بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الثالثة: اختلف الصدر الأول في الرجل يريد الصلاة فيسمع الإقامة، هل يسرع المشي إلى المسجد أم لا مخافة أن يفوته جزء من الصلاة؟ فروي عن عمرو و ابن مسعود أنهم كانوا يسرعون المشي إذا سمعوا الإقامة، وروي عن زيد بن ثابت و أبي ذر وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا لا يرون السعي، بل أن تؤتى الصلاة بوقار وسكينة.
وبهذا القول قال فقهاء الأمصار؛ لحديث أبي هريرة الثابت: ( إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة ) ]، والمراد بالتثويب في الحديث الإقامة، وهو يدل على أنه لا يسعون لها، وإنما يأتونها بالسكينة والوقار.
قال المصنف رحمه الله: [ ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك: أنه لم يبلغهم هذا الحديث ]، يعني: الذين قالوا: يشرع له السعي لم يبلغهم هذا الحديث، [ أو رأوا أن الكتاب يعارضه؛ لقوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148]، وقوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11]، وقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[آل عمران:133]. وبالجملة، فأصول الشرع تشهد بالمبادرة إلى الخير، لكن إذا صح الحديث وجب أن تستثنى الصلاة من بين سائر أعمال القرب ]، يعني: أن المسارعة إلى الخيرات أمر عام، والصلاة جاء فيها النص أنه يمشي بسكينة ووقار؛ وذلك لأن المشي نفسه إلى المسجد عبادة، لحديث: ( لا يضع رجله أو يرفعها إلا رفعت له درجة وحطت عنه خطيئة )، فالمشي في نفسه عبادة، ويكون من الوقت الذي يتطهر فيه ويذهب إلى المسجد، والعبادة يستلزم لها السكينة والوقار.
وقد قال ابن رشد : [ لكن إذا صح الحديث وجب أن تستثنى الصلاة من بيان سائر أعمال القرب ] وقد صح الحديث فتعين العمل به.
وينبغي التنبه إلى أن للمؤلف اصطلاحات خاصة به ومنها قوله: الثابت، فإنه يعني به: أن الحديث أخرجه البخاري و مسلم أو أخرجه أحدهما، وهو الحديث الثابت الصحيح.
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الرابعة: متى يستحب أن يقام إلى الصلاة فبعض استحسن البدء في أول الإقامة على الأصل في الترغيب في المسارعة ]، أي: أنه عند البدء بالإقامة يقوم إلى الصف ويسوي نفسه فيه.
[ وبعض عند قوله: قد قامت الصلاة ]، بعض من العلماء قال: إذا سمع قوله: قد قامت الصلاة؛ نهض إلى الصف وقام فيه.
[ وبعضهم عند: حي على الفلاح ]، أي: بعضهم قال: عند البدء بالإقامة، وبعضهم عند قوله: قد قامت الصلاة، وبعضهم عند قوله: حي على الفلاح، فهذه ثلاثة أقوال.
[ وبعضهم قال: حتى يروا الإمام ]، وهذا قول رابع.
[ وبعضهم لم يحد في ذلك حداً كـمالك رضي الله عنه ] يعني: على حسب سرعة الإنسان وخفته وثقله يقوم إلى الصلاة [ فإنه وكل ذلك إلى قدر طاقة الناس ] أي: ليس هناك تحديد لوقت القيام [ وليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة ] الذي أخرجه البخاري و مسلم [ أنه قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ) ]، يعني: كانت الصلاة تقام والرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، وبيته قريب من المسجد، وله فتحة إلى المسجد من بيت عائشة ، فإذا أقيمت الصلاة خرج من بيته، فهو يقول لهم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني )، يعني: حتى أخرج من بيتي، [ فإن صح هذا وجب العمل به ]، والحديث صحيح، كما ذكرنا.
[ وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه ]، يعني: قول مالك ، وهو أنه على قدر الطاقة، [أعني: أنه ليس فيها شرع، وأنه متى قام كل فحسن ].
الحاصل بما أن الحديث صحيح، فإنه إذا أقيمت الصلاة والإمام غير حاضر، فلا يقوموا حتى يروه، أما إذا كان حاضراً موجوداً في المسجد، فإنه موكول إلى قدر طاقة الناس، فالذي يقوم في أول الإقامة والذي في وسطها، والذي في آخرها كل على قدر طاقته.
والمقصود: أنهم لا يقومون حتى يروا الإمام إذا كان خارج المسجد، وهذا محمول على الإرشاد لا على الوجوب؛ لأنه من السنة أن لا يقوموا حتى يروا الإمام، فالمقيم يقيم وإذا رأوا الإمام دخل إلى المسجد قاموا واصطفوا.
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الخامسة ]: وهي للداخل ورواء الإمام فيركع دون الصف، ثم يدب راكعاً حتى يصل إلى الصف؛ فمثلاً إذا كان قريباً من الصف والإمام راكع، وهو يريد أن يلحق الركعة، فله أن يركع دون الصف، ويمشي وهو راكع حتى يدخل في الصف، ولا يسمى أنه صلى خلف الصف، ولا يضره المشي القليل حتى يدخل في الصف.
قال المصنف رحمه الله: [ ذهب مالك وكثير من العلماء إلى أن الداخل وراء الإمام إذا خاف فوات الركعة: بأن يرفع الإمام رأسه منها إن تمادى حتى يصل إلى الصف الأول أن له أن يركع دون الصف الأول، ثم يدب راكعاً، ] -يعني: الصف الأول أو القريب منه- [ وكره ذلك الشافعي ، وفرق أبو حنيفة بين الجماعة، والواحد، فكرهه للواحد، وأجازه للجماعة ]، كرهه للواحد؛ لأنه سيكون صلى جزءاً من الصلاة خلف الصف، ولم يكرهه للجماعة؛ لأنه لا ينطبق عليهم مسألة صلاة المنفرد خلف الصف.
إذاً فالمسألة فيها ثلاثة أقوال: الأول: أجازه مالك واستحبه، الثاني: كرهه الشافعي الثالث: فرق أبو حنيفة بين الواحد والجماعة.
فلو دخل ثلاثة أو أربعة والإمام راكع، فإنهم يركعون سواء ويدبون سواء، حتى يصلوا إلى الصف، وهذا كله مبني على الخلاف في جواز الصلاة خلف الصف.
فـالشافعي و مالك يقولان: بأن الصلاة خلف الصف جائزة، لحديث أبي بكرة ، [ وما ذهب إليه مالك مروي عن زيد بن ثابت و ابن مسعود ].
قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم: اختلافهم في تصحيح حديث أبي بكرة ]، والحديث أخرجه البخاري و مسلم .
[ وهو ( أنه دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وهم ركوع، فركع ثم سعى إلى الصف، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من الساعي؟ ) ] يعني: من الذي كان يسعى بشدة؟ وجاء في رواية: ( وهو يحفزه النفس )، يعني: بسبب الجري [ ( قال أبو بكرة : أنا، قال: زادك الله حرصاً ) ] أي: أن هذا من الخير [ ( ولا تعد ) ]، لمثل هذا.
وأما قوله: (لا تعد) فإن النهي فيه يحتمل واحداً من ثلاثة أشياء وهي: النهي عن السعي، أو الاعتداد بالركعة، أو عن الركوع خلف الصف، ولكنه ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم إقراره بالركوع خلف الصف، وقال ابن الزبير : ( أنه من السنة )، وورد الاعتداد بالركعة في قوله: ( من أدرك الإمام راكعاً، فقد أدرك الركعة )، وقد ورد النهي عن السعي دون الآخرين، فتعين أن يكون النهي عن السعي.
والدليل على الاعتداد بالركعة، أنه قد جاء في حديث أبي بكرة الذي فيه: ( من هذا الذي يحفزه النفس؟ قال: أنا يا رسول الله! خشيت أن تفوتني الركعة فركعت خلف الصف )، فقوله: (خشيت أن تفوتني الركعة فركعت قبل الصف)؛ فهذا يدل على أنه اعتد بالركوع عن الركعة كاملة، وكذلك ما ورد في صحيح ابن خزيمة : ( من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة )، وفي رواية: ( من أدرك ركعة فقد أدرك )، فهذا يدل على الاعتداد بالركعة وأنه ليس منهي عنه.
إذاً فتعين أن المنهي عنه هو السعي.
وقد ضبطت: ( لا تعد )، بكسر العين وضم التاء: أي لا تعد الركعة، ولكن الراجح أنها لا تعد بضم العين وفتح التاء.
قال المصنف رحمه الله: [ الفصل الرابع: في معرفة ما يجب على المأموم أن يتبع فيه الإمام.
وأجمع العلماء على أنه يجب على المأموم أن يتبع الإمام في جميع أقواله وأفعاله ]، أي: في كل موضع؛ لحديث: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، [ إلا في قوله: سمع الله لمن حمده، وفي جلوسه إذا صلى جالساً؛ لمرض عند من أجاز إمامة الجالس ]، يعني: هل يجلس معه أم لا؟
قال المصنف رحمه الله: [ وأما اختلافهم في قوله: سمع الله لمن حمده، فإن طائفة ذهبت إلى أن الإمام يقول إذا رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده. فقط ] يعني ولا يقول: ربنا ولك الحمد [ ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد. فقط ] ولا يقول: سمع الله لمن حمده. يعني: مقسمة، قسم للإمام وقسم للمأموم [ وممن قال بهذا القول مالك و أبو حنيفة وغيرهما ]، أي: والإمام أحمد .
[ وذهبت طائفة أخرى ] ومنهم الشافعي [ إلى أن الإمام والمأموم يقولان جميعاً: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ] كلاهما يقولان هذا الذكر، وهذا مذهب الإمام الشافعي [ وإن المأموم يتبع فيهما معاً الإمام ] يعني: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قال المأموم: سمع الله لمن حمده، فإذا قال الإمام: ربنا ولك الحمد، قال هو: ربنا ولك الحمد، بعده [ كسائر التكبير سواء ]، أي: كما يتابعه في التكبير والتسبيح فكذلك يتبعه في التسميع. والصلاة ليس فيها سكوت، وإنما هي أذكار وأدعية وقراءة للقرآن.
[ وقد روي عن أبي حنيفة أن المنفرد والإمام يقولانهما جميعاً ] - أي: أن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده.. ربنا ولك الحمد، والمأموم يقول فقط: ربنا ولك الحمد [ ولا خلاف في المنفرد ] أعني: أنه يقولهما جميعاً، أي يقول المنفرد: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.
قال المصنف رحمه الله: [ وسبب الاختلاف في ذلك حديثان متعارضان ] يعني: قد يفهم منهما التعارض [ أحدهما: حديث أنس ] الذي أخرجه البخاري و مسلم [ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) ] أي: ليقتدى به في كل أقواله وأفعاله، فهذا الصدر من الحديث عام أي: في قوله: سمع الله لمن حمده [ ( فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد ) ]، قوله: ( وإذا قال: سمع الله لمن حمده )، منطوقه: أن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، ومفهومه أن المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده، هذا مفهوم المخالفة منه، وقوله: ( ربنا ولك الحمد )، منطوقه: أن المأموم يقول: ربنا ولك الحمد، ومفهوم المخالفة: أن الإمام لا يقول: ربنا ولك الحمد.
إذاً آخر الحديث له منطوق ومفهوم في الإمام وفي المأموم، ولكن أول الحديث فيه عموم وهو أن المأموم يقول ما يقوله الإمام؛ ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ).
[ والحديث الثاني: حديث ابن عمر: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) ]، والحديث أخرجه البخاري و مسلم ، وهو نص صريح في أن الإمام يجمع بينهما.
فكون الإمام يجمع بينهما مأخوذ من النص الصريح، وكون المأموم يجمع بينهما مأخوذ من العموم، وهو قوله: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به )، وقوله: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، أما جمع الإمام بينهما فهو منطوق صريح، ونص لا يحتمل التأويل لقوله: ( وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ).
ومنهم من حمل حديث ابن عمر : (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)، حمله على المنفرد ولكنه حمله بعيد؛ لأنهم يحكون صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بهم.
[ فمن رجح مفهوم حديث أنس ] مفهوم المخالفة في الجهتين [ قال: لا يقول المأموم: سمع الله لمن حمده، ولا الإمام: ربنا ولك الحمد، وهو من باب دليل الخطاب؛ لأنه جعل حكم المسكوت عنه بخلاف حكم المنطوق به ]، وهذا مذهب مالك و أحمد و أبي حنيفة إلا أن مالك و أحمد ...
... أبا حنيفة قد خالف أصوله في عدم العمل بمفهوم المخالفة؛ لأنه لا يقول بمفهوم المخالفة، وهو هنا عمل به، وأما مالك و أحمد فلم يخالفوا أصولهم في هذا.
[ ومن رجح حديث ابن عمر ] وهو أن الإمام يقولهما [ قال: يقول الإمام: ربنا ولك الحمد ] أي: كما أنه يقول: سمع الله لمن حمده، يقول: ربنا ولك الحمد [ ويجب على المأموم أن يتبع الإمام في قوله: سمع الله لمن حمده ]، أي: أن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد؛ لحديث ابن عمر ، ويجب على المأموم أن يتبع الإمام؛ لقوله: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ( وإنما جعل الإمام ليؤتم به ).
[ لعموم قوله: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) ]، إذاً فهو عمل بالصدر الأول من الحديث وألغى مفهوم المخالفة من الجزأين الأخيرين منه.
[ ومن جمع بين الحديثين فرق في ذلك بين الإمام والمأموم ]، فقال: إن الإمام يعمل بحديث عبد الله بن عمر فيقول الذكرين، والمأموم يعمل بمفهوم حديث أنس ، فلا يجمع بين الذكرين.
[ والحق في ذلك أن حديث أنس يقتضي بدليل الخطاب أن الإمام لا يقول: ربنا ولك الحمد، وأن المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده.
وحديث ابن عمر يقتضي نصاً أن الإمام يقول: ربنا ولك الحمد، فلا يجب أن يترك النص بدليل الخطاب، فإن النص أقوى من دليل الخطاب ]، وهنا تعارض للنص ودليل خطاب في حق الإمام، فيعمل بالنص لقوته.
[ وحديث أنس يقتضي بعمومه ] أي: الصدر الأول منه [ أن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده؛ بعموم قوله:( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) ]، فالعموم هنا يقتضي أن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد [ وبدليل خطابه ألا يقولها ] إذاً فتعارض عموم مع دليل الخطاب.
وقد مر معنا أنه إذا تعارض عموم أي: منطوق عام ومفهوم مخالفة، فإن علماء الأصول يقدمون العمل بالعموم؛ لاتفاق العلماء على العمل به، ولا يقدمون مفهوم المخالفة؛ لاختلاف العلماء في وجوب العمل به.
فهنا: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به )، اتفق العلماء على العمل بالعموم، وقوله: ( إذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد )، اختلف العلماء في العمل بمفهوم المخالفة، فيقدم العمل بالعموم.
[ ولا خلاف أن العموم أقوى من دليل الخطاب ]، ثم استثنى فقال: [ لكن العموم يختلف أيضاً في القوة والضعف ] يعني: في بعض المواضع [ ولذلك ليس يبعد أن يكون بعض أدلة الخطاب أقوى من بعض أدلة العموم فالمسألة لعمري اجتهادية أعني: في المأموم ]، وهذا استثناء منه، كقولك: الرجل أحسن من المرأة، ولكن ليس كل رجل أحسن من كل امرأة، فقد يكون هناك بعض النساء أحسن من بعض الرجال، وليس من كل الرجال.
فالحاصل: أنه قد يكون هناك عموم ضعيف ويقابله مفهوم مخالفة قوي.
وما قاله المؤلف هنا من تقديم العموم على مفهوم المخالفة عند التعارض هو الراجح المعمول به عند علماء الأصول؛ ولذا قال شيخنا في صفة الصلاة، (140): وهذا الحديث يعني حديث أنس لا يدل على أن المؤتم لا يشارك الإمام في قوله: سمع الله لمن حمده، كما لا يدل على أن الإمام لا يشارك المؤتم في قوله: ربنا ولك الحمد، إذ أن الحديث لم يسق لبيان يقوله الإمام والمؤتم، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أتى به ليبين ما يقوله الإمام والمؤتم في هذا الركن، بل أتى به لبيان أن تحميد المؤتم إنما يكون بعد تسميع الإمام، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول التحميد، وهو إمام، وكذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، يقتضي أن يقول المؤتم ما يقول الإمام، كالتسميع وغيره، ومن شاء الزيادة فليراجع رسالة لـلسيوطي في كتابه الحاوي، (1/529) انتهى.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما المسألة الثانية: وهي صلاة القائم خلف القاعد، فإن حاصل القول فيها: أن العلماء اتفقوا على أنه ليس للصحيح أن يصلي فرضاً قاعداً إذا كان منفرداً ] أي: إذا كان منفرداً فليس له أن يصلي قاعداً إلا في حالة المرض [ لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
واختلفوا إذا كان المأموم صحيحاً، فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعداً على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المأموم يصلي خلفه قاعداً، وممن قال بهذا القول أحمد و إسحاق .
والقول الثاني: أنهم يصلون خلفه قياماً، قال أبو عمر بن عبد البر : وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار: الشافعي وأصحابه، و أبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر و أبو ثور وغيرهم، وزاد هؤلاء فقالوا: يصلون وراءه قياماً وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل يومئ إيماءً ]، أي: حتى ولو كان يصلي إيماءً.
[ وروى ابن القاسم ] وهذا القول الثالث، [ أنه لا تجوز إمامة القاعد، وأنه إن صلوا خلفه قياماً أو قعوداً بطلت صلاتهم ]، لأنهم إن صلوا قياماً خالفوه؛ فتبطل صلاتهم للمخالفة، وإن صلوا قعوداً بطلت لأنهم صلوا قعوداً وهم قادرون على القيام.
[ وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت ] وهذا قول رابع، لأنه في حكم المكروه و مالك عنده أن الأشياء المكروهة تعاد لأجلها الصلاة في الوقت [ وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع والأول هو المشهور عنه ]، وهذه من قواعد مذهب مالك أن الكراهة تقتضي البطلان. فتحصل عندنا في المسألة خمسة أقوال.
قال المصنف رحمه الله: [ وسبب الاختلاف: تعارض الآثار ] يعني: الأحاديث [ في ذلك ومعارضة العمل للآثار، أعني: عمل أهل المدينة عند مالك ، وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين:
أحدهما: حديث أنس المتفق عليه [ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً )، وحديث عائشة في معناه ] وقد أخرجه البخاري و مسلم [ وهو: ( أنه صلى الله عليه وسلم صلى وهو شاك جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً ).
والحديث الثاني حديث عائشة .. ] - أخرجه البخاري و مسلم - [ ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الذي توفي فيه، فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر )، فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين: مذهب النسخ ] أي: قالوا: إن الحديث الآخر ناسخ للأول [ ومذهب الترجيح ]، أي: رجح العمل بأحد الحدثين.
[ فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا: إن ظاهر حديث عائشة وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤم الناس، وأن أبا بكر كان مسمعاً ] يعني: مبلغاً [ لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة، وإن الناس كانوا قياماً، وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالساً ] يعني: الصلاة الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم [ فوجب أن يكون هذا من فعله عليه الصلاة والسلام ]، وهو إقراره للناس أن يبقوا قياماً، [ إذ كان آخر فعله ناسخاً لقوله وفعله المتقدم ]، وهذا هو مذهب الإمام الشافعي .
[ وأما من ذهب مذهب الترجيح ] وهو الإمام أحمد ومن معه [ فإنهم رجحوا حديث أنس ، بأن قالوا: إن هذا الحديث قد اضطربت الرواية عن عائشة فيه ] وهو حديث صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته [ فيمن كان الإمام؟ هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر ؟ ]، ومعنى اضطربت: اختلفت الروايات.
[ وأما مالك ]، وهو الذي ذهب إلى بطلان الصلاة [ فليس له مستند من السماع ]، يعني ليس له حديث يدل على أن صلاة المأموم باطلة؛ لأن كلا الحديثين، سواء قلنا: صلوا قياماً أو قعوداً، فهو يدل على أن الصلاة صحيحة. وهذا من الانصاف، وترك التعصب للمذهب.
[ لأن كلا الحديثين اتفقا على جواز إمامة القاعد ]، ولهذا قال ابن العربي : لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم يخلص عند السبق، واتباع السنة أولى، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال. والمالكية يقولون في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في الواقعتين، الواقعة الأولى صلوا وهم جلوس، والواقعة الثانية صلوا وهم قيام، فقالوا: ذلك من خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يتقدم أمامه في الصلاة، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال، وقد ثبت عنه أنه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف .
[ وإنما اختلفا في قيام المأموم أو قعوده، حتى إنه لقد قال ابن حزم : إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياماً ولا قعوداً ]، و ابن حزم هنا يريد أن يتخلص من حديث عائشة ، فيقول: إنهم صلوا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم جالس، ولكن لم يذكر فيه أنهم صلوا قياماً ولا قعوداً، فيبقى العمل على حديث أنس وهو أنهم يصلون قعوداً، ولا يكون هنالك نسخ.
[ وليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه. ] فحديث أنس نص على جواز صلاة القاعد إماماً [ قال أبو عمر ] وهو ابن عبد البر - [ وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال: لا يؤم الناس أحد قاعداً، فإن أمهم قاعداً فسدت صلاتهم وصلاته ] أي: حتى صلاة الإمام تبطل كذلك [ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحد بعدي قاعداً ) ] - إلا أن هذا الحديث ضعيف [ قال أبو عمر : وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث؛ لأنه يرويه جابر الجعفي مرسلاً ]، و جابر الجعفي كذاب.
[ وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل؟! وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان يحتج بما رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض، فكان أبو بكر هو الإمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال: ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته ) ] وهذا الحديث أخرجه ابن سعد في الطبقات وهو حديث ضعيف؛ وعلى هذا فلا تقوم به الحجة [ وهذا ليس فيه حجة إلا أن يتوهم أنه ائتم بـأبي بكر ؛ لأنه لا تجوز صلاة الإمام القاعد، وهذا ظن لا يجب أن يترك له النص مع ضعف الحديث ].
والأقرب أن يكون الأمر الأول أي: حديث أنس ( وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً )، منسوخ بإقراره الأخير، كما في حديث عائشة ، قال الحافظ في الفتح، (2/206 - 207) وقد استدل به على نسخ الأمر بصلاة المأموم قاعداً إذا صلى الإمام قاعداً؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، هكذا قرره الشافعي ، وكذا نقله البخاري عن شيخه الحميدي ، وهو تلميذ الشافعي .
قال أبو عبد الله البخاري : قال الحميدي : قوله: ( إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً ) هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جالساً والناس خلفه قياماً، فلم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ : وأما قول ابن حزم : ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياماً ولا قعوداً، فيرد عليه من وجهين:
الوجه الأول: أنه قد صرح بالصلاة وراءه قياماً كما في مسند عبد الرزاق ، وهو مرسل يعضد بما علقه الشافعي عن النخعي عن الأسود عن عائشة .
الوجه الثاني: أن صلاتهم وراءه قياماً هو الذي يقتضيه النظر، فإنهم ابتدأوا الصلاة مع أبي بكر قياماً بلا نزاع، فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان.
قال المصنف رحمه الله: [ الفصل الخامس: في صفة الاتباع وفيه مسألتان:
إحداهما: في وقت تكبيرة الإحرام للمأموم، والثانية: في حكم من رفع رأسه قبل الإمام ].
قال المصنف رحمه الله: [ أما اختلافهم في وقت تكبير المأموم، فإن مالكاً استحسن أن يكبر بعد فراغ الإمام من تكبيرة الإحرام، قال: وإن كبر معه أجزأه ] إذا قال: الله أكبر مقارناً لتكبير الإمام أجزأه [ وقد قيل: إنه لا يجزئه ]، يقول: الأحسن أنه يكبر بعد الإمام، فإذا كبر معه فللإمام مالك قولان، أحدهما: أنه يجزئه والآخر: أنه لا يجزئه.
[ وأما إن كبر قبله ] أي: كبر المأموم قبل الإمام [ فلا يجزئه ]، هذا قول مالك .
[ وقال أبو حنيفة وغيره: يكبر مع تكبيرة الإمام، فإن فرغ قبله لم يجزه ] ، أي: يقارنه ولا يفرغ قبله.
[ وأما الشافعي فعنه في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول مالك وهو الأشهر ]، أي: أنه استحسن أن يكبر بعده وإن كبر معه فلا مانع. [ والثانية: أن المأموم إن كبر قبل الإمام أجزأه ]، ونسبة هذا القول إلى الشافعي فيه نظر.
قال النووي في المجموع: إن المؤتم إذا قارن الإمام في تكبيرة الإحرام أو سبقه فصلاته باطلة.
فنسبة هذين القولين من جواز المقارنة أو السبق للإمام في تكبيرة الإحرام إلى الشافعي ليست بمشهورة عن أتباعه ولا في كتبه، ولا قرأناها نحن في كتب الإمام الشافعي ، بل قرأنا في كتب الشافعي أنه قال: يجب أن يكبر المأموم بعد تكبيرة الإمام، فلو قارنه أو سبقه فصلاته باطلة. هذا هو في كتب الشافعية.
فالحاصل: أن مذهب الشافعي : أنه لا يقارنه ولا يسبقه، ومذهب أبي حنيفة أنه إذا قارنه وانتهى بعده أجزأه، لكن إذا انتهى قبله فصلاته باطلة، ومذهب مالك فيه أقوال كثيرة ومنها: إن كبر معه أجزأه ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ وسبب الخلاف: أن في ذلك حديثين متعارضين ] أي: ظاهرهما التعارض [ أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام:( فإذا كبر فكبروا ) ] فهذا أمر، والأمر إذا ورد على شيء في الصلاة فمخالفته تقتضي البطلان. [ والثاني: ما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا، فذهب، ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء )، فظاهر هذا أن تكبيره وقع بعد تكبيرهم ; لأنه لم يكن له تكبير أولاً لمكان عدم الطهارة ].
وقصة هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثم ذكر أنه جنب وكانوا قد أحرموا بالصلاة معه، فأشار عليهم أن امكثوا، وذهب إلى بيته ثم رجع ورأسه يقطر ماءً، فكبر وصلى. فهذا الحديث ظاهره أنهم كبروا مع الإمام، ثم لما بطلت صلاة الإمام بقوا على تكبيرتهم في الصلاة، حتى جاء الإمام وكبر، فكان تكبيره بعد تكبيرهم.
وهذه واقعة حال، وفيها إجمال وعدم بيان، وهو هل النبي صلى الله عليه وسلم كبر مرة ثانية أو لم يكبر؟ وهي مبنية على ما إذا وجد مبطلاً للصلاة هل يبني أو يستأنف؟ فرأينا أنه بنى عند خلعه للنعلين المتنجسين، فإن كان كبر هنا فهذا على أنه بنى، ثم هنا مسألة أيضاً وهي هل صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام بحيث لو بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم؟ فإذا قلنا أنها مرتبطة بصلاة الإمام فقد بطلت صلاتهم، وعليهم أن يعيدوا التكبير بعد تكبيرة الإمام، وإن قلنا ليست مرتبطة بصلاته فليس عليهم أن يعيدوا التكبيرة بعد تكبيرة الإمام، وكل محتمل، والمسألة خلافية.
ولا يعلم أنهم أعادوا التكبير أو لم يعيدوه، بينما قوله: ( فإذا كبر فكبروا )، نص واضح في ذلك.
فهذا الحديث مجمل ولا مبين له، فلا يعمل به، إلا في الموضع الذي ورد فيه، أي: مثل في هذه الحالة. وقد وجدت تلك الحالة في مسألتين:
المسألة الأولى: صلاة أبي بكر للصحابة إماماً وذلك لما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم يصلح بين جماعة من الأنصار وتأخر، فقالوا لـأبي بكر : صل بنا، فصلى بهم أبو بكر ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس في التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت، فالتفت فإذا هو يرى النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر أبو بكر فأشار عليه بالبقاء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تأخر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وكبر تكبيرة الإحرام ودخل في الصلاة وصلى بهم، فهنا وقع تكبير المأموم.
قبل تكبير الإمام فهذه مسألة.
والمسألة الثانية: في صلاته في مرض موته عليه الصلاة والسلام فإنه جاء بعد دخولهم في الصلاة. فإنه كبر بعد تكبيرهم، فهذه المسألة غير المسألة التي يستدل بها على أن للمأموم المقارن أن يتقدم في تكبيرة الإحرام، وهذا غير صحيح كما قد مر معنا.
وأما التفات أبي بكر في الصلاة فهو للحاجة عندما أكثروا من التصفيق، والالتفات من حيث هو مكروه ولا يبطل الصلاة، وقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد )، والرسول صلى الله عليه وسلم هنا قد أقر أبا بكر على التفاته، وقال عن التصفيق الذي وقع من الصحابة: ( إذا نابكم شيء فعليكم بالتسبيح وإنما التصفيق للنساء ).
والظاهر من حديث صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحابة بعد غسله من الجنابة، أن تكبيره وقع بعد تكبيرهم؛ لأنه لم يكن له تكبيرة أولاً؛ لمكان عدم الطهارة، وهو أيضاً مبني على أصل، وهو أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام، فلا يعيد تكبيرة الإحرام.
والراجح في هذا أن الحديث لم يذكر فيه هل استأنفوا التكبير أم لم يستأنفوه، فليس ينبغي أن يحمل على أحدهما إلا بتوقف، والأصل هو الاتباع، وذلك ألا يكون إلا بعد أن يتقدم الإمام إما بالتكبير أو بافتتاح الصلاة.
وبما أنه قد صح الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة عند الشيخين بأن تكبير المأموم يكون بعد تكبير الإمام. وكما صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة عند مسلم بألا يبادر المأموم الإمام بالتكبير، وذلك بلفظ: ( لا تبادروا الإمام، فإذا كبر فكبروا ).
والأمر بالتأخر يقتضي الوجوب، والنهي عن المبادرة يقتضي التحريم، ومن المقرر في الأصول أن الأمر الوارد على فعل في الصلاة يقتضي تركه البطلان، وذلك مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اقرأوا فاتحة الكتاب )، وغيره، فهذا يقتضي تركه البطلان، ولكن إذا جاء أمر ولم يكن وارداً على شيء في الصلاة، وهو متعلق بالصلاة، فهذا لا يقتضي البطلان.
وأما الأمر الوارد على فعل في الصلاة فهو يقتضي تركه البطلان، والنهي عن شيء داخل الصلاة يقتضي فعله البطلان، فالراجح وجوب تأخير تكبيرة الإحرام من المأموم عن تكبيرة الإمام، وأنه لو تقدم على الإمام بتكبيرة الإحرام فصلاته باطلة.
وأما الحديث الذي ذكره المصنف أنه صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات.. إلى آخره، فهي واقعة حال مجملة ومبهمة، وغير مبينة، ولا تفيد أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتكبيرة الأولى، أو أنه كبر مرة ثانية، أو أن المأمومين أعادوا التكبير أو لا.
وعلى فرض أنه صلى الله عليه وسلم أعاد التكبير وأنهم لم يعيدوا التكبير فهي واقعة حال لا عموم لها، فتنزل على مثل هذه الحالة فقط، وما شابهها من تقدم دخول المأمومين في الصلاة، ثم مجيء الإمام بعد ذلك، كما في قصة مجيء الرسول الله صلى الله عليه وسلم، و أبو بكر يصلي بهم، ثم تأخر أبو بكر وصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما من رفع رأسه قبل الإمام فإن الجمهور يرون أنه أساء، ولكن صلاته جائزة، وأنه يجب عليه أن يرجع، فيتبع الإمام ] وصلاته صحيحة عند الجمهور [ وذهب قوم إلى أن صلاته تبطل للوعيد الذي جاء في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟ ) ]، وهذا وعيد، والحديث أخرجه البخاري و مسلم ، فقالوا: إنه يقتضي بطلان صلاته.
والراجح: أن صلاته باطلة إن وقع ذلك منه عمداً في ركنين متواليين، بحيث لا يجتمعان معاً بحيث لا يجتمع الإمام والمأموم فيهما. فمثلاً ركع الإمام والمأموم ثم رفع المأموم رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، والإمام ما زال راكعاً، فإذا بدأ الإمام في رفع رأسه من الركوع والمأموم يقول: الله أكبر وسجد، فصلاته هنا باطلة؛ لأنه لم يجتمع مع الإمام لا في ركوع ولا في اعتدال، وإن لحقه في السجود، وأما إذا لحقه في الاعتدال واجتمع معه فقد ارتكب إثماً وصلاته صحيحة؛ لعدم فحش المخالفة.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
السؤال: عندما أم الناس أبو بكر ، ثم حضر النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم. فهل هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم هو عام لأمته؟
الجواب: هذا إذا كان هناك إمام راتب وتقدم بعض الناس وصلى، ثم جاء الإمام الراتب، فلهم أن يتأخروا ويتقدم الإمام الراتب، ويبدأ من حيثما وقف، وهذه فيها مسألة طويلة، تراجع في كتب الفقه، وهو هل يراعي صلاته، وهل عليهم اتباعه؟ ولكن إذا أكملوا قبله فيقعدون في التشهد وينتظرونه حتى يكمل ويسلم بهم.
السؤال: هل يستفاد من حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بــأبي بكر في مرض موته أن الرجل إذا أتى
وزوجته تصلي، هل يدخل في الصلاة إماماً لها؟
الجواب: لا مانع إذا دخل في الصلاة ثم بعد ذلك رأت هي أن تربط صلاتها بصلاته فلا بأس.
السؤال: [ إذا لم يجلس الإمام جلسة الاستراحة، فهل للمأموم أن يجلسها ]؟
الجواب: إذا لم يجلس الإمام جلسة الاستراحة فلا يجلسها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ). وينبغي للمأموم أن يأتم بالإمام، حتى ولو كان المأموم لا يرى أن جلسة الاستراحة سنة، والإمام يرى أنها سنة، فعلى المأموم أن يوافق الإمام؛ لأنه (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
ولكن المسألة الثانية: وهو إذا خالف المأموم الإمام في جلسة الاستراحة، فجلس الإمام ولم يجلس المأموم، أو لم يجلس الإمام وجلس المأموم، كما نرى الآن أن الإمام ما يجلسها والمأمومين يجلسونها، فما حكمه؟ هل تعد مخالفة مبطلة للصلاة أو غير مخالفة؟
الجواب: قال الفقهاء: والمخالفة للإمام تنقسم إلى قسمين:
مخالفة في سنة تفحش فتطبل الصلاة، ومخالفة في سنة لا تفحش فلا تبطل الصلاة.
فالمخالفة في السنة التي تفحش مثل: أن يقعد الإمام للتشهد الأول والمأموم يقوم، أو يقوم الإمام ولم يتشهد التشهد الأول ناسياً، وهو يجلس، أو يقرأ الإمام آية سجدة فيسجد ولا يسجد المأموم، أو يقرأ آية سجدة ولا يسجد الإمام فيسجد المأموم، فصلاته هنا تبطل؛ لأنها سنة تفحش فيها المخالفة.
وأما جلسة الاستراحة فهي سنة لا تفحش فيها المخالفة، فلا تبطل بها الصلاة.
السؤال: بعض الناس يصل والإمام في الركعة الأخيرة، فيصلي معه الركعة الأخيرة ويبقى له ثلاث، فيجي شخص آخر فيأتم به الأول، فهل يصلي لوحده أو يصلي معه وتحسب له جماعة؟
الجواب: هذه المسألة في مذهب الشافعي أنه يصلي معه ويرى أنها تقع له جماعة، ولكن بعض العلماء يقول: لا تقع له جماعة، والإمام أحمد أظن أنه يقول: لا يجوز أن يصلي بعده؛ لأنه كان مقتدياً؛ لعله يشترط النية، وأما الإمام مالك فإنه يشترط نية الإمامة، وهو لم ينوِ الإمامة وإنما نوى أولاً القدوة.
فالمسألة فيها خلاف ينبني على توافق النية، هل النية في الإمامة واجبة أو غير واجبة؟ فمن قال: إن نية الإمامة واجبة على الإمام قال: لا تجوز القدوة به، والإمام الشافعي يرى أن نية الإمامة ليست واجبة على الإمام، فيقول: تجوز القدوة به.
ويفرع الإمام الشافعي على ذلك مسألة طويلة وهي في صلاة الجمعة في قوله، ( من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فقد أدرك الجمعة )، فمثلاً إذا جاء رجل وأدرك ركعة من الجمعة ثم قام ليقضي ما فاته، ثم جاء رجل لم يدرك الجمعة مع الإمام، فاقتدى بذلك الرجل لمتأخر فإنه يدرك الجمعة، وهكذا جاء آخر فاقتدى به المتأخر الذي لم يدرك الإمام فإنه يدرك الجمعة، وهكذا وهكذا حتى ينتهي الوقت. فهذه يراه الإمام الشافعي ، وذلك إذا لم ينته وقت الظهر لأنه إذا انتهى وقت الظهر بطلت الجمعة.
وأما على مذهب الإمام أحمد فإنه يرى أنه لا يقتدى به، ولا تصح القدوة به، والمسألة ليس فيها نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر