إسلام ويب

كتاب الزكاة [5]للشيخ : محمد يوسف حربة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اتفق العلماء على أشياء تجب فيها الزكاة، وهي الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم، وكذا الحنطة والشعير والتمر والزبيب، ووقع الخلاف في الخيل من الحيوانات، وفي السائمة منها من غير السائمة. وكذا وقع الخلاف في العسل بعد اتفاقهم على أن لا زكاة فيما يخرج من الحيوان، وأيضاً وقع الخلاف فيما عدا الأصناف الأربعة من النباتات فبين متقيد بالأصناف الأربعة وبين متوسط وبين متوسع إلا ما حده الإجماع، وأما العروض المتفق على عدم الزكاة فيها في حالة القنية فإنه وقع الخلاف فيها عندما يقصد منها التجارة والنماء فبالوجوب قال الجمهور، وبالمنع قالت الظاهرية.

    1.   

    زكاة الخيل

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.

    وبعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما ما اختلفوا فيه من الحيوان فمنه ما اختلفوا في نوعه، ومنه ما اختلفوا في صنفه.

    أما ما اختلفوا في نوعه فالخيل, وذلك أن الجمهور ] منهم مالك و الشافعي و أحمد , [ على أن لا زكاة في الخيل. وذهب أبو حنيفة إلى أنها إذا كانت سائمة، وقصد بها النسل أن فيها الزكاة . أعني: إذا كانت ذكراناً وإناثاً ]. هذا مذهب أبي حنيفة .

    الأدلة على وجوب الزكاة في الخيل وذكر الراجح

    والراجح وجوب الزكاة في الخيل، وذلك لما يأتي:

    الأول: عموم قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، فالأموال لفظ عام؛ لأنه جمع مضاف، وهو يفيد الشمول وعموم الأفراد. وشرح هذه القاعدة الأصولية كما يأتي:

    أما كونه يفيد الشمول فلأنه جمع، وأما كونه يفيد عموم الأفراد فلأنه مضاف يفيد الشمول وعموم الأفراد, فالمفرد المضاف يفيد عموم الأفراد, والجمع المضاف يفيد الشمول مع عموم الأفراد, فلا يخرج منه إلا ما أخرجه إجماع أو قياس كالثياب المعدة للباس. فالثياب المعدة للباس لا يجب فيها زكاة بالإجماع, والبيوت المعدة للسكنى, وإن كانت أموالاً فلا يجب فيها, وما أعد من الأموال للقنية, مثلاً: أليس يجب في مائة من الإبل الزكاة؟ فالإبل تجب في الخمس منها زكاة, ولكن من عنده خمس رواحل يستعملها لأن تحمل عليها وليست للنماء فهذه لا تجب فيها الزكاة, كذلك من عنده بعض البقر يستعملها في الحراثة فلا تجب فيها الزكاة. فهذه لم يقل أحد أن فيها الزكاة, وهذا بالإجماع, وبالقياس: ومثل الحلي المباح الذي يتخذ للزينة فهذا يقاس على الإبل والبقر وغيره.

    وكذلك: ما أُعد من الأموال للقنية وما كان دون النصاب, فهو وإن كان مالاً لكنها لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه دون النصاب.

    الثاني: الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة وفيه: ( ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها )، والظاهر من الحق في ذلك هو الزكاة المفروضة في كل الأموال إلا ما استثني.

    الثالث: أن الحديث المتفق عليه ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ) ، فالظاهر أنه يراد به ما كان معداً للقنية كخادم ومركب.

    الرابع: أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل فأشبه الإبل والبقر.

    الخامس: ما صح عن عمر أنه كان يأخذ الصدقة من الخيل, فهو لا يخلو من أحد أمرين:

    أحدهما: أن عنده نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.

    ثانياً: أنه وجد فيها العلة الموجبة لأخذ الزكاة كالأنعام. وهذه هي الأدلة على أخذ الزكاة من الخيل.

    السبب في اختلاف العلماء في زكاة الخيل

    قال رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم معارضة القياس للفظ, وما يظن من معارضة اللفظ للفظ فيها.

    أما اللفظ الذي يقتضي أن لا زكاة فيها, فقوله عليه الصلاة والسلام: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ) ]، متفق عليه.

    [ وأما القياس الذي عارض هذا العموم فهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل، فأشبه الإبل والبقر ], فهذا القياس عارض هذا الحديث, [ وأما اللفظ الذي يظن أنه معارض لذلك العموم، فهو قوله عليه الصلاة والسلام: وقد ذكر الخيل, ( ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ) ]، متفق عليه، فيحمل حديث ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ) على القنية, وحديث: (لم ينس حق الله في ظهورها ورقابها)، على الزكاة, وأيد هذا الحديث القياس على الإبل والبقر والغنم في أنه مال نامٍ, [ فذهب أبو حنيفة , إلى أن حق الله هو الزكاة، وذلك في السائمة منها, قال القاضي ], وهو المؤلف: [ وأن يكون هذا اللفظ مجملاً ] يعني: (لم ينس حق الله)، [ أحرى منه أن يكون عاماً فيحتج يه في الزكاة، وخالف أبا حنيفة في هذه المسألة صاحباه أبو يوسف و محمد ] كأنهم مع الجمهور, [ وصح عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ منها الصدقة فقيل: إنه كان باختيار منهم ] يعني أن الناس يدفعونها ولا يجبرهم، ولكن قلنا: لعله أخذ بالقياس أو كان عنده خبر في ذلك.

    1.   

    زكاة الأنعام السائمة وغير السائمة

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما ما اختلفوا في صنفه ]، المسألة الأولى في نوعه وهذا في صنفه, [ فهي السائمة ], يعني الراعية [ من الأبل والبقر والغنم من غير السائمة منها ], أي: المعلوفة في البيت, [ فإن قوماً أوجبوا الزكاة في هذه الأصناف الثلاثة سائمة كانت أو غير سائمة ] يعني: راعية أو غير راعية وهي المعلوفة في البيت, [ وبه قال الليث و مالك ] قال الليث و مالك : تجب فيها الزكاة ولو كانت معلوفة في البيت, [ وقال سائر فقهاء الأمصار: لا زكاة في غير السائمة, من هذه الثلاثة الأنواع ], ومنهم أبو حنيفة و الشافعي و أحمد .

    سبب اختلاف العلماء في زكاة الأنعام السائمة وغير السائمة

    [ وسبب اختلافهم معارضة المطلق للمقيد ] يعني: وردت ألفاظ مطلقة وألفاظ مقيدة, وذكر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيد, [ ومعارضة القياس لعموم اللفظ.

    أما المطلق فقوله عليه الصلاة والسلام: ( في أربعين شاةً شاة ) ], فهذا مطلق لم يقيد بسائمة ولا غيرها، وهو حديث أخرجه أبو داود و الترمذي ومن حديث ابن عمر , وقال: حديث حسن ، وهو كما قال.

    [ وأما المقيد فقوله عليه الصلاة والسلام: ( في سائمة الغنم الزكاة ) ], لم أجده بهذا اللفظ، بل أخرج البخاري , و ابن ماجه وغيرهما عن أنس : ( وفي صدقة الغنم في سائمتها إن كانت أربعين, إلى عشرين ومئة شاة ) وأخرجه أبو داود ، قال: أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس بن مالك وفيه: ( وفي سائمة الغنم إن كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على العشرين مائة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين )، وهو حديث صحيح صححه المحدث الألباني في الإرواء.

    فهذه الأحاديث تقيد ذلك المطلق بالسائمة.

    [ فمن غلب المطلق على المقيد, قال: الزكاة في السائمة وغير السائمة ], وهو مالك [ ومن غلب المقيد قال: الزكاة في السائمة منها فقط.

    ويشبه أن يقال: إن من سبب الخلاف في ذلك أيضاً معارضة دليل الخطاب للعموم، وذلك أن دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: ( وفي سائمة الغنم زكاة )، يقتضي أن لا زكاة في غير السائمة ] وهنا جعل المؤلف السبب من باب آخر، وهو بسبب معارضة دليل الخطاب للعموم وليس من باب المطلق والمقيد، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( في أربعين شاة شاة ), جعله عاماً بينما جعله في السبب الآخر مطلقاً [ يقتضي أن السائمة في هذا بمنزلة غير السائمة، لكن العموم أقوى من دليل الخطاب ], يقول: إنه ليس من باب المطلق والمقيد، وإنما هو من العموم ومفهوم المخالفة، [ كما أن تغليب المقيد على المطلق أشهر من تغليب المطلق على المقيد.

    وذهب أبو محمد بن حزم إلى أن المطلق يقضي على المقيد، وأن في الغنم سائمة وغير سائمة الزكاة وكذلك في الإبل لقوله عليه الصلاة والسلام: ( ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ) ] أخرجه البخاري و مسلم , وهذا يبين النصاب, [ وأن البقر, لما لم يثبت فيها أثر وجب أن يتمسك فيها بالإجماع، وهو أن الزكاة في السائمة منها فقط، فتكون التفرقة بين البقر وغيرها قول ثالث ].

    ذكر الراجح في زكاة الأنعام المعلوفة

    الراجح أنها لا تجب الزكاة إلا في السائمة؛ لأنه من المقرر في أصول الفقه, أنه يقدم المقيد على المطلق، وأما عموم: ( في أربعين شاةً شاةٌ ), و( في خمس من الإبل شاةُ ) فإنه ورد لبيان النصاب، ولم يرد لبيان عموم الصدقة في السائمة وغيرها, فلا يعارض ما ورد من تقييده صلى الله عليه وسلم: الزكاة بالسائمة.

    [ وأما القياس المعارض لعموم قوله عليه الصلاة والسلام فيها: ( في أربعين شاةً شاةٌ ) فهو أن السائمة هي التي المقصود منها النماء والربح ], أما المعلوفة والتي للقنية فلا يقصد منها النماء والربح، [ وهو الموجود فيها أكثر ذلك, والزكاة إنما هي فضلات الأموال، والفضلات إنما توجد أكثر ذلك في الأموال السائمة؛ ولذلك اشترط فيها الحول ]؛ لأنها لا يوجد فيها النماء، [ فمن خصص بهذا القياس ذلك العموم ] يعني: الأحاديث الواردة العامة, [ لم يوجب الزكاة في غير السائمة، ومن لم يخصص ذلك، ورأى أن العموم أقوى أوجب ذلك في الصنفين جميعاً، فهذا ما اختلفوا فيه من الحيوان التي تجب فيه الزكاة. والراجح كما قلنا وجوب الزكاة.

    1.   

    زكاة العسل

    قال المصنف رحمه الله: [ وأجمعوا على أنه ليس فيما يخرج من الحيوان زكاة إلا العسل, فإنهم اختلفوا فيه، فالجمهور على أنه لا زكاة فيه ]، وبه قال مالك و الشافعي , [ وقال قوم: فيه الزكاة ]، وبه قال أبو حنيفة و أحمد .

    سبب اختلاف العلماء في زكاة العسل

    قال رحمه الله: [ وسبب اختلافهم: اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( في كل عشرة أزق زق )، خرجه الترمذي وغيره ]، وهو حديث صحيح بشواهده, كما في نصب الراية.

    الراجح في زكاة العسل

    والراجح وجوب الزكاة في العسل لما يأتي:

    أولاً: عموم النصوص التي لم تفصّل بين مال وآخر, وكأن الأصل في الأموال الزكاة, مثل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً[التوبة:103]، وقوله تعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]، وقوله: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254]، فهذه الآيات العامة يدخل فيها العسل.

    ثانياً: ما ورد من الأحاديث في العسل خاصة بأخذ العشر منه, وهي وإن كان في بعض طرقها ضعف, فإنه يقوي بعضها بعضاً, كما قال في التعليق أنه صحيح بشواهده, وكما قال ابن القيم , بل إن شيخنا في الإرواء (3/282) صحح حديث عمرو بن شعيب بما له من الطرق والمتابعات، وهو بلفظ: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ في زمانه من العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها ).

    ثالثاً: أن العسل ناتج مدخر ويبقى ثمنه إلى آخر السنة وتأكل منه, ويحصل به الغنى, فهو أشبه بالناتج من الأرض.

    رابعاً: وأما ما قيل من أنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن ولا زكاة في اللبن إجماعاً. فالجواب ما قاله صاحب المغني ابن قدامة (3/20) إن اللبن قد وجبت الزكاة في أصله وهي السائمة بخلاف العسل, وأيضاً فهو قياس في مقابل النص.

    وقد قال بوجوب الزكاة في العسل الإمام الشوكاني , وهو من المضيقين في باب الزكاة, إذ أنه لا يوجب الزكاة إلا في المنصوص عليه فقط. قالوا إن العمراني يقول: لا يتابع الشوكاني في باب الزكاة، وذلك لأنه رأى أنه من المنصوص عليه.

    أما النصاب: فيدل عليه الحديث الذي ذكره المؤلف, أنه عشره.

    1.   

    زكاة جنس النبات سوى الأربعة الأصناف

    قال المصنف رحمه الله: [ وأما ما اختلفوا فيه من النبات بعد اتفاقهم على الأصناف الأربعة, التي ذكرناها فهو جنس النبات الذي تجب فيه الزكاة، فمنهم من لم ير الزكاة إلا في تلك الأربعة فقط، وبه قال ابن أبي ليلى و سفيان الثوري , و ابن المبارك , ومنهم من قال: الزكاة في جميع المدخر المقتات من النبات ]، كل شيء يؤكل على سبيل الإقتيات - يعني الفطور والغداء والعشاء, ويدخر، [ وهو قول مالك و الشافعي ], وقال أحمد : في كل ما ييبس ويبقى مما يكال، ولا يشترط عنده الإقتيات, [ ومنهم من قال: الزكاة في كل ما تخرجه الأرض, ماعدا الحشيش والحطب والقصب وهو أبو حنيفة ], قال: كلما تخرجه الأرض يجب فيه الزكاة حتى القات, بل يجب فيه الزكاة والضريبة, وأوجبت الحكومة الضريبة كما أوجبتها على كثير من الأموال، وطاعة الإمام واجبة.

    ذكر الراجح في زكاة ما يخرج من الأرض من النباتات

    الراجح مذهب أبي حنيفة أن كل ما يخرج من الأرض يجب فيه الزكاة, وذلك لما يأتي:

    أولاً: عموم النصوص القرآنية، مثل قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]، فلم يفرق بين مخرج ومخرَج, بل ظاهر الآية يدل على الوجوب في كل ما تنبته من الأرض, وقوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وذلك بعد أن ذكر أنواع المأكولات, من جنان معروشات وغير معروشات, والنخل والزرع والزيتون والرمان, فهذه كلها ذكرها في الآية ثم قال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فكيف نخصه بالأربعة؟!

    والأربعة هي: الحنطة والشعير والتمر والزبيب, تعرفون المزارع التي تخرج الحنطة والشعير, والمزارع التي تخرج الفواكه هذه, وكيف هو غِنى أهل الحنطة والشعير، وكيف هو غنى أهل هذه الجنان، فهل روح الإسلام يقتضي أن نقول: إن هايل سعيد وأولاد هايل سعيد معفوون عن الزكاة, ولا زكاة عليهم فيما لديهم من الجنان والمضخات وغيرها، وكل من لديه مزارع مثل ابن الأحمر هؤلاء معفوون ولا تجب عليه الزكاة، ولكن الذين لديهم حنطة ويزرعون على الحمير ما بين مناخة وبين صنعاء هؤلاء مطالبون بالزكاة؛ لأنه ممن نص عليه, وأولئك لم يذكروا في النص! فهؤلاء الأغنياء أصحاب الجنات يدخلون في هذه الآيات القرآنية.

    ثانياً: عموم السنة, في قوله صلى الله عليه وسلم: ( فيما سقت السماء والعيون, أو كان أثرياً العشر -كأنه ما يشرب بعروقه- وما سقي بالنضح نصف العشر ), أخرجه البخاري من حديث ابن عمر ، فالحديث أوجب الزكاة في كل ما سقت السماء .. إلى آخره, من غير تفصيل، فأوجب الزكاة في كل ما سقت السماء والعيون من غير تفصيل بين ما يبقى وما لا يبقى, وما يؤكل وما لا يؤكل, وما يقتات وما لا يقتات.

    ثالثاً: إن مذهب أبي حنيفة هو الموافق لحكمة تشريع الزكاة, فليس من الحكمة أن يفرض الشارع الزكاة على زارع الشعير والقمح ويعفي صاحب البساتين, من البرتقال, والمانجو والتفاح, مع أن ما تنتجه هذه من الدخل أضعافاً مضاعفة مما ينتجه الشعير والقمح, فمن عنده ثمانية أكياس من أهل الحنطة والشعير يجب عليه الزكاة, وأما من عنده مزرعة يبيع منها بعشرة ملايين وبأكثر من عشرة ملايين من المانجو والتفاح والبرتقال فهذا لا تجب عليه الزكاة، هل يتصور أن روح الشريعة يقتضي هذا؟! لا.

    رابعاً: وأما ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: في كتاب معاذ من أمره له بأن يأخذ الزكاة, من الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، فأجيب عنه بأنه لم يكن ثمة غيره، وهو من باب التنصيص على بعض أفراد العام، إما للاهتمام به أو لوجوده في ذلك الوقت، مثلاً: لو قلت لك: أكرم من جاءك اليوم، وأكرم زيداً وعمراً وبكراً وموسى, هل هذا معناه ألا تكرم من جاءك اليوم سوى الأربعة؟ هذا من التنصيص على بعض أفراد العام لأمر ما، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم: أمره بأخذ الزكاة من هذه الأشياء من باب التنصيص على بعض أفراد العام لأمر ما، وهو كونها هي التي كانت موجودة والتي يكون بها الغنى, لكن الآن أصبح غيرها موجوداً ويكون به الغنى, وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: في كتاب معاذ أنه قال: ( ليس في الخضروات صدقة ), معناه ليس فيها صدقة تؤخذ بواسطة العمال والجباة, والجباة: الذين يأخذون الصدقة بل إن أربابها هم الذين يؤدون بأنفسهم زكاتها؛ لأن الخضروات لا بقاء لها، فيسرع إليها التلف قبل أن يصل إلى المستحقين بواسطة العمال, فلو قلنا لصاحب المزرعة: أنت أبقِ هذه الخضروات حتى يأتيك العمال، فلا يأتي العامل إلا وقد فسدت الخضروات فيتصرف فيها بالبيع ثم يعطي الفقراء. وما يخرج من الأرض لا يشترط فيه حول.

    خامساً: إن العمومات فيها ما هو قطعي النقل, وهي الآيات القرآنية وأما الخصوصات فكلها ظنية النقل, لم يتفق على صحتها, أي أن حديث الخضروات هذا ظني ولم يتفق العلماء على أنه حديث صحيح.

    سادساً: وقد أيد ابن العربي المالكي مذهب أبي حنيفة ، فقال في تفسير: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، قال: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق, فأوجبها في المأكول مقتاتاً كان أو غيره, كما أيد مذهب أبي حنيفة في شرح الترمذي , فقال: وأقوى المذاهب في المسألة, مذهب أبي حنيفة دليلاً وأحوطها للمساكين وأولاها قياماً بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث, انظر فقه الزكاة للقرضاوي (1/355) والإرواء (3/276).

    سبب الخلاف في زكاة النبات

    قال رحمه الله: [ وسبب الخلاف إما بين من قصر الزكاة على الأصناف المجمع عليها وبين من عداها إلى المدخر المقتات فهو اختلافهم في تعلق الزكاة بهذه الأصناف الأربعة ], أي: أخذ بظاهر الحديث, كـالشوكاني , والأئمة الآخرون الشافعي و مالك و أحمد عدوه إلى المقتات أو إلى المدخر، ولم يأخذوا بظاهر الحديث، و أبو حنيفة لم يأخذ بظاهر الحديث, وعداه إلى كل ما أنبت في الأرض. [ هل هو لعينها أو لعلة فيها وهي: الاقتيات فمن قال لعينها قصر الوجوب عليها ] وهو الشوكاني والظاهرية [ ومن قال لعلة الاقتيات عدى الوجوب لجميع المقتات.

    وسبب الخلاف بين من قصر الوجوب على المقتات وبين من عداه إلى جميع ما تخرجه الأرض, إلا ما وقع عليه الإجماع من الحشيش والحطب والقصب: هو معارضة القياس لعموم اللفظ ] وهذا اللفظ متواتر وهي الآية, [ أما اللفظ الذي يقتضي العموم فهو قوله: ( فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر )], وهو حديث أخرجه البخاري, [ (وما) بمعنى: الذي ], ما سقت السماء بمعنى: الذي سقت السماء، [ والذي من ألفاظ العموم, وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ[الأنعام:141] إلى قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]. وأما القياس فهو أن الزكاة إنما المقصود منها سد الخلة، وذلك لا يكون غالباً إلا فيما هو قوت، فمن خصص العموم بهذا القياس أسقط الزكاة مما عدا المقتات ]، وهذا كان في وقتهم ولو وصلوا إلى زماننا لعرفوا أن سد الخلة في البساتين اليوم أكثر من المقتات.

    [ ومن غلب العموم أوجبها فيما عدا ذلك إلا ما أخرجه الإجماع ]، يعني: بهذا أبا حنيفة , [ والذين اتفقوا على المقتات اختلفوا في أشياء من قبل اختلافهم فيها, هل هي مقتاتة أم ليست بمقتاتة ], وهما مالك و الشافعي .

    [ وهل يقاس على ما اتفق عليه أم لا يقاس, مثل: اختلاف مالك و الشافعي في الزيتون، فإن مالكاً ذهب إلى وجوب الزكاة فيه، ومنع ذلك الشافعي في قوله الأخير بمصر, وسبب اختلافهم هل هو قوت أم ليس بقوت ], فمالك يقول: هذا قوت، و الشافعي يقول: ليس بقوت.

    [ ومن هذا الباب اختلاف أصحاب مالك في إيجاب الزكاة في التين أو لا إيجابها, وذهب بعضهم إلى أن الزكاة تجب في الثمار دون الخضر ], أخذوا بهذه الآية، قالوا هذه من الثمار, وأخذوا بالحديث، فقالوا: لا تجب في الخضر.

    [ وهو قول ابن حبيب ؛ لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام:141]الآية ]، -لم يذكر الخضار-, [ ومن فرق في الآية بين الثمار والزيتون فلا وجه لقوله إلا وجه ضعيف, واتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة ], يعني: العروض التي تقصد للقنية: البيوت، والثياب، والباصات، والكراسي فهذه ليس فيها زكاة، لأنها لم تؤخذ للتجارة.

    1.   

    زكاة عروض التجارة

    [ واختلفوا في أتجب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة ], يعني مثلاً: اشتريت باصات، واشتريت لك ثياباً وتريد البيع والشراء فيها, فهل تجب فيها الزكاة أو لا تجب؟

    [ فذهب ففقهاء الأمصار ] ومنهم الأئمة الأربعة [ إلى وجوب ذلك، ومنع ذلك أهل الظاهر ], قال أهل الظاهر: إن هذه المعارض الموجودة في الأسواق لا زكاة فيها، ولا تزكوها وخذوها من غيرهم، ومعناه أن الأغنياء لا زكاة عليهم.

    [ والسبب في اختلافهم: اختلافهم في وجوب الزكاة بالقياس، واختلافهم في تصحيح حديث سمرة بن جندب ], وهو حديث ضعيف, [ أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع ), وفيما روي عنه عليه الصلاة والسلام: قال: ( أدوا زكاة البر ) ]، لا يوجد هذ الحديث.

    [ وأما القياس الذي اعتمده الجمهور فهو أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق, أعني الحرث والماشية, والذهب والفضة ]، فهذه الأموال المقصود منها التنمية والتجارة.

    [ وزعم الطحاوي أن زكاة العروض ثابتة عن عمر و ابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة، وبعضهم يرى أن مثل هذا هو إجماع من الصحابة, أعني: إذا نقل عن واحد منهم قول ولم ينقل عن غيره خلافه, وفيه ضعف ].

    ذكر الراجح في زكاة التجارة

    الراجح وجوب زكاة التجارة, وذلك لما يأتي:

    أولاً: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، قال الإمام البخاري في كتاب الزكاة في صحيحه: ( باب صدقة الكسب والتجارة؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، وقد روي في تفسيرها عن جماعة من السلف أن المراد بها التجارة, منهم مجاهد و الحسن ).

    ثانياً: قد وردت عدة أحاديث في أخذ الزكاة, من أموال التجارة لا تخلو من كلام، ومجموعها يدل أن لها أصلاً.

    ثالثاً: ويؤيد هذه الأحاديث ما ورد من آثار عن بعض الصحابة, في أخذ الزكاة من أموال التجارة عن عمر وصححه ابن حزم في المحلى، وضعفه الألباني , وعن ابن عمر عند البيهقي , وصححه ابن حزم وعن ابن عباس عند ابن عبد البر وصححه ابن حزم , ولم ينقل عن أحد من الصحابة ما يخالف قول عمر وابنه و ابن عباس ، بل استمر العمل والفتوى على ذلك في عهد التابعين، كما نقل عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب بأخذ الزكاة من عروض التجارة, وكذا اتفق فقهاء التابعين ومن بعدهم على القول بوجوب الزكاة في أموال التجارة, ونقل الإجماع على ذلك ابن المنذر و ابن عبد البر , و أبو عبيد , وهؤلاء قبل ابن حزم ، فجاء خلاف ابن حزم متأخراً عن الإجماع, قال الخطابي : وزعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر أن لا زكاة فيها, وهو مسبوق بالإجماع.

    وتبع أهل الظاهر من المتأخرين الشوكاني وشيخنا الألباني , والذي نرجحه هو اتباع مذهب الجمهور؛ لأنها أموال ثابتة ومقصودة للتنمية, بالاتجار فيها, وروح الشريعة يقتضي إيجاب الزكاة فيها؛ إذ هي داخلة تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم ), والتجار هم الأغنياء, وداخلة تحت عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]* لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ [المعارج:25]، فإنه يشمل جميع الأموال ولم يأتِ دليل من كتاب ولا سنة يعفي أموال تجارة المسلمين من هذا الحق وهو الزكاة, فقوله تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24], فهذا يشمل كل الأموال.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الضرائب

    السؤال: ما حكم الضريبة التي تأخذها الحكومة من الناس؟

    الجواب: فيها كلام أنها مكس أو غير مكس, أو هي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن في الأموال حقاً غير الزكاة )، وإذا أردت التوسع في هذه المسألة فارجع إلى كتاب الغياث لإمام الحرمين الجويني ، فإنه تكلم على هذا وأطال، وكذلك أظن أن عبد القادر عودة له كتاب في الأموال, تكلم في ذلك وأطال, وهو من باب أن الزكاة لها الأصناف الثمانية، قال إمام الحرمين الجويني : لو هاجمنا العدو, واقتضت المصلحة مدافعته بأموال الأغنياء دفعت؛ فإن ما ندفعه للحكومة في الحرب, وفي سد الثغور ومدافعة هذا العدو أقل مما لو انتصر علينا العدو فأخذ كل ما بأيدينا.

    وقال: قد تكون مصالح للدولة عامة، لا تستطيع أن تغطيها الدولة, إلا بأخذ أموال زائدة على الزكاة، فمن ذلك بناء المستشفيات, وبناء المدارس, والإنفاق على مدرسي الجامعات من الطب، وفتح الطرق وتعبيد الطرقات, وتأمين البلاد وأخذ القوة الكاملة؛ لدفع العدو الصائل, وهذه بحاجة إلى أموال, والله لو أن الحكومة كانت صحيحة تأخذ تلك الأموال, وتصرفها في مصارفها مع ما تأخذه من البترول وغيره من المعادن, فما أحسنها! وندفع ذلك ونحن راضون بهذا، ولكن نخاف أن الذي يبقى لهذه المصلحة مصلحة أسرة أو فئة معينة، وتكون أموالنا في البنوك الخارجية, وفي البنايات الضخمة الخاصة وغير ذلك, والله هذه لو صرفت في مصارفها فقد يكون لنا فيها الثواب, وعلينا أن نطيع حكومتنا.

    يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ) يعني، وسئل عبد الله بن عمر ، قالوا: النجدات النجدات, فرقة من الخوارج تغلبت, على جهة من البلاد وطلبت الأموال زكاة، فقيل لـابن عمر ، فقال: اصرفوها عليهم, وقيل لـابن عمر : إن الدولة الموجودة في ذلك الوقت تأخذ الأموال وتشرب بها الخمر, فهل ندفع الزكاة؟ قال: ادفعوا الزكاة إليهم، وقد برئت ذمتكم, فلا مانع من هذا.

    نحن قلنا: إن الزكاة قال أبو حنيفة: تجب في جميع الخارج، وأن الحكومة تأخذ الزكاة، والضرائب أكثر من ذلك, وإذا كانت الحكومة تصرفها في المصالح، ومعروف أن أموالاً تصرف في المصالح من هذه الضرائب, وإلا فكيف ستفتح الطرقات, وكيف ستبني المستشفيات, وكيف ستزود القوات الحربية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765799849