قال المصنف رحمه الله: [وأما المسألة الثانية: وهي تقدير النصاب بالخرص واعتباره به دون الكيل] معناه أنهم يذهبون ويخرصون التمر أو الثمر والعنب قبل الجمع والتصفية، فيقولون: هذه المزرعة زكاتها كذا وكذا، تقديراً لا كيلاً [فإن جمهور العلماء على إجازة الخرص في النخيل والأعناب حين يبدو صلاحها؛ لضرورة أن يخلي بينها وبين أهلها يأكلونها رطباً] لأن الإنسان يحتاج ليأكل من التمر والعنب قبل أن يكون زبيباً، وقبل أن يكون الرطب تمراً.
قال رحمه الله: [والسبب في اختلافهم في جواز الخرص؛ معارضة الأصول للأثر الوارد في ذلك] يعني أن الأقيسة تعارض الأحاديث [أما الأثر الوارد في ذلك وهو الذي تمسك به الجمهور فهو ما روي: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرسل عبد الله بن رواحة وغيره إلى خيبر فيخرص عليهم النخل )] أخرجه أحمد و أبو داود ، وهو حديث حسن.
[وأما الأصول التي تعارضه..] يعني الأصول الثابتة بأحاديث كثيرة تدل على أن هذا لا يجوز.. وتدل أنه يشبه الربا [فلأنه من باب المزابنة المنهي عنها] يقصد في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر [ وهو بيع الثمر في رءوس النخل بالثمر كيلاً، ولأنه أيضاً من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة] لأنه يقول له: عليك كذا وكذا.. وكأنه يستلمه في ذمته، هذا مذهب أبي حنيفة [ فيدخله المنع من التفاضل ومن النسيئة، وكلاهما من أصول الربا] قال: هذه الأحاديث تخالف ما ورد في الربا، وهي إن نظرنا فيها بالقياس فسنرى أنها من أصول الربا، وقالت الحنفية: إن الخرص ظن وتخمين وفيه غرر، وإنما كان جواز ذلك قبل تحريم الربا والقمار -أي أنه منسوخ- قال الخطابي رداً عليهم: العمل بالخرص ثابت وتحريم الربا والقمار والميسر متقدم، وبقي الخرص يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم طول عمره، وعمل به أبو بكر و عمر في زمانهما، وعامة الصحابة على تجويزه، ولم يذكر عن أحد منهم خلاف، وأما قول الحنفية: إنه ظن وتخمين فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار، انتهى كلام الخطابي .
أقول: وقد ثبت الخرص عن عتاب بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم.. -يعني جمع كرم- وثمارهم )، قال شيخنا ناصر الدين الألباني في الإرواء (3/282)، أخرجه أبو داود و الترمذي و البيهقي وقال الترمذي : حديث حسن من طريقين عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عتاب به، وأخرجه مالك عن ابن شهاب مرسلاً نحوه، قال: وهذا أصح. هذا كلام الترمذي .
لكنه اعتضد وإن كان فيه هنا إرسال والمرسل صحيح.
أقول: لكنه اعتضد بغيره من الأحاديث وبعمل الصحابة، قال الشوكاني في السيل (2/44): قد ثبت في خرص العنب والتمر أحاديث تقوم بها الحجة، بل ثبت في الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي : ( أنه صلى الله عليه وسلم خرص حديقة امرأة بنفسه ).
[ فلما رأى الكوفيون هذا مع أن الخرص الذي كان يخرص على أهل خيبر لم يكن للزكاة؛ إذ كانوا ليسوا من أهل زكاة] يعني الحديث الذي فيه إرسال عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر، لم يكن للزكاة وإنما هو في القسمة.
[قالوا: يحتمل أن يكون تخميناً؛ ليعلم ما بأيدي كل قوم من الثمار.
قال القاضي.. ] يعني ابن رشد [ أما بحسب خبر مالك فالظاهر أنه كان في القسمة لما روي أن عبد الله بن رواحة كان إذا فرغ من الخرص قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي ] متفق عليه من حديث ابن عمر.
[أعني في قسمة الثمار لا في قسمة الحب] الحب يعني: الذرة، وهذه لا يقسمونها، [وأما بحسب حديث عائشة الذي رواه أبو داود ..] في السنن وخلاصته أنه حديث ضعيف [فإنما الخرص لموضع النصيب الواجب عليهم في ذلك] فليست قسمة بل يخرصها عليهم، ولا يقول لهم: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي [ والحديث هو أنها قالت وهي تذكر شأن خيبر: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه) وخرص الثمار لم يخرجه الشيخان] يعني هذا الحديث [ وكيفما كان فالخرص مستثنىً من تلك الأصول] نعم، يعني إذا كانت الأحاديث ثابتة والأصول ثابتة فالخبر الثابت المخالف لها مقدم عليها؛ لأنه من باب القياس، وإذا تعارض النص والقياس فيسمى القياس: فاسد الاعتبار، وهذا مذهب أبي حنفية في ترك النصوص المخالفة للقياس.
[هذا إن ثبت أنه كان منه صلى الله عليه وسلم حكماً منه على المسلمين]، وقد ثبت في حديث عتاب أنه حكماً على المسلمين: [فإن الحكم لو ثبت على أهل الذمة ليس يجب إن يكون حكماً على المسلمين إلا بدليل والله أعلم.
ولو صح حديث عتاب بن أسيد ] قلنا: إنه صحيح بما له من الشواهد وعمل الصحابة [لكان جواز الخرص بيناً، والله أعلم، وحديث عتاب بن أسيد هو أنه قال: ( أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرص العنب وآخذ زكاته زبيباً، كما تؤخذ زكاة النخل تمراً ) وحديث عتاب بن أسيد طعن فيه؛ لأن راويه عنه هو سعيد بن المسيب وهو لم يسمع منه، ولذلك لم يجز داود خرص العنب.
قال المصنف رحمه الله: [واختلف من أوجب الزكاة في الزيتون في جواز خرصه] هل يخرص أم لا؟[ والسبب في اختلافهم: اختلافهم في قياسه في ذلك على النخل والعنب؛ والمخرج عند الجميع من النخل في الزكاة هو التمر لا الرطب] ما يخرجوه رطباً، يخرجوه بعد ما يصير تمراً [وكذلك الزبيب من العنب لا العنب نفسه] وهذا اتفقوا عليه [وكذلك عند القائلين بوجوب الزكاة في الزيتون هو الزيت لا الحب] أي: بعد أن يعصر [قياساً على التمر والزبيب.
وقال مالك في العنب الذي لا يتزبب، والزيتون الذي لا ينعصر: أرى أن يؤخذ منه حباً] يعني: أن بعض العنب لا يصير زبيباً، وهناك مثل يضرب للذي يجعل من نفسه عالماً وهو ليس بعالم، أخبرني شيخ لي قرأت عليه القرآن قال: كان شيخه في القرآن الذي درس عليه رجلاً عالماً، ولكنه أصيب في عقله، قال: فطلب مني أهل القرية؛ لأني أحسن الطلاب أن أكون مدرساً واستمر في التدريس، قال: فجاء إلي شيخي ونظر إلي وأنا في المدرسة قال: تزببت وأنت حصرم -الحصرم هو صغار العنب قبل أن ينضج- قال: فما عرفت ما قال؛ لأنه من تهامة وهو لا يعرف الحصرم ولا التزبب! قال: فكنت لا أعرف ما يقول، فهذا معنى التزبب، وهو أن يصير العنب زبيباً، ولكن بعض العنب لا يصير زبيباً .
الراجح في الزيتون هو أنه إذا كان الإنسان يحتاج إلى أكله قبل العصر فإنه يلحق بالعنب والرطب حتى يمكن المزارع من التصرف فيه..