بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آل سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [كتاب الزكاة. والكلام المحيط بهذه العبادة, بعد معرفة وجوبها, ينحصر في خمس جمل ], يعني: كتاب الزكاة كله ينحصر في خمس جمل.
[ الجملة الأولى: في معرفة من تجب عليه ] بيان من تجب عليه.
[ الثانية: في معرفة ما تجب فيه من الأموال ]، أي: الأموال التي تجب فيها الزكاة.
[ الثالثة: في معرفة كم تجب ] أفي كل مال؟ [ ومن كم تجب؟] كم تجب؟ ومن كم تجب؟ كم تجب؟ يعني: كم يكون المدفوع؟ وكم النصاب؟
[ الرابعة: في معرفة متى تجب؟ ومتى لا تجب؟ ]، يعني: الحول وعدم الحول.
[ الخامسة: معرفة لمن تجب؟ وكم يجب له؟ ] يعني: الأصناف الذين تدفع لهم.
وبهذا ينتهي كتاب الزكاة.
قال رحمه الله: [أما معرفة وجوبها فمعلوم من الكتاب والسنة والإجماع، ولا خلاف في ذلك], فمن جحدها فقد كفر, ولهذا لم يرَ الشيخ أن يتكلم على ذلك كثيراً.
الجملة الأولى: على من تجب الزكاة؟ أي: من هو الذي تجب عليه الزكاة؟ [وأما على من تجب؛ فإنهم اتفقوا على أنها], هذه شروط وجوب الزكاة التي اتفقوا عليها، أما الاختلاف سيأتي, اتفقوا أنها [على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك النصاب ملكاً تاماً], أن يملك النصاب ملكاً تاماً, وسيتكلم بعد ذلك في معنى الملك التام, وما هو الذي ينقص ملكه التام؟ وأنهم اختلفوا فيما إذا كان الملك لا يوصف بأنه تام.
[واختلفوا في وجوبها على اليتيم], والمراد باليتيم هنا الصبي الصغير, سواء كان يتيماً أو غير يتيم، إذا كان يملك مالاً, ليس المراد اليتيم فقط، إنما المراد الصغير مطلقاً إذا كان من أصحاب الغنى, [والمجنون والعبيد], والمجنون إذا كان ذا مال, والعبيد إذا كانوا أصحاب أموال وأذن لهم ساداتهم في التصرف, [وأهل الذمة], هل يدفع أهل الذمة الزكاة أو لا؟ [وناقص الملك مثل الذي عليه دين أو له دين], فهذا يسمى ناقص الملك, وفي المثل العامي: من كان رأس ماله الدين فغنمه الظباء، أي: الغزال, إذا كان رأس أموالك ديوناً عند الناس، وهم مماطلون تصبح البقالة فارغة من السلع [ومثال المال المحبوس الأصل], يعني الأرض الموقوفة, هل في خارجها الزكاة أو ليس في خارجها الزكاة، أو الأشجار الموقوفة؟
قال المصنف رحمه الله: [فأما الصغار فإن قوماً قالوا: تجب الزكاة في أموالهم وبه قال علي و ابن عمر , و جابر و عائشة من الصحابة], فقالوا: تجب الزكاة في أموال الصغار، [و مالك و الشافعي و الثوري و أحمد ]، أي: الأئمة الأربعة ما عدا أبا حنيفة , [ و إسحاق و أبو ثور وغيرهم من فقهاء الأمصار.
وقال قوم: ليس في مال اليتيم], أي: الصغير، [صدقة أصلاً, وبه قال النخعي و الحسن و سعيد بن جبير من التابعين.
وفرق قوم بين ما تخرجه الأرض، وبين ما لا تخرجه الأرض], أي: أن ما تخرجه يجب فيه الزكاة؛ لأنها أموال ظاهرة, قد تعلقت بها قلوب الفقراء, كأن يكون عندك مزرعة ولو كانت من دين, فالفقراء لا ينظرون إلا المزرعة فتتعلق قلوبهم بها [فقالوا: عليه الزكاة فيما تخرجه الأرض, وليس عليه الزكاة فيما عدا ذلك من الماشية والناضِ], والناض الدراهم والدنانير، [والعروض وغير ذلك, وهو أبو حنيفة وأصحابه.
وفرق آخرون بين الناضِ فقالوا: عليه الزكاة إلا في الناضِ]؛ لأنه مال خفي لا يطلع عليه غيره، فهو المسئول عنه بين يدي الله.
الراجح مذهب الأئمة الثلاثة؛ مالك و الشافعي و أحمد في وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون, وذلك لما يأتي:
الأول: عموم النصوص من الكتاب الدالة على وجوب الزكاة في أموال الأغنياء مطلقاً, من غير أن تفرق بين كبير وصغير, ومجنون وعاقل, وأن الزكاة حقٌ في المال لازم يدل على أن الزكاة حق في هذا المال, مثل قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ[الأنعام:141]، الآية، فهو نص عام يدل على أن الزكاة حق في المال, وكقوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ[المعارج:24]، وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[التوبة:103]، قال ابن حزم : فهذا عموم لكل صغير وكبير, وعاقل ومجنون, كلهم محتاجون إلى طهارة الله, وتزكيته إياهم, وكلهم مؤمنون, هذا ما دلت عليه عموم بعض الآيات القرآنية.
و جابر بن عبد الله , ولم يعرف لهم مخالف إلا رواية ضعيفة عن ابن عباس ، انظر: المجموع (5/276) والمحلى (5/201), والإرواء (3/258) وفقه الزكاة للقرضاوي (1/108).
قال رحمه الله: [ وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه أو لا إيجابها, هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية, هل هي عبادة كالصلاة والصوم ] فلا تجب إلا على البالغ العاقل, [ أم هي حقٌ واجب للفقراء على الأغنياء؟ فمن قال: إنها عبادة اشترط فيها البلوغ, ومن قال: إنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء, لم يعتبر في ذلك بلوغا ًمن غيره.
وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض أو لا تخرجه] فهذا كلام أبي حنيفة وجماعته, [ وبين الخفي والظاهر، فلا أعلم له مستنداً في هذا الوقت], يعني ليس له دليل ناطق, لكن قلنا: إن له علة، وهو تعلق قلوب الفقراء بالأموال الظاهرة.
قال المصنف رحمه الله: [وأما أهل الذمة، فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب, أعني: أن يؤخذ منهم مِثْلا ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء، وممن قال بهذا القول الشافعي و أبو حنيفة و أحمد و الثوري ]، أما الشافعي فأنا طالعت كتبه فلم أجد في المجموع أنه قال بهذا, ولكن من المحتمل أنها أخذت منهم فرضاً لما تغلب المسلمون على أرضهم، وتَغْلِب هم من النصارى: [ وليس لـمالك في ذلك قول، وإنما صار هؤلاء لهذا؛ لأنه ثبت أنه فعل عمر بن الخطاب بهم، وكأنهم رأوا أن مثل هذا هو توقيف, ولكن الأصول تعارضه].
لأنهم أولاً يطالبون بالإسلام، لكن لا مانع من اجتهاد الإمام، وأخذ الضرائب عليهم من أموالهم.
والراجح عدم وجوب الزكاة على النصارى؛ لأن من شرط الزكاة الإسلام.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما العبيد: فإن الناس فيهم على ثلاثة مذاهب: فقوم قالوا: لا زكاة في أموالهم أصلاً, وهو قول ابن عمر و جابر من الصحابة ]، لا يزكيها لا السيد ولا العبد, [ و مالك و أحمد و أبي عبيد من الفقهاء ]. فقالوا: لا زكاة في أموالهم.
[وقال آخرون: بل زكاة مال العبد على سيده], لأنه مالك للعبد وللمال، [وبه قال الشافعي فيما حكاه ابن المنذر و الثوري و أبو حنيفة و أصحابه.
وأوجبت طائفة أخرى على العبد في ماله الزكاة، وهو مروي عن ابن عمر من الصحابة, وبه قال عطاء من التابعين, و أبو ثور من الفقهاء، وأهل الظاهر أو بعضهم ].
يعني أن ابن عمر له قولان؛ ومعنى هذا القول: أن العبد هو الذي يخرج الزكاة.
[وجمهور من قال: لا زكاة في مال العبد، هم على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق], يعني: أن الكلام في زكاة العبد، هو الكلام في زكاة المكاتب.
[وقال أبو ثور : في مال المكاتب زكاة].
الراجح أن العبد لا تجب عليه الزكاة؛ لعدم الملك التام.
وتجب على سيده, إذاً رجحنا قول الشافعي ؛ لأن السيد مالك العبد والمال, له أن يعتق العبد، وله أن يبيعه, وله أن يأخذ المال من يده, إذاً ملك السيد تام؛ لأنه مالك العبد والمال, وكذلك لا تجب على المكاتب؛ لعدم الملك التام؛ لأنه إذا عجز عن الوفاء, عجز بنفسه ما استطاع أن يجد طرق كسب, أو عجَّز نفسه، ورأى أن بقاءه في ملك السيد خير له من أن يستقل, فهذا عجَّز نفسه, إذا عجز عن الوفاء، أو عجَّز نفسه عاد هو وماله إلى ملك سيده, وقد روي مرفوعاً: (ليس في مال المكاتب زكاة)، وهو ضعيف, وصح موقوفاً عن جابر بن عبد الله, ليس في مال المكاتب والعبد زكاة, أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال.
إذاً هذا الموقوف له وجهه؛ لأنه يقول: النفي هذا لا يصح، وقد يكون عنده في ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم شيء, وكما صح نحوه عن ابن عمر عند البيهقي موقوفاً، وقريباً منه عند ابن أبي شيبة ، انظر الإرواء (3/252).
قال رحمه الله: [وسبب اختلافهم في زكاة مال العبد: اختلافهم فيه هل يملك العبد ملكاً تاماً، أو غير تام؟ فمن رأى أنه يملك ملكاً تاماً، وأن السيد هو المالك, إذ كان لا يخلو مال من مالك, قال: الزكاة على السيد, ومن رأى أنه لا واحد منهما يملكه ملكاً تاماً، لا السيد، إذ كانت يد العبد هي التي عليه, لا يد السيد، ولا العبد أيضاً؛ لأن للسيد انتزاعه منه, قال: لا زكاة في ماله أصلاً], لكن هذا قول ضعيف, [ومن رأى أن اليد على المال توجب الزكاة؛ لمكان تصرفها فيه تشبيهاً بتصرف يد الحر، قال: الزكاة عليه ], يعني: على العبد, [لا سيما من كان عنده أن الخطاب العام يتناول الأحرار والعبيد], هذا صحيح وهو أن خطاب الله يتناول الأحرار والعبيد, ولكن هنا علة صارفة, وهو أن العبد لا يملك المال ملكاً تاماً فصرف عنه الخطاب، [ وأن الزكاة عبادة تتعلق بالمكلفين؛ لتصرف اليد في المال ], هاتان علتان اقترن بهما مانع.
قال المصنف رحمه الله: [وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم], من عنده مثلاً بقالة أخذها من التجار بمليون, وأصبح يدير المليون ولا يأكل إلا منه، وليس فيها إلا ذلك المال الذي أخذه من التجار، فالملك نرى أنه لصاحب المعرض.
[أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم، وبأيديهم أموال، تجب فيها الزكاة, فإنهم اختلفوا في ذلك, فقال قوم: لا زكاة في مال حَبْاً كان أو غيره حتى تخرج منه الديون], فمثلاً: رجل عنده أرض فقال: أنا أريد أن أقيم مزرعة, فأخذ ماطوراً وأخذ مضخة وأخذ كذا بمليون, وأنتجت الأرض، فتحصل منها خمس مائة ألف, وما انتهت ديونه، إذاً: ليس عليه زكاة, حتى تنتهي ديونه.
[ فإن بقي ما تخرج فيه الزكاة زكى وإلا فلا، وبه قال الثوري و أبو ثور , و ابن المبارك ], و أحمد [وجماعة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الديون لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها ], وهذا بناءً منه على قاعدته: وهي تعلق قلوب الفقراء بها, [وقال مالك : الدين يمنع زكاة الناض فقط], أي: يمنع زكاة الدراهم والدنانير فقط, أما الماشية وغيرها فلا يمنعها.
[إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع], يعني إذا كان له عروض أخرى ستؤدي هذا الدين فيزكي على الناض, أي أنه يزكي على جميع الأموال.
[وقال قوم بمقابل القول الأول, وهو أن الدين لا يمنع الزكاة أصلاً], ولو عليه مليونان, ويتجر بمليون، يخرج من المليون, ولا ينظر إلى ما عليه من الديون]، وهو قول الشافعي في الجديد.
قال رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم, اختلافهم هل الزكاة عبادة, أو حق مرتب في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدين ], يقول: لأن هذا حق متعلق بالمال؛ و[ لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين ], فمثلاً لو أقمت بقالة بمليون، فستجب عليك الزكاة بعد سنة, ولكن البقالة التي أقمتها بمليون وهي حق التاجر الكبير الذي أقرضك قبل فتح البقالة، فحقه سابق على حق الفقراء.
[ وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي بيده المال ومن قال: هي عبادة قال: تجب على من بيده المال؛ لأن ذلك هو شرط التكليف ], سواء عليه دين أو ليس عليه دين, فتجب عليه الزكاة, وهذا كلام الشافعي [لأن ذلك هو الشرط التكليفي، وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف، سواء كان عليه دين أو لم يكن.
وأيضاً فإنه قد تعارض هنالك حقان]، وهذا الاستدلال لـلشافعي، [حق لله وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يقضى].
وصاحب الكتاب سيرد على الشافعي فيقول: [ والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المديان ], وهو الذي عليه ديون؛ [ لقوله عليه الصلاة والسلام فيها: (صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ]، وهذا الرجل الذي ارتكبته الديون أكثر من ماله, لا يعتبر غنياً بل هو ممن تدفع له الزكاة؛ لسببين اثنين:
السبب الأول: الفقر.
والثاني: أنه غارم.
ولذلك أقول: ما رجحه ابن رشد من إسقاط الزكاة عن المدين, مطلقاً في الأموال الباطنة والظاهرة هو الراجح, وذلك لما يأتي:
أولاً: ملكية المدين ضعيفة ناقصة؛ لتسلط الدائن عليه ومطالبته بدينه.
الثاني: المدين ديناً يستغرق النصاب أو ينقصه ممن يحل له أخذ الزكاة؛ لأنه من الفقراء, ولأنه من الغارمين, فكيف تجب عليه الزكاة وهو مستحق لها؟!
الثالث: إن الصدقة لا تشرع إلا عن ظهر غنى، ولا غنى عند المدين, وهو محتاج إلى قضاء الدين, ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى)، رواه البخاري في كتاب الوصايا, تعليقاً بصيغة الجزم, انظر الفتح (5/443).
وقال الحافظ في الفتح (3/346) وهو بهذا اللفظ عند أحمد عن أبي هريرة ، والحديث أورده البخاري في موضعين، لكن أورده تاماً في الوصايا, فما أمكننا أن ننقله تاماً إلا من كتاب الوصايا, وهذا الكلام أورده مرة في كتاب الزكاة، ولكنه غير تام فتكلم بهذا الكلام عليه, ولم يتكلم به في ذلك المحل, فعزوناه إلى محل ما أخذنا اللفظ، وعزونا الكلام إلى المحل الذي أخذنا منه كلام ابن حجر انتهى كلام الحافظ .
وروى أبو عبيد و البيهقي , أن عثمان خطب على المنبر وقال: هذا شهر زكاتكم, فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم, وفي لفظ عند مالك : من كان عليه دين فليقض دينه، وليزكي بقية ماله.
إذاً نحن هنا رجحنا خلاف مذهب الشافعي ، وهو أنه لا زكاة على صاحب الدين, فالترجيح تابع للدليل لا تابع للأئمة.
[ وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب, وبين الناض وغير الناض, فلا أعلم له شبهة بينة, وقد كان أبو عبيد يقول: إنه إن كان لا يعلم أن عليه ديناً إلا بقوله لم يصدق, وإن علم أن عليه ديناً لم يؤخذ منه، وهذا ليس خلافاً لمن يقول بإسقاط الدين بالزكاة, وإنما هو خلاف لمن يقول: يُصدّق الدائن كما يصدق في المال].
مثلاً: رجل معروف أن له أرض فلان, وليس لديه شيء, فذهب إلى أحد التجار، وأقام له بقالة, ويعرف الناس بأنه ليس لديه شيء, ومعروف أن البقالة دين, وقد يكون ذلك المدين يعرف بأن عنده أموالاً، ولكن ارتكبته الديون بعد ذلك، وأصبح مديناً، فهذا نقول له: إن كان دينك معروفاً ظاهراً، فأتى إليك العامل على الزكاة من الحكومة, وقد عرف الناس أن هذا الرجل عليه ديون، فهذا لا يطلب منه بينة ويأخذ بقوله.
أما إذا كان لا يعرف أن عليه ديوناً، فلا بد من إخراج مستندات بهذه الديون؛ لأن هذا مال تعلق به حق الفقراء ظاهراً, فلا يسقط إلا بمستند, مثل: أن يدعي عليك رجل بأن له عندك ألف ريال, فتقول: أنا قد سددت ذلك, فنقول له: اعترفت وأقررت له بالمال وادعيت أنك سددته، فعليك إخراج سند السداد.
فالإمام أبو عبيد موافق أن الدين يسقط الزكاة, ولكنه يقول: إما أن يكون الدين ظاهراً فلا قول فيه, أو يكون الدين غير ظاهر فلا بد من إثباته حتى لا تضيع حقوق الناس.
وما قاله أبو عبيد هو الراجح؛ لأن من وجب عليه حق, فادعى أداءه لم يقبل إلا ببينة, ولا يقبل مجرد دعواه, والغني وجبت عليه الزكاة التي هي حق المستحقين. ثلاثين سنة وهو عند صاحبه تزكيه لعشرين سنة. وهو القول الثاني للشافعي و أحمد له قولين.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما المال الذي هو في الذمة -أعني: في ذمة الغير- وليس هو بيد المالك وهو الدين، فإنهم اختلفوا فيه أيضاً؛ فقوم قالوا: لا زكاة فيه وإن قبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له، وهو الحول، وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال الليث : أو هو قياس قوله، وقوم قالوا: إذا قبضه زكاه لما مضى من السنين.
وقال مالك : يزكيه لحول واحد، وإن أقام عند المديان سنين، إذا كان أصله عن عوض], يعني: بيعاً وشراء وكذا.
أقول: الراجح أن الدين ينقسم إلى قسمين:
الأول: الدين على موسر غني مقر لك بحقك، كالأموال الدائرة في المعاملات, فهذه حكمها حكم المال المقبوض تجب الزكاة فيها، وتدفع عنها الزكاة، كسائر أمواله.
مثلاً إنسان عنده معرض, شخص يأخذ منه بمليون، وآخر يأخذ منه بمليونين, وهذا يأخذ بخمسمائة ألف, وهكذا، فهذا يسدد بعد أسبوع، وهذا يسدد بعد شهر، ويأخذ بدله، فهذه أموال دائرة, وكأنها مقبوضة بيده، فعند حلول الزكاة يحسب ما عنده في المعرض، وما عنده من مال مكتنر، وما عند الناس من أموال دائرة، كأنها أموال حاضرة فيخرج زكاتها.
الثاني: الأموال غير المقدور على استيفائها, أموال لا يقدر الدائن أن يستوفيها, كأن تكون الأموال على فقير, أو إنسان جاحد, يقول لك: ليس لك شيء عندي, وليس لك بينة ولا مستندات، فهذه الأموال لا تجب فيها الزكاة إلا بعد استيفائها، ومضي حول عليها؛ لأنها أموال غير نافعة, هذا الذي يقال فيه: من كان رأس ماله الدين فغنمه الضباء, يعني الغزال, هل يمسكه؟! يقول: إن معه قطيع من الغزال فكيف يمسكه؟ لأنها أموال غير نافعة, والملك فيها غير تام, بل ناقص؛ لعدم تمكن صاحبها من التصرف فيها بوجه ما من الوجوه.
[وأما إذا كان عن غير عوض مثل الميراث], أي: أن معه ميراث عند أخيه ولم يعطه شيئاً, [ فإنه يستقبل به الحول, وفي المذهب تفصيل في ذلك.
ومن هذا الباب اختلافهم في زكاة الثمار المحبسة الأصول, وفي زكاة الأرض المستأجرة, على من تجب زكاة ما يخرج منها؟ هل على صاحب الأرض أو صاحب الزرع؟
ومن ذلك اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت من أهل الخراج إلى المسلمين, وهم أهل العشر، وفي الأرض العشر، وهي أرض المسلمين, إذا انتقلت إلى الخراج, أعني: أهل الذمة, وذلك أنه يشبه أن يكون سبب الخلاف في هذا كله, أنها أملاك ناقصة]، وستأتي كل واحدة من هذا الثلاث بتفصيل، وذكر الخلاف, وعند ذلك سنكتب فيه الراجح.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر