بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد, وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
فقال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب أحكام الميت, والكلام في هذا الكتاب - وهي حقوق الأموات على الأحياء- ينقسم إلى ست جمل:
الجملة الأولى : فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار وبعده.
الثانية : في غسله.
الثالثة : في تكفينه.
الرابعة : في حمله واتباعه.
الخامسة : في الصلاة عليه.
السادسة : في دفنه ].
قال: [ الباب الأول: فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار وبعده.
ويستحب أن يلقن الميت عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم شهادة لا إله إلا الله ) ], الحديث أخرجه الإمام مسلم .
[ وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر قوله: لا إله إلا الله دخل الجنة) ]، أخرجه أحمد و أبو داود , وهو حديث صحيح.
قال شيخنا في أحكام الجنائز: وليس التلقين ذكر الشهادة بحضرة الميت وتسميعه إياها, بل هو أمره بأن يقولها, خلافاً لما يظن البعض, والدليل: حديث أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: عاد رجلاً من الأنصار, فقال: يا خال! قل: لا إله إلا الله), الحديث، أخرجه أحمد بإسناد صحيح.
[ واختلفوا في استحباب توجيهه إلى القبلة: فرأى ذلك قوم, ولم يره آخرون, وروي عن مالك أنه قال في التوجيه: ما هو بالأمر القديم ], يعني: لم يفعله السلف, [ وروي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك, ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة ولا من التابعين. أعني: الأمر بالتوجيه ].
قال الشيخ ناصر في أحكام الجنائز: التوجيه إلى القبلة لم يصح فيه حديث. يعني: توجيه الميت حال الاحتضار إلى القبلة لم يصح فيه حديث, بل كره سعيد بن المسيب التوجيه إليها, وقال: أليس الميت امرءاً مسلماً؟! أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بسند صحيح.
هنا في تعليق لـحلاق : يقول: قلت: يستحب توجيه المحتضر إلى القبلة؛ للحديث الذي أخرجه أبو داود و النسائي و الحاكم في المستدرك عن عبيد بن عمير , عن أبيه أنه حدثه وكانت له صحبة: (أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ قال: هن تسع. فذكر معناه, زاد: وعقوق الوالدين المسلمين, واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسن, وقد حسنه الألباني في صحيح أبي داود .
وكأن الشيخ لا يرى هذا، قبلتكم أحياءً. يعني في الصلاة, وأمواتاً يعني في القبر, ولم يره في الاحتضار, ولهذا قال: لم يصح فيه حديث؛ لأنه لم ير هذا الحديث عند الاحتضار, وإنما رآه في القبر.
[ فإذا قضى الميت غمض عيناه، ويستحب تعجيل دفنه؛ لورود الآثار بذلك ].
أورد حلاق أثرين ضعيفين وهما:
أولاً: حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا علي ! ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجد لها الكفؤ), ولكن الحديث ضعيف, وذكر حديثاً آخر وهو كذلك ضعيف عن الحصين بن وحوح : (أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده, فقال: إني لأرى طلحة إلا قد حدث به الموت, فآذنوني وعجلوا؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله), وهو حديث ضعيف.
ولهذا يغني عنهما: حديث أبي هريرة : (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه, وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ), متفق عليه.
ثم قال المؤلف: [ إلا الغريق ]، يعني: ما يسن الإسراع.
[ إلا الغريق؛ فإنه يستحب في المذهب تأخير دفنه؛ مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته.
قال القاضي -المؤلف- وإذا قيل هذا في الغريق فهو أولى في كثيرٍ من المرضى، مثل الذين يصيبهم انطباق العروق ]. يعني: مرض السكتة [ وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء, حتى لقد قال الأطباء: إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاثة أيام ]؛ لأن بعض الناس يموت منه الدماء ويكون النبض باقياً, لكنه لا يتنفس, ويعرفون بدخوله في غرفة الإنعاش.
[الباب الثاني في غسل الميت: ويتعلق بهذا الباب فصول أربعة:
منها في حكم الغسل، ومنها في من يجب غسله من الموتى, ومن يجوز أن يغسل, وما حكم الغاسل, ومنها في صفة الغسل.
الفصل الأول في حكم الغسل:
وأما حكم الغسل فإنه قيل فيه: إنه فرض على الكفاية]. وبه قال الشافعي و أحمد و أبي حنيفة و مالك في أحد قوليه.
[وقيل: سنة على الكفاية, والقولان كلاهما في المذهب]. يعني: أنه فرض كفاية، أو سنة كفاية, كلاهما في المذهب.
والقول بأنه فرض كفاية هو قول الأئمة الثلاثة.
[ والسبب في ذلك: أنه نقل بالعمل لا بالقول والعمل ليس له صيغة تفهم الوجوب أو لا تفهمه ]. يعني أن غسل الميت نقل بالفعل ولم ينقل بالقول, والفعل لا يدل على الوجوب, وليس له صيغة تدل على الوجوب.
[وقد احتج عبد الوهاب لوجوبه بقوله صلى الله عليه وسلم] إذاً: المؤلف رجع وذكر أنه ذكر بسبب قول, [ وقد احتج عبد الوهاب لوجوبه بقوله في بنته: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً )، وبقوله في المحرم: ( اغسلوه )], (ولا تجعلوا معه طيباً, ولا تغطوا رأسه,)، [فمن رأى أن هذا القول خرج مخرج التعليم لصفة الغسل لا مخرج الأمر به لم يقل بوجوبه], يقول: أنه هذا الأمر ليعلمهم كيف يغسلوا، وليس ليأمرهم بالغسل, [ومن رأى أنه يتضمن الأمر والصفة قال بوجوبه].
أقول: الراجح وجوب غسل الميت على الكفاية؛ للأمر به في المحرم وفي غسل ابنته زينب , ولأن ظاهر السياق يتضمن المعنيين اللذين أشار اليهما المؤلف, يعني: الأمر والصفة.
[ الفصل الثاني: فيمن يجب غسله من الموتى.
أما الأموات الذين يجب غسلهم, فإنهم اتفقوا من ذلك على غسل الميت المسلم الذي لم يقتل في معترك حرب الكفار.
واختلفوا في غسل الشهيد وفي الصلاة عليه, وفي غسل المشرك.
فأما الشهيد, أعني: الذي قتله في المعترك المشركون, فإن الجمهور على ترك غسله، ومنهم الأئمة الأربعة], وقولهم هو الراجح؛ لتوفر الأدلة عليه, ولأنها ظاهرة، [ لما روي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر بقتلى أحد, فدفنوا بثيابهم, ولم يصل عليهم)], أخرجه البخاري ، [وكان الحسن و سعيد بن المسيب يقولان: يغسل كل مسلم؛ فإن كل ميت يجنب], وهذا كلام الله أعلم كيف يجنب؟!
[ولعلهم كانوا يرون أن ما فعل بقتلى أحد, كان لموضع الضرورة]، يعني: لكثرتهم [ أعني المشقة في غسلهم, وقال بقولهم من فقهاء الأمصار: عبيد الله بن الحسن العنبري .
وسئل أبو عمر فيما حكى ابن المنذر عن غسل الشهيد، فقال: قد غسل عمر وكفن وحنط وصلي عليه, وكان شهيداً يرحمه الله].
إذاً: هذا ليس فيه دلالة على من قال: إن من قتل في المعركة أنه شهيد لا يغسل ولا يصلى, بل فيه دلالة على أن من قتل في غير المعركة فإنه وإن كان شهيداً فإنه يغسل ويصلى عليه.
[ واختلف الذين اتفقوا على أن الشهيد في حرب المشركين لا يغسل في الشهداء؛ من قتل اللصوص, أو غير أهل الشرك, فقال الأوزاعي و أحمد وجماعة: حكمهم حكم من قتله أهل الشرك, وقال الشافعي ومالك: يغسل].
والراجح أن عدم الغسل خاص بمن قتل في المعركة في حرب المشركين؛ لأنه هو الذي نُقل عدم غسله, وأما غيره فعلى الأصل, ويؤيد هذا غسل عمر فإنه قتل شهيداً في غير المعركة, فغسل وكفن وحنط وصلي عليه.
فإن قيل: هل يغسل الشهيد الذي قتله اللصوص في معركة؟
فالجواب: هذه ليست معركة بل اللصوص يأتون إلى البيت حتى يأخذوا ماله ويقتلوه.
كذلك أيضاً الصحابي الذي رمي وهو سعد بن معاذ ، رمي في المعركة ولكنه بقي أياماً فغسل وصلي عليه, فهذا خاص بمن في المعركة مباشرة.
فإن قيل: كيف نغسل من تقطع لحمه؟
فيقال: هذا حكمه أنه إذا لم يمكن غسله بأن صار لحماً، فإن أمكن أن نيممه يممناه, وإن لم يمكن أن نيممه صلينا عليه هكذا وحنطناه.
وهذا تكلم عليه العلماء, ولكن لم يذكره المؤلف، فقال: وإذا لم يمكن غسل الميت, كمن أصابه الجدري -مرض كان يأتي فيمزق جسده- قالوا: فييمم, ويصلى عليه, فمن لم يمكن غسله لمرض نزل به، أو لما سيأتي من عدم وجود محرم له أو رجال، أو محرم لها أو نساء.
فإن قيل: فغسل الذي يقتل في معركة حرب الخوارج؟
فيقال: هذا تكلم عليه صاحب المغني وغيره, وتكلموا عن حرب أهل العدل والبغاة، وتكلموا في حرب في ما كان أيام الجمل, والراجح أنهم يغسلون؛ لأنه في حرب المشركين, لكن نقلوا عن الصحابة أنهم ما غسلوهم, ولا سيما في حرب الجمل فقالوا: لعل ذلك لكثرة القتلى, ونقلوا أن علياً كان لا يغسل قتلاه, وأن عماراً قال: لا تغسلوني, فإن لي خصوماً أريد أن أخاصمهم يوم القيامة, يعني: يخاصمهم ودمه عليه, فهذا في الجهة التي هي أهل العدل, الذين معهم الحق, وأما الجهة التي ليس معها الحق, وتسمى بغاة, فقالوا: إنهم كذلك على حسب اعتقادهم لأنهم يرون أنه أهل الحق, لكن الراجح أن ذلك خاص بمن قتل في حرب المشركين, وأن هؤلاء الذين لم يغسلوا في حرب الجمل لعله لكثرة القتلى فلم يتمكنوا من غسلهم, كما قال ابن الزبير : اقتلوني و مالكاً معي, لما تضارب هو و الأشتر , فكان ابن الزبير يمسك الخطام, ويقول:
[ اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي ].
ونسي أن يقول الأشتر , قال الأشتر لو قال: الأشتر؛ لنزلت علي أكثر من مائة سيف, لأنهم يعرفون, لو قال: الأشتر ، ما قال: مالك ، وهو مشهور بـالأشتر , لنزلت عليه السيوف.
فإن قيل: فهل يغسل الذي يقتل في فلسطين في مظاهرة يراجم اليهود بالحجارة؟
فيقال: هذا ليس قتالاً.
[ وسبب اختلافهم هو هل الموجب لرفع حكم الغسل هو الشهادة مطلقاً أو الشهادة على يد الكفار؟
فمن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة مطلقاً، قال: لا يغسل كل من نص عليه صلى الله عليه وسلم: أنه شهيد, ممن قتل]، يعني هناك أحاديث نصت على شهادة كثير، فمن قال: إن السبب الشهادة قال: لا يغسلون.
فعن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قتل دون ماله فهو شهيد, ومن قتل دون دينه فهو شهيد, ومن قتل دون دمه فهو شهيد, ومن قتل دون أهله فهو شهيد,)، وهو حديث صحيح, أخرجه النسائي و ابن ماجه و أبو داود .
وكذلك أخرج مالك في الموطأ و أبو داود و النسائي عن جابر بن عتيق ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه, فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: غلبن عليك يا أبا الربيع ، فصاح النسوة وبكين، فجعل ابن عتيق يسكنهن, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن، فإذا وجبت فلا تبكين باكية, قال: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: الموت, قالت بنته: والله إني كنت لأرجو أن تكون شهيداً، فإنك كنت قد قضيت جهازك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته, وما تعدون الشهادة؟ قالوا: القتل في سبيل الله, قال: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله, المطعون, والمبطون, والغريق, والحريق, وصاحب ذات الجنب, والذي يموت تحت الهدم, والمرأة تموت بجمع شهيدة ), وهو حديث صحيح. فهذه الأحاديث تدل على أن هؤلاء كلهم شهداء.
ومنها ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهادة فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد, ومن مات في سبيل الله فهو شهيد, ومن مات في الطاعون فهو شهيد, ومن مات في البطن فهو شهيد), وفي رواية: ( والغريق شهيد ).
قال النووي في المجموع: الشهداء الذين لا يموتوا بسبب حرب الكفار, كالمبطون, والمطعون, والغريق, وصاحب الهدم, والغريب, والميتة في الطلق, فهؤلاء يغسلون ويصلون عليهم, بلا خلاف في المذهب, بعضهم يقول: بلا خلاف ويطلقون، فقد يكون في المذهب خلاف.
[ ومن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة من الكفار قصر ذلك عليهم.
وأما غسل الكافر، فكان مالك يقول: لا يغسل المسلم والده الكافر, ولا يقبره، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه], وبه قال أحمد ، [وقال الشافعي : لا بأس بغسل المسلم قرابته من المشركين ودفنهم, وبه قال أبو ثور و أبو حنيفة وأصحابهم.
قال أبو بكر بن المنذر : ليس في غسل الميت سنة تتبع, وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمر بغسل عمه لما مات)], فهذا يعني: أنه غسل عمه لما مات, فقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن علي قال: (لما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب بكى, ثم قال لي: اذهب, فاغسله وكفنه، قال: ففعلت ثم أتيت, فقال لي: اذهب فاغتسل).
وكذلك أخرج أبو داود و البيهقي قال: (لما مات أبو طالب أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك الشيخ الضال قد مات, قال: انطلق فواره, ولا تحدث حدثاً حتى تأتيني, فانطلقت, فواريته، فأمرني فاغتسلت-يعني أمره بالغسل- فدعا لي بدعوات ما يسرني ما على الأرض بهن من شيء), فهذا الحديث ليس فيه أنه أمره أن يغسله, وهو حديث صحيح. إلا أنه أمره أن يغتسل هو.
الشيخ: في الحديث الأول لم يتكلم عليه من حيث أنه صحيح أو ضعيف.
وهذا فيه (فانطلقت فأمرني فاغتسلت, فدعا لي بدعوات ما يسرني ما على الأرض بهن من شيء), وليس فيه فأمرني أن أغسله. وهنا فائدة وهي أن الراجح مشروعية غسل القريب الكافر. وتؤخذ المشروعية من قوله: فأمرني فاغتسلت, أخذناها من الحديث الصحيح, ولم أخذناها من الحديث الذي سكت عنه, فيأخذ ذلك من قول علي : فأمرني فاغتسلت, فإن الاغتسال يشرع من غسل الميت, ولم يشرع من دفنه, كما يدل على ذلك الزيادة التي عند أحمد بسند صحيح, وكان علي إذا غسل الميت اغتسل.
قال في أحكام الجنائز صفحة مائة وأربعة وثلاثين: لم يستدل بحديث علي الأول, وإنما استدل بقوله: أمرني فاغتسلت, واستدل بالزيادة التي بسند صحيح. كأنه لم يثبت عنده الحديث الأول, فنحن تبعناه في ذلك فاستدلينا على المشروعية بالحديث الثاني، ولم نستدل بالحديث الأول.
فالاغتسال يشرع من غسل الميت ولا يشرع من دفنه, كما في الحديث: اذهب فواره، قال: فواريته, فأمرني فاغتسلت, كذا؟ فهل الغسل من المواراة, أو من الغسل؟
الجواب: من الغسل, لأن الغسل لا يشرع من الدفن, وإنما من الغسل, (من غسل ميتاً فليغتسل), ويدل على ذلك أن علياً كان بعد ذلك إذا غسل ميتاً اغتسل.
[ وسبب الخلاف: هل الغسل من باب العبادة أو من باب النظافة؟ فإن كانت عبادة لم يجز غسل الكافر, وإن كانت نظافة جاز غسله ].
قال: [ الفصل الثالث: فيمن يجوز أن يغسل الميت.
وأما من يجوز أن يغسل الميت, فإنهم اتفقوا على أن الرجال يغسلون الرجال, والنساء يغسلون النساء, واختلفوا في المرأة تموت مع الرجال, أو الرجل يموت مع النساء, ما لم يكونا زوجين, على ثلاثة أقوال ], الكتاب ما عرج على المحرم, مثل ما لو مات رجل وعنده محارمه، ولم يكن هناك رجل، إلا أنها تؤخر عن الرجال, ولكنها تغسل محرمها إذا لم يكن هناك رجال, فهو لم يتكلم على هذه المسألة, ولكن حكم المحرم أنها تغسل قريبها من الرجال, المرأة المحرم تغسل قريبها من الرجال, والرجل يغسل قريبته من النساء، ولكن ذلك يكون عند عدم وجود الرجال, فإن وجد الرجال فيقدم أولاً الأقارب, فإن لم يكن هناك أقارب, فالرجال غير الأقارب, فإن لم يكن هناك رجال غير أقارب, فالمحارم.
ثم هل يغسل من فوق ثوب, أو ييمم، أو لا يغسل؟ هذا الخلاف, قال: [فقال قوم: يغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق الثياب]، وهو قول لا بأس به, [وقال قوم: ييمم كل واحد منهما صاحبه, وبه قال الشافعي و أبو حنيفة وجمهور العلماء, وقال قوم: لا يغسل واحد منها صاحبه, ولا ييممه، وبه قال الليث بن سعد , بل يدفن من غير غسل].
قال: [ وسبب اختلافهم: هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر، أو الأمر على النهي, وذلك أن الغسل مأمور به, ونظر الرجل إلى بدن المرأة, والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه, فمن غلب النهي تغليباً مطلقاً، أعني لم يقس الميت على الحي في كون طهارة التراب له بدلاً من طهارة الماء, عند تعذرها, قال: لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه, ومن غلب الأمر على النهي قال: يغسل كل واحد منهما صاحبه]، يعني من فوق الثياب, [أعني غلب الأمر على النهي تغليباً مطلقاً.
ومن ذهب إلى التيمم]، جمع، [فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض], لأنه إذا يممه لأنه يجوز له النظر إلى هذه المواضع, [وذلك أن النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكلا الصنفين عند الحاجة ولذلك رأى مالك أن ييمم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط, يعني الكفين, لكون ذلك منها ليسا بعورة, وأن تيمم المرأة الرجل إلى مرفقيه], على القول بالتيمم إلى المرفقين, [لأنه ليس من الرجل عورة إلا من السرة إلى الركبة على مذهبه, فكانت الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند من قال به هي تعارض الأمر والنهي, فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم, وهو تشبيه فيه بعد, ولكن عليه الجمهور].
على أنه يعني: كما أن هناك ضرورات تنقل عبادة الوضوء وعبادة الغسل من الماء إلى التراب, ضرورات حسية ومعنوية, فهنا ضرورة معنوية نقلته إلى التراب.
ويصح أن نقول يغسل ونقيسه على التداوي. لكن الراجح مذهب الجمهور؛ لأنه وارد فيه التيمم فقلنا عند ذلك: بما أن التيمم يقوم مقام الطهارتين عند عدم القدرة على استعمال الماء لمرض، أو عدم وجوده، أو عدم وجود ثمنه, أو ارتفاع ثمنه- يعني إذا كان بثمن مرتفع كثير- فالراجح أنه يلحق به مسألة عدم وجود من يغسل الرجل من الرجال أو محارمه, وعدم وجود من يغسل المرأة من النساء أو محارمها, والتيمم يكون في الوجه والكفين لهما, كما مر ترجيحه في باب التمم.
[ وأما مالك فاختلف في قوله في هذه المسألة, فمرة قال: ييمم كل واحد منهما صاحبه قولاً مطلقاً، ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم], كأنه أشار هنا إلى المحارم لكن الإشارة بعيدة, لكن التفصيل موجود في كتاب المجموع, ففصل أن المحارم يغسلونه، وأنهم كما يجوز لهم نظره يجوز لهم أن يغسلوه, [ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم, ومرة فرق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء], فمذهبه التفصيل كما أشرت إليه, [فيتحصل عنه أن له في ذوي المحارم ثلاثة أقوال].
فمرة قال: المحارم لا يغسلوه, ومرة قال: النساء يغسلن الرجال ولا يغسل الرجال النساء, ومرة قال: يغسل الرجال الرجال، والنساء النساء, تلك إشارة بعيدة على كلامه, [أشهرها], يعني: هذه الثلاث [أنه يغسل كل واحد منهما صاحبه على الثياب], يعني: المحارم، [والثاني: أنه لا يغسل أحدهما صاحبه, ولكن ييممه مثل قول الجمهور في غير ذي المحارم. والثالث: الفرق بين الرجال والنساء, يعني تغسل المرأة الرجل، ولا يغسل الرجل المرأة.
فسبب المنع أن كل واحد منهما لا يحل له أن ينظر في موضع الغسل من صاحبه كالأجانب سواء, وسبب الإباحة أنه موضع ضرورة، وهم أعذر في ذلك من الأجنبي], يعني النساء, [وسبب الفرق بين أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال, بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال إليهن، ولم يحجب الرجال عن نظر النساء.
وأجمعوا -بعد ذلك- من هذا الباب على جواز غسل المرأة زوجها، واختلفوا في جواز غسله إياها], أن الرجل يغسل زوجته، [فالجمهور على جواز ذلك, وقال أبو حنيفة : لا يجوز ذلك], أي: لا يجوز للرجل أن يغسل زوجته, [وسبب اختلافهم هو تشبيه الموت بالطلاق], فـأبو حنيفة يقول: الموت يشبه الطلاق, إذا ماتت زوجته فكأنه طلقها, [فمن شبهه بالطلاق قال: لا يحل أن ينظر إليها بعد الموت, ومن لم يشبهه بالطلاق -وهم الجمهور- قال: إنما يحل له من النظر إليها قبل الموت], يعني: يحل له بعد الموت, [وإنما دعا أبو حنيفة أن يشبه الموت بالطلاق؛ لأنه رأى أنه إذا ماتت إحدى الأختين حل نكاح الأخرى كالحال فيها إذا طلقت], وهذا تشبيه بعيد, [فإن علة منع الجمع مرتفعة بين الحي والميت, ولذلك حلت، إلا أن يقال: إن علة منع الجمع غير معقولة, وأن منع الجمع بين الأختين عبادة محضة غير معقولة المعنى، فيقوى حينئذ مذهب أبي حنيفة ].
وعلى كل حال نقول: أن علة الجمع معقولة, وهي عدم وجود الشحناء بين الأقارب, فإذا ماتت انعدمت الشحناء. فهي زوجته, فالعلة معقولة، وهي: لئلا توجد شحناء بين الأقارب.
فالراجح جواز غسل كل من الزوجين الآخر, ويدل على ذلك حديث عائشة : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) أخرجه أبو داود و أحمد , وغيرهما بسند صحيح.
وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة : (ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك), الحديث، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يغسلها، الحديث أخرجه أحمد و ابن ماجه , وهو حديث صحيح.
ويدل على ذلك أيضاً غسل علي فاطمة ، أخرجه البيهقي و الحاكم , وهو خبر حسن, انظر الإرواء الجزء الثالث صفحة مائة وواحد وستين, ومائة واثنين وستين, وأحكام الجنائز صفحة خمسين.
[وكذلك أجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها]، لأنه لم يعد بينهم قرابة.
[واختلفوا في الرجعية، فروى عن مالك أنها تغسله، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه و أحمد وقال ابن القاسم : لا تغسله وإن كان الطلاق رجعياً، وهو قياس قول مالك؛ لأنه ليس يجوز عنده أن يراها، وبه قال الشافعي ]، لكن الراجح أنه يجوز له أن يراها، وبعضهم يقول: أن الرجعية تكون بالقول, بأن يقول: راجعت زوجتي إلى عقد نكاحي، وبعضهم يقول: أنها تكون بالفعل كوطئها, فالراجح أن الرجعية لها حكم الزوجة, لبقاء أحكام الزوجة عليها.
قال: [ وسبب اختلافهم: هو هل يحل للزوج أن ينظر إلى الرجعية أو لا ينظر إليها؟ ].
قال: [ وأما حكم الغاسل-هذا ابتداء كلام- فإنهم اختلفوا فيما يجب عليه، فقال قوم: من غسل ميتاً وجب عليه الغسل, وقال قوم: لا غسل عليه], بل يستحب فقط, [وسبب اختلافهم معارضة حديث أبي هريرة لحديث أسماء , وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ), أخرجه أبو داود ]، وهو حديث أقل درجاته أنه حسن.
والراجح أنه يندب, له الغسل، ويدل على ذلك حديث ابن عباس : (ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه), الحديث, أخرجه الحاكم ، وهو حديث حسن, انظر أحكام الجنائز صفحة أربع وخمسين.
[وأما حديث أسماء ]، ففيه ضعف, وحديث ابن عباس حسن, لكن حديث أسماء الذي سيعارض به فيه كلام, [وأما حديث أسماء -وهو- فإنها لما غسلت أبا بكر رضي الله عنه, خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار، فقالت: إني صائمة، وإن هذا يوم شديد البرد, فهل علي من غسل؟ فقالوا: لا, وحديث أسماء في هذا صحيح], الراجح أن الحديث ضعيف.
[وأما حديث أبو هريرة فهو عند أكثر أهل العلم فيما حكى أبو عمر غير صحيح], بل هو حسن, [لكن حديث أسماء ليس فيه في الحقيقة معارضة له، فإن من أنكر الشيء يحمل أن يكون ذلك لأنه لم تبلغه السنة في ذلك الشيء, وسؤال أسماء -والله أعلم- يدل على الخلاف في ذلك في الصدر الأول], قولها: هل علي غسل؟ [ولهذا كله قال الشافعي رضي الله عنه على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر], يعني: أن الشافعي كان من عادته أنه لا يعمل بالأثر إلا إذا صح، فإذا لم يصح عنده الأثر علق العمل على صحته, ولا يسكت [ولهذا كله قال الشافعي رضي الله عنه على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر]، على أن الشافعي كان دائماً يتمسك بالأثر، [لا غسل على من غسل الميت إلا أن يثبت حديث أبي هريرة ]، كأن الشافعي والله أعلم لم يثبت عنده ولم يطلع على حديث ابن عباس ؛ لأنه لو اطلع على حديث ابن عباس لقال: أنه لا غسل عليه؛ لحديث ابن عباس ، ولكنه تمسك بالبراءة الأصلية فقال: إذا ثبت حديث أبي هريرة انتقلت إلى القول: بوجوب الغسل, فلم يثبت عنده حديث أبي هريرة ، ولم يطلع على حديث ابن عباس ، ولكن نحن جمعنا بأن حديث أبي هريرة يحمل على الندب، وحديث ابن عباس يحمل على صرف الأمر من الوجوب إلى الندب. نعم.
فالغسل عند الشافعية مندوب.
قال: [ الفصل الرابع: في صفة الغسل: نزع القميص في الغسل.
وفي هذا الفصل مسائل؛ إحداها: هل ينزع من الميت قميصه إذا غسل أم يغسل في قميصه؟ اختلفوا في ذلك، فقال مالك: إذا غسل الميت تنزع ثيابه وتستر عورته, وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي و أحمد : يغسل في قميصه].
والراجح مذهب الشافعي و أحمد ؛ لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل, [وسبب اختلافهم تردد غسله صلى الله عليه وسلم في قميصه بين أن يكون خصوصاً به، وبين أن يكون سنة], يعني متبعة، [فمن رأى أنه خاص به, وأنه لا يحرم من النظر إلى الميت إلا ما يحرم منه وهو حي، قال: يغسل عرياناً إلا عورته فقط التي يحرم النظر إليها في حال الحياة, ومن رأى أن ذلك سنة فيستند إلى باب الإجماع, أو إلى الأمر الإلهي, لأنه روي في الحديث: (أنهم سمعوا صوتاً يقول لهم: لا تنزعوا القميص, وقد ألقي عليهم النوم)]، وهو حديث أخرجه أبو داود من حديث عائشة ، قالت: أردنا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختلف القوم فيه, فقال بعضهم: أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه, فألقى الله عليهم السكينة, حتى ما منهم إلا رجل نائم ذقنه على صدره, فقال قائل من ناحية البيت: أما تدرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل وعليه ثيابه, فغسلوه وعليه قميصه, يصبون الماء عليه, ويدلكون من فوقه, قالت عائشة رضي الله عنها: وأيم الله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه, قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم وصححه الألباني في الأحكام, فهذا دليل على أنه يغسل، ولكن هل كونه خاص به؟ الصحيح أنه عام فيه وفي غيره.
الاختلاف في وضوء الميت, [قال أبو حنيفة : لا يوضأ الميت، وقال الشافعي و أحمد : يوضأ، وقال مالك: إن وضئ فحسن.
وسبب الخلاف في ذلك معارضة القياس للأثر، وذلك أن القياس يقتضي أن لا وضوء على الميت, لأن الوضوء طهارة مفروضة لموضع العبادة]، يعني: أن الوضوء مفروض للصلاة [فإذا سقطت العبادة عن الميت سقط شرطها الذي هو الوضوء, ولولا أن الغسل ورد في الأثر, لما وجب غسله], يعني: لولا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لما وجب غسله, [وظاهر حديث أم عطية الثابت -لا الأثر- أن الوضوء شرط في غسل الميت, لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غسل بنته: (أبدأن بميامنها, ومواضع الوضوء منها), وهذه الزيادة ثابته, خرجها الإمام البخاري و مسلم , ولذلك يجب ألا تعارض بالروايات التي فيها الغسل مطلقاً؛ لأن المقيد يقضي على المطلق إذ فيه زيادة على ما يراه كثير من الناس، ويشبه أيضاً أن يكون من أسباب الخلاف في ذلك معارضة المطلق للمقيد], عند من يقول: يقدم المطلق, [وذلك أنه وردت آثار كثيرة فيها الأمر بالغسل مطلقاً من غير ذكر الوضوء فيها, فهؤلاء رجحوا الإطلاق على التقييد لمعارضة القياس له]؛ لأن القياس يؤيد الإطلاق, [لمعارضة القياس له في هذا الموضع, و الشافعي و أحمد يرى على الأصل من حمل المطلق على المقيد].
الخلاصة: ليس في مشروعية الوضوء دليل واضح, وقوله صلى الله عليه وسلم في غسل ابنته: (ابدأن بميامنها, ومواضع الوضوء منها), لا يدل أنه يقصد به الوضوء وإنما يدل على تقديم هذه المواضع عند الغسل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر