بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ الباب الرابع من الجملة الثانية، ستر العورة واللباس في الصلاة، وهذا الباب ينقسم إلى فصلين:
أحدهما: في ستر العورة.
والثاني: فيما يجزئ من اللباس في الصلاة.
الفصل الأول: ستر العورة.
اتفق العلماء على أن ستر العورة فرض بإطلاق، واختلفوا هل هو شرط من شروط صحة الصلاة أم لا؟ ] اتفقوا على أنه فرض لكن هل هو شرط من شروط صحة الصلاة؟
[ وكذلك اختلفوا في حد العورة من الرجل والمرأة؟
وظاهر مذهب مالك : أنها من سنن الصلاة وذهب أبو حنيفة و الشافعي ] وأحمد [ إلى أنها من فروض الصلاة.
وسبب الخلاف في ذلك: تعارض الآثار، واختلافهم في مفهوم قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، هل الأمر بذلك على الوجوب أو على الندب؟ ] فمالك يرى أنه على الندب فمن حمله على الوجوب قال: المراد به ستر العورة، واحتج لذلك بأن سبب نزول هذه الآية كان أن المرأة كانت تطوف بالبيت عريانة وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت الآية ] يعني: أنه كان من عادات الجاهلية واعتقاداتهم أنهم لا يطوفون بالبيت في ثياب عصي الله فيها؛ لأنها ثياب قد دنست بالمعاصي، فمن لم يجد ثياباً طاهرة من فعل المعاصي بها؛ أظهر عورته متجرداً من الثياب، تقرباً إلى الله يكشفون عوراتهم، ولكنهم مع ذلك لا يجيزون لأحد أن يتمتع بالنظر إليها وغير ذلك؛ لأنهم في باب القربة فيقولون: اليوم يبدو بعضه - يعني: بعض العورة - أو كله، ومع ذلك يقولون: وما بدا منه فلا أحله لأحد، فهو حرام ممنوع.
[ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان )، والحديث أخرجه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة .
فقوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، والزينة ليست الثياب، وإنما هي حالة في الثياب، فعبر بالحال وهو الزينة وأراد المحل وهو الثياب، فيكون المعنى: خذوا ثيابكم التي هي محل للزينة.
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، المسجد محل للصلاة، والصلاة حالة في المسجد، فعبر بالمحل وهو المسجد وأراد الحال وهي الصلاة بالعكس، ففي الزينة عبر بالحال وأراد المحل، وفي المسجد عبر بالمحل وأراد الحال.
[ ومن حمله على الندب قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء ] أي: أنه ليس المراد به ستر العورة بل المراد به التزين بالزينة الظاهرة واللباس الطيب وهكذا، [ وغير ذلك من اللباس التي هي زينة واحتج لذلك بما جاء في الحديث: ( من أنه كان رجال يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، ويقال للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً ) ] وهذا الحديث أخرجه البخاري و مسلم .
وظاهر الكلام أنه فهم من الحديث أن عوراتهم كانت تظهر بسبب أن ثيابهم كانت قصيرة ويربطونها على أعناقهم فتظهر عوراتهم، ولكن هذا لا يفهم من الحديث وإنما العورة قد ترى من الأسفل إذا كان الثوب قصيراً، ورؤية العورة من الأسفل لا تضر في الصلاة، فلو ستر الإنسان ما بين سرته وركبته وصلى على مكان مرتفع فرؤية عورته من الأسفل لا تضر الصلاة، وعلى هذا فالحديث ليس فيه دلالة على المطلوب؛ لأنه يحتمل أن الثياب كان ساتراً لمحل الفرض، إلا أنه مع عقده على العاتق وتراخي المصلي لو رفع النساء قبل الرجال فإنهن قد يرين عورات الرجال من الأسفل.
[ قالوا: ولذلك ] يعني: ومن الأدلة [ من لم يجد ما به يستر عورته لم يختلف في أنه يصلي ]، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) [ واختلف فيمن عدم الطهارة هل يصلي أم لا؟ ].
واتفقوا على أن من لم يجد شيئاً يستر به عورته أنه يصلي أما من عدم الطهارة فاختلفوا في شأنه، فقال بعضهم: إن من عدم الطهارة ليس عليه أن يعيد الصلاة، ولكن الراجح من أقوال العلماء أنها شرط أما الفاقد للطهورين الماء والتراب فيصلي وصلاته صحيحة.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما المسألة الثانية: وهي: حد العورة من الرجل، فذهب مالك و الشافعي ] وكذلك أحمد [ إلى أن حد العورة ما بين السرة والركبة، وكذلك قال أبو حنيفة وقال قوم: العورة هي السوأتان فقط من الرجل ] والسوأتان هما: القبل والدبر.
[ وسبب الخلاف في ذلك أثران متعارضان كلاهما ثابت:
أحدهما: حديث جرهد ] وهذا الحديث صحيح، وأخرجه الطيالسي و أحمد و الدارمي [ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الفخذ عورة )، والثاني: حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه وهو جالس مع أصحابه ).
قال البخاري : حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط، وقد قال بعضهم: العورة: الدبر والفرج والفخذ ].
وحديث أنس هذا ليس فيه التصريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كشف فخذه في الصلاة، وإنما حادثة هذا الحديث حصلت خارج الصلاة.
فالراجح هو: أن العورة في الصلاة ما بين السرة والركبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: ( صلى بهم صلاته كلها ساتراً ما بين السرة والركبة، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي ).
قال المصنف رحمه الله: [ وأما المسألة الثالثة: وهي حد العورة في المرأة:
فأكثر العلماء على أن بدنها كله عورة، ما خلا الوجه والكفين ] يعني: في الصلاة، أما خارج الصلاة فبدنها كله عورة، حتى الوجه والكفين [ وذهب أبو حنيفة إلى أن قدمها ليست بعورة ] ولكن الراجح: أن القدم عورة.
[ وذهب أبو بكر بن عبد الرحمن و أحمد : إلى أن المرأة كلها عورة ] يعني: في الصلاة وفي خارج الصلاة، لكن الشافعي فصل في ذلك فقال: إن العورة عورتين للمرأة: عورة في الصلاة ما عدا الوجه والكفين، وعورة خارج الصلاة وهي: جميع بدنها حتى الوجه والكفين، والمرأة لها ثلاث عورات: عورة مخففة، وعورة وسط، وعورة مغلظة، كما أن الرجل كذلك، له عورات.
فعورة المرأة المخففة: الوجه والكفين؛ فإنه يجوز إظهارها في بعض الحالات، كحالة الشهادة فيجوز لها أن تظهر وجهها وكفيها، وفي حالة الخطبة إذا خطبت فللخاطب أن ينظر إلى وجهها وكفيها، وفي حالة الإحرام تبرز وجهها وكفيها، لكن عند الرجال يجب ستر وجهها وكفيها.
وعورة أخرى أعلى من المخففة وهي: ما يجوز لمحارم النساء النظر إليها.
والعورة المغلظة وهي: التي لا يجوز لأحد إلا لزوجها أن ينظر إليها.
قال رحمه الله: [ وسبب الخلاف في ذلك الاحتمال في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، هل هذا المستثنى المقصود منه أعضاء محدودة، أم إنما المقصود به ما لا يملك ظهوره؟ فمن ذهب إلى أن المقصود من ذلك ما لا يملك ظهوره عند الحركة قال: بدنها كله عورة حتى ظهرها ].
ولعل معنى كلامه هذا: أن بدنها كله عورة حتى ما ظهر من الثياب، إذا كانت مزينة فهي عورة؛ كما في الآية قال تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31].
[ واحتج لذلك بعموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59].
ومن رأى أن المقصود من ذلك ما جرت به العادة بأنه لا يستر وهو الوجه والكفان؛ ذهب إلى أنهما ليسا بعورة ]
واختلفوا في أنهما ليسا بعورة في الصلاة أو ليسا بعورة مطلقاً؟ فمن العلماء -ومنهم الشيخ ناصر الدين الألباني - من يقول: إنهما ليسا بعورة مطلقاً، والراجح: أنهما ليسا بعورة في الصلاة فقط.
[ واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج ] فقال بناءً على ذلك: إنها ليست بعورة.
وعلى كل حال! فالافتتان بعورات النساء يختلف باختلاف البلدان، ففي بعض البوادي والقرى نساء فقيرات يذهبن إلى المزارع يحصدن ويعملن، وما يلبسن لباساً ملفتاً للأنظار، فهؤلاء يتسامح في حقهن في إظهار الوجه والكفين؛ لأن الفتنة بها قد تكون قليلة مقارنة بغيرها، ولكن ليس لها الخلطة بالرجال فما نقول لها: أنت ما تذهبي ترعي، وتذهبي تحصدي الحصاد وتجذي الجذاذ إلا وأنت مسربلة؛ لأنها لا تستطيع العمل وهي على حالٍ من الستر يعيقها عن العمل، فتوسع في حقها بقدر الحاجة ما لا يتوسع في حق نساء المدن؛ لأنهن أكثر فتنة، وهذا إنما هو مراعاة للواقع.
فإن قال قائل: هل الصحابيات كن يصلين محجبات لوجوههن وكفوفهن أو يصلين كاشفات؟
فالجواب على ذلك: أنهن كن كاشفات لوجوههن وكفوفهن أثناء الصلاة.
وهناك مسألة وهي: إذا كانت المرأة تصلي وحدها في بيتها فليس لها أن تكشف رأسها أو قدميها أو غير الوجه والكفين أثناء الصلاة؛ لأنه عورة في الصلاة. ولو كانت المرأة في خدرها، فمثلاً لو أن إنساناً كان في مكان وحده فهل يجوز له أن يكشف ما عدا سوأته في الصلاة؟! لا، لكن يجوز له أن..
والفخذ داخل الصلاة عورة وخارجها عورة مخففة بالنسبة للرجال، وقد يجوز ظهورها للحاجة، مثل: الحرب والكر والفر فلو ظهرت أثناء ذلك فلا بأس. وتختلف باختلاف الناس، فمثلاً أثناء الرياضة أو في المسبح وأمثال ذلك فلا ينبغي.
السؤال: إذا كانت المرأة في الحج وأرادت أن تغطي وجهها وكفيها فهل يجوز لها ذلك؟
الجواب: إذا دنى منها الرجال فلها أن تغطي وجهها وكفيها بغير النقاب أما إذا كان الرجال بعيدين عنها فليس لها أن تغطي وجهها وكفيها.
السؤال: ما هي العورة التي يجوز لمحارم المرأة أن ينظروا إليها؟
الجواب: وهي العورة التي تظهر عند عملها مثل: وجهها وكفيها وصدرها وذراعيها وساقيها، يجوز لها ذلك ولا مانع من أن تضع الخمار على وجهها عند حضورهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر