بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد, وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
المأموم إذا وصل والإمام قد صلى ركعتين أو ركعة أو ثلاثاً, فقد فاتته مع الإمام بعض الصلاة؛ لأن الإمام قد يكون في آخر الصلاة، والمأموم يبتدئ أول الصلاة, فمن هنا اختلف العلماء فقالوا: هل صلاة المأموم هي أول صلاته أو آخر صلاته, فقال مالك و أبو حنيفة و أحمد : هي آخر صلاته, وقال الإمام الشافعي : هي أول صلاته وليست آخر صلاته, وفائدة الخلاف في كونها أول صلاته أو آخر صلاته, فمن قال: آخر صلاته, فإنه لو لحق معه المغرب فصلى معه ركعة، فيقوم في الأخيرتين فيجهر ويقرأ السورة, ولا يجلس للتشهد على قول عندهم لأنها ركعتا أول الصلاة، وأما على مذهب الإمام الشافعي فيقرأ الفاتحة وسورة في الركعة الأولى؛ لأنها تعتبر الثانية له ويجلس للتشهد ويعمل بنظام الصلاة, والذي دعاهم إلى هذا الاختلاف هو الرواية في قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ), فأخذ الشافعي بقوله: ( فأتموا ), والرواية الثانية: ( وما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا ), فأخذ الأئمة الثلاثة بقول: ( فاقضوا ), فقالوا: هي قضاء.
وقد رجحنا مذهب الشافعي وقلنا: إن قوله: ( ما فاتكم فاقضوا ), أن القضاء هو بمعنى: الأداء في الشرع, ويدل عليه قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200], أي: أديتم مناسككم, فهذا الذي سنرد به عليه, وأما كون القضاء غير الأداء فهذا اصطلاح من علماء الأصول متأخر, فلا نفسر الشريعة الإسلامية بالاصطلاحات المتأخرة.
قال المصنف رحمه الله: [ إتيان المأموم ما فاته من الصلاة.
من المسائل الثلاث الأول التي هي أصول هذا الباب وهي: هل إتيان المأموم بما فاته من الصلاة مع الإمام أداء أو قضاء؟ فإن في ذلك ثلاثة مذاهب:
قوم قالوا: إن ما يأتي به بعد سلام الإمام هو قضاء، وإن ما أدرك ليس هو أول صلاته ].
وبه قال مالك و أبو حنيفة و أحمد .
[ وقوم قالوا: إن الذي يأتي به بعد سلام الإمام هو أداء، وإن ما أدرك هو أول صلاته ]. وبه قال الشافعي .
[وقوم فرقوا بين الأقوال والأفعال..] وهو قول هذا قول لـمالك .
[ فقالوا: يقضي في الأقوال (يعنون في القراءة) ].
يقضي في الأقوال أي: يجهر ويقرأ السورة, ولكن التشهد ما يغيره، يأتي به, مثلاً: لو أدرك ركعة يقوم ويأتي بركعة في المغرب ويتشهد.
[ ويبني في الأفعال (يعنون: الأداء)، فمن أدرك ركعة من صلاة المغرب على المذهب الأول: (أعني مذهب القضاء) قام إذا سلم الإمام إلى ركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة من غير أن يجلس بينهما وعلى المذهب الثاني: (أعني على البناء) قام إلى ركعة واحدة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ويجلس ] هذا مذهب الشافعي .
[ ثم يقوم إلى ركعة يقرأ فيها بأم القرآن فقط.
وعلى المذهب الثالث: يقوم إلى ركعة فيقرأ فيها بأم القرآن وسورة ].
ثم يجلس.
[ ثم يقوم إلى ركعة ثانية يقرأ فيها أيضاً بأم القرآن وسورة ] ويجهر.
[ وقد نسبت الأقاويل الثلاثة إلى المذهب ].
يعني مذهب مالك .
[ والصحيح عن مالك : أنه يقضي في الأقوال، ويبني في الأفعال ] يعني أخذ بالثالث.
الشافعي له قول, و أبو حنيفة له قول, و أحمد له قول واحد, وأما مالك فله ثلاثة أقوال, فنضمه مع مالك ، له قولين فقط نضم مالك مع أبي حنيفة ونأتي بقوله الأخير المشهور ويصح أن يضم إلى الشافعي .
[ والصحيح عن مالك : أنه يقضي في الأقوال، ويبني في الأفعال; لأنه لم يختلف قوله في المغرب إنه إذا أدرك منها ركعة أنه يقوم إلى الركعة الثانية، ثم يجلس، ولا اختلاف في قوله: إنه يقضي بأم القرآن وسورة ] أي: يقرأ أم القرآن وسورة في الركعتين الأخيرتين ويجلس.
الخلاصة مالك يقول: يقضي في الأقوال ويبني في الأفعال, فمثلاً: لو أدرك ركعةً من المغرب فهذه تكون آخر صلاته في الأقوال, فإذا قام إلى الركعتين جهر وقرأ السورة, فهي الركعتان الأوليان, وأما الأفعال فهي: التشهد الأول, قال: يأتي به, فإذاً هو بناء في الأفعال، وقضاء في الأقوال, هذا هو معناه؛ لأنه لو حذف التشهد لكان كمل ركعتين الأولتين التي ليس فيها تشهد، تتشهد بعد الركعتين, فالإمام أحمد و أبو حنيفة قالوا قولاً واحداً: يقضي في الأقوال والأفعال, أي: إذا لحق بركعة من المغرب قام بالركعتين الأخيرتين وجهر وقرأ السورة ولم يجلس للتشهد الأوسط في حقه؛ لأنها ركعتان، صلى لمعقبه الأخيرة, وإذا انتهى سلم, وقال مالك في القول المشهور عنه: يقضي في الأقوال ويبني في الأفعال, فيقوم ويقرأ ويجهر ويقرأ السورة, ولكنه يجلس للتشهد, ويقوم بعد التشهد ويجهر ويقرأ السورة, فهو قضى في الأقوال وبنى في الأفعال، وقال الإمام الشافعي : إنما يبني في الأفعال والأقوال, فما أدركه أولاً فهو صلاته الأولى، فيقوم ويجهر في ركعة واحدة, ويجلس ويتشهد ثم يقوم في الثالثة ولا يجهر ولا يقرأ سورة, هذه هي الأقوال.
قال رحمه الله: [ وسبب اختلافهم: أنه ورد في بعض روايات الحديث المشهور: ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )] أخرجه البخاري .
[ والإتمام يقتضي أن يكون ما أدرك هو أول صلاته. وفي بعض رواياته: ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا )]
أخرجه أحمد .
[ والقضاء يوجب أن ما أدرك هو آخر صلاته; فمن ذهب مذهب الإتمام ] كـالشافعي.
[ قال: ما أدرك هو أول صلاته; ومن ذهب مذهب القضاء قال: ما أدرك هو آخر صلاته، ومن ذهب مذهب الجمع جعل القضاء في الأقوال والأداء في الأفعال، وهو ضعيف ] هذا المذهب ضعيف ملفق.
[ (أعني أن يكون بعض الصلاة أداء وبعضها قضاء), واتفاقهم على وجوب الترتيب في أجزاء الصلاة ].
أي: على أن الِإنسان يبدأ بالركعة الأولى والثانية والثالثة وهكذا، فلا يسجد قبل الفاتحة ونحو ذلك.
[ وعلى أن موضع تكبيرة الإحرام هو افتتاح الصلاة، ففيه دليل واضح على أن ما أدرك هو أول صلاته ].
رجح مذهب الشافعي .
[ لكن تختلف نية المأموم والإمام في الترتيب، فتأمل هذا.. ].
لكن تختلف بشيء, فالأئمة الثلاثة يشترطون اتفاق النية, يقول: وهذا في أول صلاة وهذا في آخر صلاة, فاختلفت النية.
يقول: إذا قلنا أول صلاته يكون المأموم يصلي في أول الصلاة، والإمام يصلي في آخر الصلاة فاختلفت النية, وقلنا أن اشتراط اتفاق النية قول ضعيف, يرده حديث معاذ ويرده الأحاديث الأخرى, فإن معاذاً كان يصلي بهم نفلاً.
[ ويشبه أن يكون هذا هو أحد ما راعاه من قال: ما أدرك فهو آخر صلاته ].
أشبه أنه اعتبر اختلاف النية.
والراجح أن ما أدركه المأموم هو أول صلاته, وأن لفظ: ( اقضوا ), في الشرع بمعنى: أدوا وأتموا, قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200], أي: أديتم, وأما جعل القضاء خلاف الأداء فهو اصطلاح أصولي, وهو حادث فلا يتم الاستدلال به على ما أرادوا, انتهى.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما المسألة الثالثة من المسائل الأول، وهي متى يلزم المأموم حكم صلاة الإمام في الاتباع ] أي: أن المأموم لا بد أن يلتزم بما يلتزمه الإمام، فإذا كان الإمام في صلاة اقتديت بنفس صلاته [ فإن فيها مسائل ] أي أن: هذه مسألة تتفرع منها ثلاث مسائل.
[ إحداها: متى يكون مدركاً لصلاة الجمعة؟. والثانية: متى يكون مدركاً معه لحكم سجود السهو (أعني سهو الإمام) ].
يعني: يلزمه سهو الإمام.
[ والثالثة: متى يلزم المسافر الداخل وراء إمام يتم الإتمام إذا أدرك من صلاة الإمام بعضها؟ ] هذه كل مسألة سيتكلم فيها, وسيذكر الخلاف والراجح.
أما المسألة الأولى: المأموم يدرك صلاة الجمعة.
لا بد أن يدرك ركعة أو يدرك أقل من ركعة, وهناك حديثان متعارضان أحدهما عام والآخر خاص، يفهم منه سبب الخلاف, يكون مفهومه يعارض العام, فمن أدرك مع الإمام ركعة فقد اتفقوا: على أنه أدرك الجمعة, ومن أدرك أقل من ركعة فقال الأئمة الثلاثة مالك و الشافعي و أحمد : إنه لا يدرك الجمعة, بل ينوي الجمعة ويصليها ظهراً, وقال أبو حنيفة : ولو أدرك التشهد فإنه يصليها جمعة, واستدل أبو حنيفة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ), فمن أدرك من الجمعة التشهد وفاته ركعتين من الجمعة فيتمها, وفي هذا غموض.
وأما الأئمة الثلاثة فقالوا: إنه لا يدرك الجمعة إلا بركعة، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك من الصلاة ), وفي رواية: ( من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك ), فمفهوم المخالفة فيه أنه إذا أدرك أقل من ركعة لا يكون قد أدرك.
فتعارض مفهوم المخالفة مع عموم المنطوق وقد مر معنا في باب النية: أنه إذا تعارض مفهوم المخالفة مع عموم المنطوق قدم عموم المنطوق, فرأينا من باب القواعد الأصولية تقديم مذهب أبي حنيفة , ولكنا بعد ذلك تأملنا في دراسة قديمة عند شيخنا ناصر الدين الألباني فرأيناه يصحح مذهب الجمهور، ويقول: إن هناك نقلاً عن ابن مسعود يفصل فيه، ويقول: من أدرك ركعةً فقد أدرك ومن لم يدرك ركعةً فلم يدرك يوم الجمعة, وسنده صحيح, فكان هذا التفصيل عن ابن مسعود يؤيد هذا المفهوم, وتشم منه رائحة الرفع؛ لأنه تفصيل, فبعد ذلك رجعنا عن كلامنا الأول وقلنا: يمكن أن نعمل بمفهوم المخالفة, والسبب في علمنا بمفهوم المخالفة: هو أنه خاص, ( من أدرك من صلاة الجمعة ), والعموم عام، فلعل العمل بهذا المفهوم من باب تقديم الخاص على العام, ودخلنا من مدخل أصولي آخر.
وليس أثر ابن مسعود موقوف مثل أثر ابن عمر : (من نسي صلاته وهو مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليعد ..)؛ لأن هذا يؤيده قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعةً من الجمعة فقد أدرك الجمعة ).
هنا مسألة: رجل صلى ولم ينو، ونوى ولم يصلِ, نوى الجمعة وما صلاها, إذا أدركه في التشهد فهو ينوي الجمعة، ولكنه لم يصل.
ويصلي الظهر وهو لم ينوها، فقالوا: لنا رجل صلى ما نوى، ونوى ما صلى, ونوى يكون (ما) نافية في الجميع.
المسألة الأولى: المأموم يدرك صلاة الجمعة.
[ فإن قوماً قالوا: إذا أدرك ركعةً من الجمعة فقد أدرك الجمعة، ويقضي ركعة ثانية، وهو مذهب مالك ، و الشافعي ].
و أحمد .
[ فإن أدرك أقل صلى ظهراً أربعاً. وقوم قالوا: بل يقضي ركعتين أدرك منها ما أدرك، وهو مذهب أبي حنيفة ].
قال رحمه الله: [ وسبب الخلاف في هذا: هو ما يظن من التعارض بين عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )، وبين مفهوم قوله -صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ), فإنه من صار إلى عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( وما فاتكم فأتموا ) أوجب أن يقضي ركعتين، وإن أدرك منها أقل من ركعتين، ومن كان المحذوف عنده في قوله صلى الله عليه وسلم: ( فقد أدرك الصلاة )].
( من أدرك ركعةً من الصلاة ) أو ( من الجمعة فقد أدرك الصلاة ), فكان المحذوف عنده حكم يعني: فقد أدرك حكم الصلاة, قال: إنه إذا أدرك أقل من ركعة يصلي؛ لأنه ما أدرك حكم الصلاة.
[ ومن كان المحذوف عنده في قوله عليه الصلاة والسلام: ( فقد أدرك الصلاة ), أي: فقد أدرك حكم الصلاة، وقال: دليل الخطاب يقضي أن من أدرك أقل من ركعة فلم يدرك حكم الصلاة، والمحذوف في هذا القول محتمل ].
أي: فقد أدرك حكم الصلاة, أو فقد أدرك فضل الصلاة, أو فقد أدرك وقت الصلاة, ثلاثة احتمالات وكلها محتمله على أن نقول واحداً منها, فإذاً صار مجملاً.
[ فإنه يمكن أن يراد به فضل الصلاة، ويمكن أن يراد به وقت الصلاة، ويمكن أن يراد به حكم الصلاة، ولعله ليس هذا المجاز في أحدهما أظهر منه في الثاني ] فكلها محتملة بالسواء.
[ فإن كان الأمر كذلك كان من باب المجمل الذي لا يقتضي حكماً ].
المؤلف يمهد لترجيح مذهب أبي حنيفة .
[ وكان الآخر بالعموم أولى ].
لأن هذا الخاص فيه احتمالات ثلاثة تجعله مجملاً، أما العام فليس فيه احتمال.
[ وإن سلمنا أنه أظهر في إحدى هذه المحذوفات ] أي: أظهر في الحكم.
[ وهو مثلاً الحكم على قول من يرى ذلك لم يكن هذا الظاهر معارضاً للعموم، إلا من باب دليل الخطاب، والعموم أقوى من دليل الخطاب عند الجميع ] كما قلنا في (ما).
[ ولا سيما الدليل المبني على المحتمل ].
يعني: هذا مفهوم الخطاب محتمل لثلاثة.
[ أو الظاهر، وأما من يرى أن قوله عليه الصلاة والسلام: ( فقد أدرك الصلاة ), أنه يتضمن جميع هذه المحذوفات فضعيف ].
فقد أدرك حكم الصلاة, وفضل الصلاة, ووقت الصلاة, فهذا قول ضعيف؛ لأن العرب لا تحمل اللفظ أكثر من معنى في وقت واحد، حتى ولو كان مشتركاً, فلا يقول: رأيت عيناً يريد بها الذهب والفضة، والعين الجارية، وعين الشمس ما يتصور هذا, ولا يحملوه المجاز والحقيقة في آن واحد، فيقولوا: نظرت عيناً، أي عيناً باصرة وجاسوساً بالبصر, يتجسس علينا, فعيناً باصرة هي الحقيقة, والمخابرات تسمى عيناً, لكنه مجاز, فلا يصح أن أقول: أنا الآن أرى عيناً، وأقصد بها العين الباصرة، والمخابرات في الفصل, لا بد أن أستعملها في معنىً واحد, فالعرب لا يستعملون اللفظ في معنيين في آن واحد؛ لأن اللفظ لا يستطيع أن يحمل معنيين, فهنا قال: فإن قيل: إن يحتمل الثلاثة المعاني: فضل الصلاة, وحكم الصلاة, ووقت الصلاة, قلنا: اللفظ لا يستطيع إلا أن يحمل معنىً واحداً عند العرب.
[ وغير معلوم من لغة العرب، إلا أن يتقرر أن هناك اصطلاحا عرفياً أو شرعياً ].
ولا يوجد لا عرفي ولا شرعي.
والراجح من حيث القواعد الأصولية: مذهب أبي حنيفة ؛ لأنه إذا تعارض عموم المنطوق مع مفهوم المخالفة، قدم عموم المنطوق على مفهوم المخالفة, وهذا مثل: تقديم عموم ( الماء لا ينجسه شيء ) على مفهوم حديث القلتين, لكن قال الألباني في الدرس: والآثار الواردة عن السلف في هذه القضية تنص على أن من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة فقد أدرك, ومن لم يدركها فليصلِ أربعاً, نص على ذلك ابن مسعود كما في مصنف ابن أبي شيبة بسند صحيح, أقول: فهذا الأثر يؤيد العمل بمفهوم المخالفة ويقويه على عموم المنطوق, لا سيما وهذا العموم وارد في مطلق الصلاة, أما هذا المفهوم فإنه خاص بالجمعة كما ورد في بعض الروايات: ( من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة ), فيكون هذا المفهوم من باب تقديم الخاص على العام.
فالأقرب أن يكون المحذوف في قوله: (فقد أدرك) أي: حكم الصلاة؛ لأنه هو أقرب من الحقيقة, ولا نخرج عن الحقيقة, ففضل الصلاة ووقت الصلاة أبعد, وإذا كانت الاحتمالات ثلاثة وأحدهما أقرب من الحقيقة فنعمل بالأقرب من الحقيقة.
[ وأما مسألة اتباع المأموم للإمام في السجود: (أعني في سجود السهو) ] يعني: يدركها وهو قد سها, أدركه في الركعة الثالثة وقد ترك التشهد, لم يسه معه، ولكن أدركه وقد سها فما حكمه؟
[ فإن قوماً اعتبروا في ذلك الركعة ] فقالوا: إن أدرك معه ركعة يعد ذلك في آخر صلاته ويسجد.
[ (أعني: أن يدرك من الصلاة معه ركعة) وقوم لم يعتبروا ذلك ] فقالوا: حتى ولو أدرك التشهد فيسجد للسهو.
[ فمن لم يعتبر ذلك، فمصيراً إلى عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به )].
أي: ليقتدى به: ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ), قال: ولو أدرك التشهد بعد ما يسلم يسجد للسهو؛ لأن نقصاً لصلاة الإمام نقص في صلاة المأموم.
[ ومن اعتبر ذلك ] أي: اعتبر الركعة.
[ فمصيراً إلى مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: ( فقد أدرك الصلاة )].
والراجح القول الأول: عملاً بعموم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ).
والخلاصة: إذا جاء المأموم والإمام قد ترك التشهد الأول فإن أدرك معه الركعة الثالثة فلا بد بعد أن ينتهي من صلاته أن يسجد للسهو قولاً واحداً، ليس فيه خلاف, وإذا جاء المأموم والإمام في التشهد الأخير من الركعة الرابعة, ولكن الإمام قد ترك التشهد الأول ففيه خلاف في المسألة, فـالشافعي قال: يسجد استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به -أي: ليقتدى به-، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ), استدلوا بعموم هذا اللفظ, وهذا هو الراجح، وقال قوم: إن أدرك الركعة يسجد للسهو, وأما إذا أدرك التشهد فلا يسجد عملاً بمفهوم المخالفة: ( من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدرك الصلاة ), وهنا يضعف مفهوم المخالفة مع عموم المنطوق؛ لأنه لا يوجد ما يؤيده كالجمعة فعملنا بمذهب الشافعي .
والراجح: القول الأول لعموم قوله: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ).
متى يلزم المسافر الاتمام إذا اقتدى بمتم؟
[ ولذلك اختلفوا في المسألة الثالثة: فقال قوم: إن المسافر إذا أدرك من صلاة الإمام الحاضر أقل من ركعة لم يتم ].
عملاً بهذا الحديث: ( من أدرك من الصلاة ركعة ).
[وإذا أدرك ركعة لزمه الإتمام ].
ولكن الراجح: أنه يلزمه الاتمام عملاً بحديث: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ), وبحديث ابن عباس : ( من السنة إذا اقتدى المسافر بالمتم أن يتم ), فهذا هو الراجح, لقوله: ( إذا اقتدى المسافر بالمتم أن يتم )، وهو عام سواء في ركعة أو في ركعتين.
[ فهذا حكم القضاء الذي يكون لبعض الصلاة من قبل سبق الإمام له ].
قال المصنف رحمه الله: [ وأما حكم القضاء لبعض الصلاة الذي يكون للإمام والمنفرد من قبل النسيان ].
فإذا كنت نسيت شيئاً من الصلاة فإن كان ذلك ركناً فلا بد أن يأتي به, وقد فصلوا في ذلك: فمن ترك ركناً من الصلاة فإن ذكره قبل أن يأتي بمثله وجب أن يعود إليه, فمن ترك مثلاً قراءة الفاتحة وذكرها وهو في السجود الأول وجب عليه أن يرجع إلى قراءة الفاتحة ويترك هذه الأعمال, ومن ترك السجدة الأولى من الركعة الثانية وقام إلى القراءة، وتذكر وهو يقرأ الفاتحة بأنه بقي عليه من الركعة الأولى الجلوس بين السجدتين والسجدة الثانية, فيجب عليه الرجوع، فهو لا يخلو من أحد أمرين: إما أنه عند ما قام من السجود الذي سجده جلس للاستراحة كعادة كثير من المصلين, فهذا يهوي من القراءة إلى السجود وجلسة الاستراحة تكفي الجلسة بين السجدتين, وإن كان قام من السجود من غير جلسة استراحة، بل قام إلى القيام مباشرة فإنه يهوي من القراءة إلى الجلسة بين السجدتين حتى يقضي الجلسة بين السجدتين ثم يسجد.
أما إذا ذكر الركن بعد أن أتى بمثله, مثل: إن نسي قراءة الفاتحة وما ذكرها إلا وهو يقرأ الفاتحة في الركعة الثانية فركعته الأولى لغو, يلغوها كلها ويبني على هذه الركعة؛ لأنه ما تذكر إلا بعد أن أتى بمثله.
[ فإنهم اتفقوا على أن ما كان منها ركناً فهو يقضى - أعني فريضة -، وأنه ليس يجزي منه إلا الإتيان به ].
أما من تذكر بعد انتهاء الصلاة ففيه مسائل اختلفوا فيها: فبعضهم أوجب فيها القضاء, وبعضهم أوجب فيها الأداء, مثل من نسي أربع سجدات من أربع ركعات, سجدة من كل ركعة .. فهذه المسألة تسمى مسألة المعاياة, فمن ادعى مثلاً أنه قرأ المنهاج في الفقه الشافعي فإنه يسأل بهذه المسالة، فإن أجاب فهو صادق.
هناك ثلاثة مسائل يعايا بها الطلاب، وهي: الأولى: في الوضوء ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو الآن متطهر, أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو الآن محدث, وإن تيقنهما وشك في السابق منهما, قال: عمل بضد ما قبلهما, مثاله: قال: أنا تيقنت أني كنت بعد طلوع الشمس محدثاً ومتطهراً, ولكني أشك في السابق, هل كان السابق الحدث أم الطهر؟
فنقول له: اعمل بضد ما قبلهما, أنت قبل طلوع الشمس محدث أو متطهر, قال: أنا محدث، قلنا: الآن أنت متطهر, يعمل بالضد, وإن كان قبل طلوع الشمس متطهر فهو الآن محدث؛ لأنه يحتمل أنه لما كان قبل طلوع الشمس محدث أن الحدث انجر إلى ما بعد طلوع الشمس فتتطهر, وإن كان قبل طلوع الشمس متطهر أن الطهارة انجرت إلى ما بعد طلوع الشمس ثم أحدث, فالأخير.
أما المسألة الثانية: فهي مسألة المستحاضة, يقول له: كم أقسام المستحاضة؟ فإن قرأ المنهاج فسيقول: أقسامها سبعة: مبتدئة مميزة, مبتدئة غير مميزة, معتادة مميزة, معتادة غير مميزة, حافظة للقدر دون الوقت, حافظة للوقت دون القدر, متحيرة.
والمسألة الثالثة هي هذه من مسائل المعاياة.
والمسألة الرابعة في البيوع, وهو مد عجوة ودرهم.
[ مثل من نسي أربع سجدات من أربع ركعات، سجدة من كل ركعة، فإن قوماً قالوا: يصلح الرابعة بأن يسجد لها ] يسجد للرابعة ويبطل ما قبلها, مثلاً إذا كان المصلي يتشهد فقال: أنا نسيت سجدة من الأولى أو سجدة من الثانية, وسجدة من الثالثة وسجدة من الرابعة, قلنا له: اسجد, وقم صل ثلاث ركعات, فهذا المذهب الأول.
[ ويبطل ما قبلها من الركعات ثم يأتي بها، وهو قول مالك .
وقوم قالوا: يبطل الصلاة بأسرها ويلزمه الإعادة.
وهي إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل .
وقوم قالوا: يأتي بأربع سجدات متوالية ] يسجد أربع سجدات واحدة بعد واحدة ويسلم.
[ وتكمل بها صلاته ] وهذا أسهل شيء.
[ وبه قال أبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي .
وقوم قالوا: يصلح الرابعة ] يصلح الرابعة بسجدة واحدة.
[ ويعتد بسجدتين ] أي: ركعتين.
[ وهو مذهب الشافعي ].
توضيح مذهب الشافعي في هذه المسألة, كما في مغني المحتاج شرح المنهاج (1/179-180)، قال: وإن علم في آخر رباعيته ترك سجدتين أو ثلاث جهل موضعها وجب ركعتان أخذاً بالأسوأ, ففي تركه سجدتين الأسوأ في حقه تقدير سجدة من الركعة الأولى, وسجدة من الثالثة فتجبر الركعة الأولى بسجدة من الثانية ويلغى باقيها, وتجبر الركعة الثالثة بسجدة من الرابعة ويلغى باقيها.
أما ترك ثلاث سجدات فلأنك إن قدرت ما ذكر في السجدتين يعني: إذا قدرت في السجدتين في الأولى وفي الثالثة, فإنك إن قدرت ما ذكر في السجدتين وقدرت معه ترك سجدة أخرى، من أي ركعة شئت لم يختلف الحكم, أو علم في آخر رباعيته ترك أربع سجدات جهل موضعها، فعليه سجدة ثم ركعتان, وذلك لاحتمال أنه ترك سجدة من الركعة الأولى, وسجدتين من الثالثة، وسجدة من الرابعة, فالأولى تمت من الثانية بسجدة منها، ويلغو باقيها, والرابعة ناقصة سجدة فيتمها بسجدة ثم يأتي بركعتين.
أو علم في آخر رباعيته ترك خمس سجدات أو ست سجدات جهل موضعها فثلاث ركعات، لاحتمال أنه ترك واحدة من الأولى، وثنتين من الثانية، وثنتين الثالثة, فكلهن لغو, والسادسة من الأولى, وإذا كان ست يكون ترك ثنتين من الأولى ثنتين من الثانية ثنتين من الثالثة، وما بقي إلا الرابعة فيها سجدتان, إن كان ترك خمس فواحدة من الأولى، وثنتين من الثانية، وثنتين من الثالثة، إذاً الثلاث كلها لغو, باقي معه الرابعة, وإن كان ست ثنتين من الأولى، وثنتين من الثانية، وثنتين من الثالثة ما بقي إلا الركعة الرابعة ويؤمر بصلاة ثلاث ركعات, فلو قال: أنا تركت خمساً، قلنا له: تركت واحدة من الأولى ألغيناها, وتركت ثنتين من الثانية, وثنتين من الثالثة.
أو علم في آخر رباعيته ترك سبع سجدات: فسجدة يجب عليه سجدة ثم ثلاث ركعات, وذلك واضح بأنه ترك من كل ركعة سجدتين ومن الرابعة سجدة، فتجبر الرابعة بسجدة، فيحصل له ركعة ثم يتم ثلاث ركعات.
أقول: وهذه المسألة نادرة الوقوع, فهي فرضية أقرب منها واقعية, وأكثر ما تذكر في مسائل المعاياة.
قال رحمه الله: [ وسبب الخلاف في هذا: مراعاة الترتيب ] الإمام الشافعي رأى الترتيب, بأنه يجبر الأولى فقط.
[ فمن راعاه في السجدات والركعات أبطل الصلاة ] مثل أحمد .
[ ومن راعاه في السجدات أبطل الركعات ما عدا الأخيرة ] وهذا مذهب مالك .
[ قياساً على قضاء ما فات المأموم من صلاة الإمام.
ومن لم يراع الترتيب ] كـمالك .
[ أجاز سجودها معاً في ركعة واحدة، لا سيما إذا اعتقد أن الترتيب ليس هو واجباً في الفعل المكرر ].
فيقول: إن السجود أركان مكررة فلا يجب فيها الترتيب.
[ ولا سيما إذا اعتقد أن الترتيب ليس هو واجباً في الفعل المكرر في كل ركعة - أعني السجود -، وذلك أن كل ركعة تشتمل على قيام، وانحناء، وسجود، والسجود مكرر ] ما فيها ترتيب.
[ فزعم أصحاب أبي حنيفة : أن السجود لما كان مكرراً لم يجب أن يراعي فيه التكرير في الترتيب، ومن هذا الجنس اختلاف أصحاب مالك فيمن نسي قراءة أم القرآن من الركعة الأولى، فقيل: لا يعتد بالركعة ويقضيها ]، وهو الأقرب.
[ وقيل: يعيد الصلاة ] أي: من أصلها.
[ وقيل: يسجد للسهو وصلاته تامة ] أما كونه: [ لا يعتد بالركعة ] فهذا هو الأقرب, وفيه مراعاة للترتيب ولعلها ألغيت.
[ وقيل: يعيد الصلاة ] هذا فيه تشديد.
[ وقيل: يسجد للسهو وصلاته تامة ] هذا بناءً على الاكتفاء بقراءة الفاتحة في أي ركعة كانت.
[ وفروع هذا الباب كثيرة، وكلها غير منطوق به، وليس قصدنا هنا إلا ما يجري مجرى الأصول ].
أي أن هذه المسائل التي ذكرها لا دليل عليها, إنما هي اجتهاد من الفقهاء وتوسيع لدائرة الفقه ولا دليل في ذلك.
السؤال: هل تعتبر آخر ركعة هي الأولى بالنسبة للمأموم؟
الجواب: بالنسبة للمأموم الأولى هي آخر, يعني: الذي أدركها مع الإمام هي آخر صلاته, الأولى هي آخر صلاته.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر