ذي الحجة إلا وهو يملك أكثر من النصاب..
تجب عليه الزكاة؛ نظراً إلى آخر الحول، ولا ننظر إلى أول الحول وأن المال كان نصاباً أو لا، ولا نقول له أيضاً: متى كان مالك نصاباً، في وسط الحول أو في آخره؟ وإنما نقول له في آخر الحول: إذا صار مالك نصاباً وجبت عليك الزكاة، والحول يعتبر من أول ما فُتحت هذا البقالة.
الثاني: مذهب أحمد : يعتبر النصاب في جميع الحول، فمتى انقطع النصاب في لحظة من الحول انقطع الحول، وبيانه أنه يقول: لا بد أن يفتح هذه البقالة بمال النصاب، ويستمر النصاب موجوداً معه إلى آخر الحول، فلو وقع عليه في وسط الحول خسارة، وأصبح ماله أقل من النصاب، فلا زكاة عليه حتى يرجع ماله نصاباً ويبتدأ حولاً جديداً.
والنصاب في العروض يعتبر فيه نصاب الذهب أو الفضة وهو مائتا درهم أو عشرون ديناراً.
الثالث: مذهب أبي حنيفة : اعتبار النصاب في أول الحول وآخره دون ما بينهما، فإذا تم النصاب في الطرفين وجبت الزكاة، فيقول: لا بد أن يفتح المتجر بمال يبلغ نصاباً، ولكن إذا وقعت عليه خسارة في وسط الحول، فأصبح ماله أقل من النصاب، وجاء آخر الحول وماله يبلغ نصاباً فتجب عليه الزكاة، ويعتبر النصاب في أول الحول وآخره.
والراجح هو قول مالك و الشافعي ؛ لأن حولان الحول على النصاب لم يقم عليه دليل، ولم يوجد فيه نص صحيح، فإذا اكتمل النصاب عند الحول وجب الاعتبار به، واعتبر ابتداء السنة الزكوية للمسلم. فمثلاً بدأ التجارة في محرم وماله دون نصاب فجاء محرم الثاني وماله نصاب زكاه، ويكون حوله دائماً من محرم.
وكل ما جاء الموعد من كل سنة زكى ما عنده إذا بلغ نصاباً، ولا يضر النقصان في أثناء الحول..
وإذا كانت الحكومة هي التي تجمع الزكاة، فإنها تحدد موعداً من كل سنة، فمن وجد عنده نصاب في هذا الموعد أخذت منه الزكاة، وإن كان نصابه لم يكمل إلا منذ شهر أو شهرين، وهذا ما كان يحدث في زكاة المواشي في عهد النبوة والخلفاء الراشدين فقد كان السعاة يأخذون الزكاة مما حضر من المال إذا بلغ نصاباً، ولا يسألون: متى تم هذا النصاب وكم شهراً له؟ ويكتفون بتمامه عند أخذ الزكاة. انظر فقه الزكاة (1/330) للقرضاوي .
قال المصنف رحمه الله: [ الفصل السادس: في نصاب العروض.
والنصاب في العروض على مذهب القائلين بذلك إنما هو فيما اتخذ منها للبيع خاصة على ما يقدر قبل ] يعني النصاب فيما اتخذ للبيع [ والنصاب فيها على مذهبهم.. ]؛ لأن بعض العلماء يقولون: لا زكاة في العروض [ هو النصاب في العين؛ إذ كانت هذه هي قيم المتلفات ورءوس الأموال.. ]يعني: أنا نرجع في النصاب إلى تقويم هذه البضائع إما بالذهب أو بالفضة [ وكذلك الحول في العروض عند الذين أوجبوا الزكاة في العروض فإن مالكاً قال: إذا باع العروض زكاه لسنة واحدة كالحال في الدين، وذلك عنده في التاجر الذي تضبط له أوقات شراء عروضه ] معناه أن مالكاً يقول: إن الإتجار على نوعين:
تجارة بفتح بقالة وفيه شراء كل يوم، وفي آخر العام يقوم تجارته ويزكي.
وتجارة بأخذ أموال عقارات، ينتظر بها الغلاء، فقد تبقى السنتين والثلاث، وهو ينتظر ارتفاع السعر كشراء الأراضي، فتمكث ثلاث سنوات .. أربع سنوات، وبعد ذلك يبيعها، فلا يزكي هذه الأربع السنوات وإنما يزكي لسنة واحدة، كالدين، والدين: فيه خلاف، فبعضهم قال: يزكي كل سنة، وبعضهم قال: يزكى لسنة واحدة، وبعضهم قال: يستأنف به عاماً جديداً، فقال مالك : يزكي لسنة واحدة؛ لأنه يعتبره غير متصرف فيه.
أما الجمهور فلا يفرقون بين مدير وغير مدير فيقولون: من كانت تجارته كل يوم يبيع ويشتري أو كانت تجارته عقارات ينتظر بها ارتفاع السعر فإنه إذا حال الحول يزكي ماله، بغير تفصيل، هذا مذهب الجمهور ما عدا مالكاً .
[ وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ولا يشترونه، وهم الذين يخصون باسم المدير ] أهل البقالات [ فحكم هؤلاء عند مالك إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم أن يقوّم ما بيده من العروض، ثم يضم إلى ذلك ما بيده من العين، وماله من الدين الذي يرتجى قبضه إن لم يكن عليه دين مثله ] أما إذا كان عليه دين فلا زكاة [ وذلك بخلاف قوله في دين غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصاباً أدى زكاته وسواء نض له في عامه شيء من العين أو لم ينض، بلغ نصاباً أو لم يبلغ نصاباً، وهذه رواية ابن الماجشون عن مالك ].
والنض هو ما بيع بدراهم أو دنانير.
هذا كلام ينزل على غير المدير، أما المدير فيزكي وهو الذي يبتاع ويشتري، وغير المدير قال: لا يزكي إلا بعد العام، ولكن إذا نض له من الأراضي، يعني صار له دراهم ودنانير، عنده أرض معدة للبيع عند الغلاء، فباع منها فقال: سواءً نض له في عامه شيء من العين أو لم ينض بلغ نصاباً أو لم يبلغ ، يقول ابن الماجشون : إنه إذا نض له نصاب أو أقل من نصاب لا يزكي إلا لعام واحد، ويزكي هذا النصاب فقط من الأراضي، يعني عقاراً معداً للبيع بمليون، فنض له منه مائة ألف فإنه يزكي هذه المائة الألف.
[ وروى ابن القاسم عنه: إذا لم يكن له ناض وكان يتجر بالعروض لم يكن عليه في العروض شيء.. ] وهذه مسألة أخرى، وهذا التاجر يتجر بعروض في عروض، مثلاً يبيع هذا البيت ببيت آخر، ويبيع هذه الأرض بأرض أخرى، ولا تنض له أموال فيه يده.
[ فمنهم من لم يشترط وجود الناض عنده ] أي منهم من يقول: يزكي ولم يشترط وجود الناض عنده، ومنهم يقول: إذا كان يبيع ويشتري بغير الذهب والفضة يزكي، ومنهم من يقول: لا بد أن يبيع ويشتري بذهب أو فضة [ ومنهم من شرطه، والذي شرطه.. ] شرط وجود الناض [ منهم من اعتبر فيه النصاب، ومنهم من لم يعتبر ذلك ] يقول: إذا كان شرط أن تنض هذه العقارات قال بعضهم: لا بد أن يكون الناض يبلغ نصاباً، ومنهم يقول: يزكي ما باع وإن لم يبلغ النصاب.
[وقال المزني : هو ] وهو من تلاميذ الشافعي [ زكاة العروض تكون من أعيانها لا من أثمانها ] يعني يعطيهم من البقالة سلع لا نقود.
[ وقال الجمهور الشافعي و أبو حنيفة و أحمد و الثوري و الأوزاعي وغيرهم: المدير وغير المدير حكمه واحد، وأنه من اشترى عَرْضاً للتجارة فحال عليه الحول قومه وزكاه ] وهذا أسهل شيء وأصح شيء وهو الراجح.
[ وقال قوم: بل يزكي ثمنه الذي ابتاعه به لا قيمته ] هنا خلاف هو شراه بمائة ألف وجاء آخر الحول، وهذه البضاعة تساوي خمسمائة ألف، فبعضهم يقول: يزكي مائة ألف، والقول الثاني: أنه يزكي بالقيمة، وهو مذهب الجمهور، سواء كانت القيمة أقل أو أكثر.
[ وإنما لم يوجب الجمهور على المدير شيئاً؛ لأن الحول إنما يشترط في عين المال لا في نوعه.
هذا الكلام مناقض لما نسبه إلى الجمهور.
لو قال: وإنما لم يوجب مالك على المدير شيئاً؛ لأن الحول إنما يشترط في عين المال لا في نوعه أو لا في ما اشتراه به لكان الكلام صحيحاً، مالك لم يوجب الزكاة على المدير إلا بعد البيع؛ لأنه يوجب الزكاة في عين المال لا فيما شري به، ولكنه قال: وإنما لم يوجب الجمهور على المدير شيئاً صوابه وإنما لم يوجب مالك أنا لا أكتب إلا شيئاً أنقله من مصدره؛ لأنه قد يخونني الفهم، ورجعت إلى هذه العبارة حتى في كتب المالكية فلم أجد هذا الكلام، [ وأما مالك فشبه النوع هنا بالعين؛ لئلا تسقط الزكاة رأساً عن المدير ] لعل صواب هذه الجملة وأما الجمهور فشبهوا النوع هنا بالعين؛ لئلا تسقط الزكاة رأساً عن المدير.
تكون بعبارة محتمله وليس لنا أن نقدم على رده لأن الرد إنما نقول نقدم عليه ونتيقنه إذا وجدنا مرجع نحيل إليه.
[وهذا هو بأن يكون شرعاً زائداً أشبه منه بأن يكون شرعاً مستنبطاً من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرفونه بالقياس المرسل] هنا يشير إلى قاعدة وهي: أن مالكاً عنده من الأدلة زائدة على الكتاب والسنة والإجماع والقياس، بعضهم قال: شرع من قبلنا، ومنهم من قال: أقوال الصحابة، و مالك كذلك عنده المصالح المرسلة من الأدلة، فلعله يقول: نزل كلامه في غير المدير على أن المصلحة المرسلة تقتضي ألا يزكي؛ لأنه مال محبوس في هذه العقارات، فالمصلحة المرسلة تقتضي أنه لا يزكي، فمن أدلته الذي يعتمد عليها المصلحة المرسلة، وهنا لا بد أن نتكلم بشيء عن المصلحة المرسلة.
المصلحة المرسلة: هي ضد البدعة تماماً، وعند معرفة البدعة تعرف المصلحة المرسلة عرف البدعة الإمام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، وعرف المصلحة المرسلة الإمام الشاطبي ، في كتابه الاعتصام، ومن هنا يظهر الفهم الدقيق في التفريق بين البدع وبين المصالح المرسلة.
يقول الإمام ابن تيمية في كتابة اقتضاء الصراط المستقيم: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) وأن ما جاء في ذم البدع لا بد فيه من معرفة حد البدعة التي ينطبق عليها هذا الحديث، فقال في تعريف البدعة -وذكر هناك حداً جامعاً مانعاً هناك قاعدة وهناك حد، ففرق بين القاعدة وبين الحد، فالقاعدة تذكر مسألة أغلبية، وقد تخرج عنها كثير من المسائل، أما الحد فهذا الجدار حد جامع لنا مانع عن غيرنا، فالحد: هو الجامع المانع عند علماء الأصول والمناطقة، فقال: البدعة هو الأمر الذي وجد مقتضاه -يعني دوافعه- في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يعمله رسول الله ولا ذكر أن مانعاً منعه من العمل؛ إذا هذا حد البدعة، وبالمثال يتضح الحد ثم نذكر ما يخرج من المثال: قال الله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] هذا يقتضي: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، كل ما يكون رحمة للأمة لا بد أن يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أليس كذلك؟ وقد قيل اليوم: إن من الرحمة بالأموات أنا نجتمع ونقرأ القرآن على قبورهم بعد موتهم، فهذه رحمة للأموات ينزل الله بها الرحمة ويغفر بها الذنوب، ولكن هذا المقتضي موجود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآيتين، فهل عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يعمله؟
الجواب: لم يعمله.
إذاً نحكم على هذا العمل بأنه بدعة وضلالة؛ ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمونه حتى إذا تكلم كأن على رءوسهم الطير، وكانوا يعرفون وقت مولده، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف وقت مولده، فهل جمع أصحابه وعمل معهم احتفال بمولده؟
الجواب: لا، فلذا نحكم على احتفالات المولد بأنها بدعة وضلالة.
فخرج بقول: ابن تيمية ولم يذكر أن مانعاً منعه من العمل ما إذا وجد المقتضي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر مانعاً منعه من هذا العمل، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يزال المقتضي قائماً والمانع منتفياً، مثال ذلك: صلاة التراويح فالمقتضى لها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) وفي حديث آخر صحيح قال: ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )، فهذا المقتضي موجود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وموجود بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن مانعاً منعه من العمل وهو خشية أن تفرض عليهم، فبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم زال هذا المانع وهو خشية الفرضية، وبقي المقتضي قائماً، فنسمي صلاة التراويح سنة؛ لأنها خرجت من الحد، وليست داخلة فيه، وخرج بقوله: ما إذا وجد المقتضي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم المصالح المرسلة، فهي: ما وجد مقتضاها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الشاطبي : والحد الجامع المانع للمصالح المرسلة هو: الأمر الذي وجد مقتضاه بعد وفاته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد به دليل خاص، ولكنه دخل في عموم الأدلة؛ إذاً الأمر الذي وجد مقتضاه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرد فيه دليل خاص، ولكنه دخل في عموم الأدلة، فهذا من المصالح المرسلة، ومنه ما يكون من الضروريات الخمس، ومنه ما يكون من الحاجيات، ومنه ما يكون من الكماليات.
فإذا الأمثلة على المصالح المرسلة التي وجد مقتضاها في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، منها ما سنمثل به متفق عليه، ومنها ما سنمثل به مختلف فيه، ولكن تطبيق القاعدة ومقتضياتها تقتضي صحة ما نقول أي أن تحقيق المناط في هذا الحد يقتضي صحة ما نقول.
فأولاً: من المتفق عليه: كان القرآن في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم في الصدور وفي اللخاف وليس مجموعاً في مصحف واحد، وكان يحفظه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحفظه كثير من أصحابه ولا يزال الوحي يتنزل.
فليس هناك مقتضيات لجمع القرآن، وهذا مثال قال صاحب المراقي:
والحق لا يعترض المثال قد كفى إذ الفرض والاحتمال
فقد مثلوا وقالوا: إن حفاظ القرآن لما وقع القتل فيهم خشي الصحابة من أن يذهب القرآن؛ بموت من يحملونه فاجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: إنه لا بد من جمع القرآن في مصحف واحد.
وليس هناك دليل خاص بأن يجمعوا القرآن في مصحف واحد، فقالوا: هو داخل في عموم الأدلة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية )؛ فإذاً هذا من المصالح المرسلة وهو متفق عليه.
كذلك كان العرب لا يلحنون في لغتهم الكبار منهم والصغار والذكور والإناث، فلما كانوا لا يلحنون في لغتهم، ما كانوا بحاجة إلى تدوين كتب في ضبط اللغة العربية.
يذكر أن بنتاً صغيرة ذهبت إلى موضع الماء، وملأت القربة وحملتها وجاءت بها إلى البيت، فلما جاءت بها إلى البيت فتحت فم القربة، وأرادت أن تفرغها في الأواني ولم تستطع أن تمسكه، وهي في تلك الحال والارتباك نادت أباها فقالت: يا أبتي أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقت لي بفيها!
ولكنه حدث بعد ذلك أن اختلط العرب بالعجم ووقع شيء من اللحن في اللغة، فقرأ رجل: (إن الله بريء من المشركين ورسوله) بالكسر يعني: هو بريء من رسوله! والقراءة الصحيحة: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ[التوبة:3]، بالرفع أي: ورسوله مبتدأ والخبر محذوف، (بريء من المشركين)، وقراءة أخرى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ[التوبة:3]، بنصب رسوله أي: إن الله بريء من المشركين وإن رسوله بريء من المشركين، فعند ذلك لا بد من أن ندون كتباً تضبط لنا نمط اللغة العربية؛ حتى لا يحصل فيها لحن، وليس لدينا عن الرسول صلى الله عليه وسلم أدلة بتدوين اللغة بهذه القواعد، ولكن عندنا دليل آخر وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( نظر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ) إذاً فهذا دليل عام في تدوين اللغة العربية، وهذا متفقون عليه وتحقيق المناط في هذه الحد متفق عليه.
تبقى هناك أشياء نقول: إن تحقيق المناط ينطبق عليها، ونقول: إنها من الضروريات التي ترجع إلى النفس والمال والدين والعرض والعقل، وهو الجهاد في سبيل الله، فالجهاد في سبيل الله كان في الماضي بالسيف والرمح والنبل، وكان على البغال والحمير والإبل والخيل، ولكن تطور الجهاد، فهل لنا أن نطور أساليب جهادنا؛ لأن المقتضيات اليوم تقتضي هذا أو نقول: إنه بدعة؟ نقول: إن المقتضيات تقتضي ذلك التطور، ولكن حدث نوع من الجهاد وهو ما يسمى بالجهاد الفكري، يقول بعض الناس: إنه ليس من الجهاد ولكن الآية الكريمة التي نزلت بمكة كما قال ابن القيم - وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52]- : تقتضي الفكر من الجهاد.
ثم نقول: كان الاستعمار يحاربنا بالقوة والسلاح، ولكنه أخذ طريقة أخرى وهو الغزو الفكري، وجاء إلى شبابنا في كل المرافق التي يكون فيها الشباب من جامعات ومستشفيات ومؤسسات وشركات.. وغير ذلك، فجاء يغزوهم وينظمهم في تنظيمات إلحادية علمانية، ينطبق عليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قال: صفهم لنا يا رسول الله! قال: من أبناء جلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ) وفي رواية قال: ( ألسنتهم ألسنت العرب وقلوبهم قلوب الأعاجم )، فجاء هذا الغزو الفكري وليس من المستطاع أن: نغزوهم بأساليب الجهاد بالخيل والنبل في كل مؤسسة وكل مستشفى وكل جامعة، إذاً لا بد من جهاد يماثل هذا الجهاد وهو جهاد الفكر، والدعوة وهذا من الجهاد وجمع الشباب في منضمات إيمانية نجمعهم ونبعدهم عن هذا، فهذا يكون من المصالح المرسلة، وإن لم يدخل في قوله تعالى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52] فهو داخل في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]؛ ولهذا يقول بعض المفكرين المسلمين: إن مثل الشباب كمثل جبل من حجارة، ومثل الدعاة على اختلاف مذاهبهم مثل المهندسين المعماريين؛ وقفوا بجانب هذا الجبل كل يريد أن يبني صرحاً قوياً يحارب به الشعوب التي يريد أن تدخل تحت إمرته، فمن أخذ من حجارة الشباب أكثر وأصلح تهذيبه وأحكم بنيانه فهو الذي سيبني صرحه؛ ليحارب به ويقيم مذهبه - سواء كان هذا المذهب إسلامياً أو غير إسلامي - فماذا يكون التنظيم في هذه إذا ما طبقناه على مناط قاعدة المصالح المرسلة؟ هل يكون من المصالح المرسلة أو يكون بدعة وضلالة؟ وهل هو من ضروريات المصالح المرسلة أو من كمالياتها؟
الجواب: من ضرورياتها؛ إذاً هذا الكلام جرنا عليه قوله: إن مالكاً يستدل بالمصالح المرسلة، وهكذا يجب علينا أن نفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة بشيء واحد، وهو: هل مقتضياته موجودة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو غير موجودة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
أقول: إذا نظرنا في الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرنا فيها بالبيعة وأن من بايعناه أولاً فهو خليفة، وأمرنا أن تكون البيعة لقريش، وأمرنا بالسمع والطاعة، ولكن هل قال: إذا وجدت الإمارة في غير قريش فيقام عليهم بثورات أو علينا بالسمع والطاعة؟ بل أمرنا بالسمع والطاعة. قال عليه الصلاة والسلام: ( اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة )، يعني العبد: الحبشي المملوك، ليس العبد الحبشي الأسود! القن المملوك، كما جاء في دولة المماليك، فدولة المماليك كانت من المماليك، وبعد ذلك تغلبوا على الدولة.
هنا نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم لما توفي لم يعين رجلاً من بعده للخلافة بدليل ما ورد في صحيح البخاري قال: ( إن العباس قال: إني أعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أشرف على الوفاة، فاذهب بنا يا علي ! إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا الأمر فينا فليخبر الناس بذلك حتى لا ينازعونا فيه، وإن لم يكن فينا فليوصِ بنا )، فهذا يدل على أنه تركها غير مبينة، ( فقال علي بن أبي طالب : والله لا نذهب إليه! لأنه لو قال: إن هذا الأمر ليس فينا فلم نعطه بعده )، فبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الصحابة واجتمع رأي أكثرهم وأغلبيتهم على أبي بكر ، فكانت الخلافة فيه من غير ترشيح له من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا بكر رأى أن يرشح، فهو يرى أن أمر الخلافة أمر واسع فرشح عمر ، فهذا مما يدل على أن أمر الخلافة أمر واسع، وموكول فيه إلى رأي الأمة وإلى مصالح الأمة وما تقتضيه المصلحة العامة.
فجاء أبو بكر فرشح عمر وجاء عمر فرشح ستة للخلافة، وقال: اعملوا فيها برأي الأكثرية من الستة، فإن اجتمع خمسة وخلف واحد فقتلوه، وإن اجتمعوا أربعة وخالف اثنان فقتلوهما وإن كان ثلاثة وثلاثة فليرجح عبد الله بن عمر.
فهذا مما يدل على أن أمر الخلافة شيء موكول إلى الأمة، وبعد أن انتهت الخلافة بـعلي وتنازل عنها الحسن بن علي كانت الخلافة في معاوية ، وأجمعوا عليه في التنازل ولكن قال في الحديث: ( أول ما يغير هذا الأمر رجل من قريش )، وهو حديث صحيح أورده شيخنا ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وقال: إنه معاوية فهو أول ما غير أمر هذا الدين بجعل الخلافة وراثة.
لكنه لما غير ذلك وجعلها وراثة أجمع العلماء على السمع والطاعة، واستمرت كذلك الخلافة وراثة والسمع والطاعة واجب على الأمة، فإذا ما حدث غير ذلك مما تراه الأمة الإسلامية مصلحة، فلا نقول: إنه بدعة، بل نقول: هذا أمر موكول إلى الاجتهاد، فإن رأينا أن من ضروريات هذا الدين أن نعمل به فهو من المصالح المرسلة؛ لأن مقتضياته وجدت الآن، واستمرت الخلافة بالوصاية والوراثة وإن كان يقال: إنه يعقد له أهل الحل والعقد على رغم أنفهم، وليس باختيارهم حتى إنهم كانوا يحلفون كبار القوم ويقولون لهم: إن ابني خليفة وإنك تبايعه، فيقول: وإني أبايعه فيقولون له: وإن لم تبايعه فزوجاتك طوالق قال: وإن لم أبايع ولدك فزوجاتي طوالق كلهن، فيقول: وعبيدك عتقاء، قال: وعبيدي عتقاء، وأموالك صدقة، قال: وأموالي كلها صدقة، يحلفون بهذه الأيمان؛ ليبايعوا ابن الملك، ويجبرونهم على ذلك.
فأفتى الإمام مالك أن هذه الأيمان لا تنعقد، وأنها باطلة وأنه تجوز مبايعة النفس الزكية، في المدينة وهو محمد النفس الزكية ، فلما هزم محمد النفس الزكية أُخذ مالك ووضع على بعير، وركب على قفاه وأدير به في شوارع المدينة، وكان يقول الإمام مالك : من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الإمام مالك الذي أفتيت ببطلان يمين الخلفاء فيمن يرشح في هذه اليمين، فقال: أنزلوه عن البعير وأرجعوه إلى بيته؛ لكي لا ينتشر الخبر أكثر.
فإذا ما جاء أمر آخر في الولاية وقالوا: لا وراثة في الحكم، وعلى الشعب أن يرشح نواباً عنه يقومون باختيار الرئيس، فهل نقول: يا مسلمين! يا أمة محمد! يا حملة كتاب الله! يا دعاة! تأخروا عن هذا الأمر وافسحوا المجال للعلمانية.
ونقري ما شئتي أن تنقري
نترك لهم الجو ونقول لهم: أنتم تختارون ونحن المسلمون حملة الشريعة الإسلامية الذين يجب علينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر فأمر الخلافة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مادام وهم يزاحمون فيه العلمانيين -فنحن نفرغ الجو لهم؛ لأن هذا بدعة ما وقع في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما استمرت الخلافة على ما كانت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إذاً فما ذا نقرر في هذا الأمر، هل نقول: إنها مصلحة مرسلة أو إنها بدعة؟ وهل نقول على الأقل: إنها مسألة اجتهادية من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ولا نقول: إن الأربعة الأقطار الذين يزعمون أنهم علماء اليمن كلامهم هو إجماع، وأن كلام الأئمة الأربعة ليس بإجماع كما هو مقرر في الأصول، فيقولون: فرقوا بين أهل السنة وأهل البدعة بالانتخابات فمن قال: إن الانتخابات أمر مختلف فيه فهو رجل بدعي؛ إشارة إلى أنه إجماع لا يجوز خرقه ولا خلافه.
هذا ما دعانا إلى أن نتكلم في المصالح المرسلة، ونعرف أنها أصبحت من الأدلة التي يعتمد عليها في ضروريات الحياة.
أقول: الراجح مذهب الجمهور وهو أنه لا فرق بين المدير وغير المدير وأنه يزكي في آخر الحول.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر