إسلام ويب

كتاب الصلاة [4]للشيخ : محمد يوسف حربة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جاءت الشريعة بوجوب الصلاة واشترطت لصحتها الطهارة، فمن عدمها بأن يكون فاقداً للطهورين فقد اختلف العلماء فيه هل يصلي أو لا يصلي، ومن أباح له الصلاة اختلفوا في الإعادة عليه إن وجد ماءً أو تراباً.

    1.   

    الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الفصل الثاني من الباب الأول: في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.

    وهذه الأوقات اختلف العلماء منها في موضعين: أحدهما: في عددها. والثاني: في الصلوات التي يتعلق النهي عن فعلها فيها.

    المسألة الأولى: عدد الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.

    اتفق العلماء على أن ثلاثة من الأوقات منهي عن الصلاة فيها، وهي: وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، ومن لدن تصلى صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ].

    فعند طلوع الشمس، وعند الغروب، وبعد صلاة الصبح، هذا محل اتفاق بين العلماء: على أن الصلاة منهي عنها.

    أقوال العلماء في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

    قال المصنف رحمه الله: [ واختلفوا في وقتين: في وقت الزوال، وفي الصلاة بعد العصر; فذهب مالك وأصحابه إلى أن الأوقات المنهي عنها هي أربعة: الطلوع، والغروب، وبعد الصبح، وبعد العصر، وأجاز الصلاة عند الزوال ].

    فأوقات النهي عند مالك أربعة، واستثنى من الأوقات الخمسة الزوال.

    [ وذهب الشافعي إلى أن هذه الأوقات خمسة كلها منهي عنها، إلا وقت الزوال يوم الجمعة، فإنه أجاز فيه الصلاة، واستثنى قوم من ذلك الصلاة بعد العصر ].

    فقالوا: تجوز، يعني: ما دامت الشمس مرتفعة، أما أبو حنيفة و أحمد فقالوا: إن الصلاة منهي عنها في الخمسة الأوقات من غير استثناء جمعة ولا غيرها.

    سبب اختلاف العلماء في أوقات النهي

    قال المصنف رحمه الله: [ وسبب الخلاف في ذلك أحد شيئين: إما معارضة أثر لأثر وإما معارضة الأثر للعمل ].

    يعني: إما أن الآثار تعارض بعضها بعضاً أو تتعارض مع عمل أهل المدينة.

    [ عند من راعى العمل ].

    وهو مالك .

    [ أعني: عمل أهل المدينة، وهو مالك بن أنس ، فحيث ورد النهي ولم يكن هناك معارض لا من قول ولا من عمل اتفقوا عليه، وحيث ورد المعارض] من القول أو العمل [ اختلفوا.

    أما اختلافهم في وقت الزوال ].

    فـمالك لا يقول بالنهي عن الصلاة في وقت الزوال مطلقاً.

    [ فلمعارضة العمل فيه للأثر ].

    يعني: عمل أهل المدينة، فأنهم كانوا يصلون وقت الزوال في كل يوم، فهذا العمل أخذ به مالك .

    [ وذلك أنه ثبت من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال: ( ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها، أو أن نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب ). خرجه مسلم ].

    نهى عن هذه الخمسة الأوقات.

    [ وحديث أبي عبد الله الصنابحي في معناه، ولكنه منقطع ].

    والحديث الأول صحيح.

    [ خرجه مالك في موطئه] وهو حديث صحيح.

    [ فمن الناس من ذهب إلى منع الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة كلها، ومن الناس من استثنى من ذلك وقت الزوال ].

    إما بإطلاق وهو مالك ، وإما في يوم الجمعة فقط وهو الشافعي ].

    أما أبو حنيفة و أحمد فلم يستثنوا شيئاً.

    [ أما مالك فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث، أعني: الزوال، أباح الصلاة فيه، واعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل ].

    ليس النسخ بعمل أهل المدينة إنما المراد بحديث كان يحفظه أهل المدينة فعملوا به؛ لأن عمل المدينة المجرد لا ينسخ النصوص.

    [ وأما من لم ير للعمل تأثيراً، فبقي على أصله في المنع ].

    وهما كما قلنا أحمد و أبو حنيفة .

    [ وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي، وهو الذي يدعى بأصول الفقه].

    منها: منهاج الأدلة في علم الأصول، قال: تكلم عن عمل أهل المدينة هل يقوى على معارضة الحديث أم لا يقوى؟ الراجح عند أهل الأصول: أن عمل أهل المدينة لا يقوى على معارضة الآثار.

    [ وأما الشافعي ].

    الذي استثنى يوم الجمعة.

    [ فلما صح عنده ما روى ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر ، ومعلوم أن خروج عمر كان بعد الزوال على ما صح ذلك من حديث الطنفسة التي كانت تطرح على جدار المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب ].

    يقول: إنهم كانوا يصلون.

    كذلك ما ورد من الأمر بالتبكير إلى صلاة الجمعة، والحث على الصلاة فيها حتى يخرج الإمام، فهذا يدل على أن الصلاة مستثناة في وقت الاستواء يوم الجمعة.

    [ مع ما رواه أيضاً عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة ) ].

    وهذا نص في المسألة وقد أخرجه الشافعي ، لكن لو كان هذا الحديث صحيحاً لكان نصاً يحتج به على الأئمة أبي حنيفة و أحمد ، ولكن الحديث ضعيف فإن فيه إبراهيم بن محمد بن يحيى وهو كذاب رافضي، ومع هذا فقد كان الإمام الشافعي لا يعرف عنه أنه كذاب فكان يأخذ عنه.

    [ استثنى من ذلك النهي يوم الجمعة ].

    يعني: الشافعي .

    [ وقوى هذا الأثر عنده العمل في أيام عمر بذلك].

    وقال الحافظ : إن العمل كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم.

    [ وإن كان الأثر عنده ضعيفاً.

    وأما من رجح الأثر الثابت في ذلك، فبقي على أصله في النهي ].

    من غير استثناء.

    [ وأما اختلافهم في الصلاة بعد صلاة العصر؛ فسببه تعارض الآثار الثابتة في ذلك ].

    آثار فيها أنه صلى، وآثار أنه نهى.

    [ وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما: حديث أبي هريرة المتفق على صحته ] الذي أخرجه البخاري و مسلم .

    [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ) ].

    وهذا الحديث ظاهر.

    [ والثاني: حديث عائشة قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتين في بيتي قط سراً ولا علانية: ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر ] فهذا يدل على أنه داوم عليها حتى توفي.

    [ فمن رجح حديث أبي هريرة قال بالمنع، ومن رجح حديث عائشة أو رآه ناسخاً; لأنه العمل الذي مات عليه صلى الله عليه وسلم قال بالجواز. وحديث أم سلمة ].

    الذي رواه البخاري و مسلم [ يعارض حديث عائشة ] لأنه يقول: أنه قضاء.

    [ وفيه: أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر، فسألته عن ذلك فقال: ( إنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما هاتان)].

    إذاً: هذا الحديث يدل على جواز القضاء، وقوله صلى الله عليه وسلم في الركعتين بعد العصر (هاتان): قال الحافظ في الفتح: وأجاب من أطلق الكراهة بأن فعله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على جواز استدراك ما فات من الرواتب من غير كراهة، وأما مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك فهو من خصائصه، والدليل عليه ما رواه ذكوان مولى عائشة : ( أنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ). رواه أبو داود ، ورواية أبي سلمة عن عائشة نحو هذه القصة، وفي آخرها: ( وكان إذا صلى صلاة أثبتها ). رواه مسلم ، فقوله: (أثبتها)، يدل أن المداومة كانت من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدل على جواز قضاء النوافل بعد العصر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً في وقت لا يتركه، فالمداومة في هذه الوقت من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قضاء الفوائت جائز.

    الراجح في عدد الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

    الراجح أن الذي يتحصل من الأخبار أن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها خمسة: عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبعد الصبح، وبعد صلاة العصر، وعند الاستواء إلا يوم الجمعة، وذلك لما رواه البخاري وغيره في الأوقات الأربعة: عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يتحرَ أحدكم فيصلي عند غروب الشمس ولا عند طلوعها )، وعن أبي سعيد الخدري كذلك رواه البخاري و مسلم قال: وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس ).

    وأما وقت الاستواء فلما رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر ، ولفظه: ( وحين يقوم قائم الظهيرة حتى ترتفع )، ورواه أيضاً من حديث ابن أبزى ولفظه: ( حتى .... قيد رمح فإذا أقبل الليل فصل ) وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: أن الصلاة في هذه الأوقات منهي عنها، أبو حنيفة و الشافعي و أحمد ، وقال مالك : ما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار، وأما استثناء الشافعية يوم الجمعة، فحجته أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى التبكير في يوم الجمعة، ورغب في الصلاة إلى خروج الإمام، وجعل الغاية خروج الإمام وهو لا يخرج إلا بعد الزوال، فدل على عدم الكراهة، أما أبو حنيفة و أحمد : فلم يستثنيا يوم الجمعة، وقالا: هو كبقية الأيام في كراهية الصلاة، وذهب ابن عمر و علي إلى جواز الصلاة بعد العصر مطلقاً ما دامت الشمس مرتفعة حية، وتبعهما ابن حزم وشيخنا الألباني ، واستدلوا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الصلاة بعد العصر والشمس مرتفعة )، رواه أبو داود و النسائي وغيرهما، وصححه ابن حزم و العراقي و الحافظ وشيخنا، هذه في ثلاث ظاهرة: على أنه ما دامت الشمس حية فهو يصلي.

    1.   

    الصلاة المنهي عنها في أوقات النهي

    قال المصنف رحمه الله: [ اختلف العلماء في الصلاة التي لا تجوز في هذه الأوقات، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجوز في هذه الأوقات صلاة بإطلاق، لا فريضة مقضية ولا سنة ولا نافلة إلا عصر يومه ].

    فقط، أي: إن فاتك العصر فإنك تصلي قبل غروب الشمس بركعة، أما الصبح فلا تصله، بل تتركه حتى تطلع الشمس، هكذا يقول أبو حنيفة .

    [ قالوا: فإنه يجوز أن يقضيه عند غروب الشمس إذا نسيه ]، أي: صلاة العصر.

    [ واتفق مالك و الشافعي ]. وكذلك أحمد . [ أنه يقضي الصلوات المفروضة في هذه الأوقات، وذهب الشافعي إلى أن الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي النوافل فقط التي تفعل لغير سبب ].

    مذهب الشافعية جواز الصلوات كلها إلا صلاة النافلة التي لا سبب لها في هذه الأوقات فلا تجوز، أما قضاء فريضة أو قضاء سنة، أو تحية المسجد فيجوز.

    [ وأن السنن مثل صلاة الجنازة تجوز ]. أطلق لفظ السنة على صلاة الجنائز مع أنها فرض كفاية؛ لأن المالكية يطلقون على فرض الكفاية سنة مؤكدة.

    [ وأن السنن مثل صلاة الجنازة تجوز في هذه الأوقات، ووافقه مالك في ذلك بعد العصر وبعد الصبح ]. يعني: وافقه في السنن فقط، في السنن يعني: في الرواتب في صلاة الجنازة وغيرها، أما ذات الأسباب مثل: تحية المسجد فلم يوافقه.

    [ وأن السنن مثل صلاة الجنازة تجوز في هذه الأوقات، ووافقه مالك وذلك بعد العصر وبعد الصبح أعني في السنن، وخالفه في التي تفعل لسبب مثل ركعتي المسجد، فإن الشافعي يجيز هاتين الركعتين بعد العصر وبعد الصبح، ولا يجيز ذلك مالك ].

    قالوا: لنا حكاية والله أعلم بصحتها، السبب في أن الإمام ابن حزم وكان عالماً كبيراً درس الفقه أن المالكية لا يجيزون تحية المسجد في هذه الأوقات فدخل يوماً في غير هذه الأوقات، وجلس فقالوا له: قم فصلِ تحية المسجد فقام وصلى، فجاء يوم في الخمسة الأوقات فركع فقالوا: لماذا تصلي هذه الصلاة في هذه الوقت؟ لا يجوز لك أن تصليها في هذا الوقت، فدفعه ذلك إلى الدراسة حتى صار شيخاً، فإذاً المالكية ما يجيزون تحية المسجد في هذه الأوقات.

    [ فإن الشافعي يجيز هاتين الركعتين بعد العصر وبعد الصبح، ولا يجيز ذلك مالك ، واختلف قول مالك في جواز السنن عند الطلوع والغروب ].

    أي: تجوز السنن في الأوقات الخمسة، إلا عند الغروب وعند الطلوع فلا، يعني: صلاة الجنازة والتحية.

    [ وقال الثوري في الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات: هي ما عدا الفرض]. وافق أبا حنيفة .

    [ ولم يفرق سنة من نفل، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال:

    قول هي الصلوات بإطلاق ]. ما عدا عصر يومه.

    [ وقول: إنها ما عدا المفروض سواء أكانت سنة أو نفلاً ]. ما عدا الفروض الذي يجد الفروض، أما السنن والنوافل ما تجوز.

    [ وقول: إنها النفل دون السنن]. النفل يعني: المطلق دون السنن، مثل: الجنازة، ومثل الرواتب.

    [ وعلى الرواية التي منع مالك فيها صلاة الجنائز عند الغروب قول رابع، وهو أنها النفل فقط بعد الصبح والعصر ].

    النفل يجوز فقط بعد الصبح والعصر.

    [ والنفل والسنن معاً عند الطلوع والغروب ].

    ذكر سبب الخلاف في الصلوات المنهي عنها في أوقات الكراهة

    قال المصنف رحمه الله: [ وسبب الخلاف في ذلك: اختلافهم في الجمع بين العمومات المتعارضة في ذلك ].

    عمومات متعارضة، عمومات تأمر بالصلاة، وعمومات تنهى عن الصلاة.

    [ أعني الواردة في السنة، وأي يخص بأي؟] هل نخص جواز الصلوات أو النهي عن الصلوات.

    [ وذلك أن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا نسي أحدكم الصلاة فليصلها إذا ذكرها)]. هذا خاص في الصلاة الفائتة وعام في جميع الأوقات: ( فليصلها إذا ذكرها)، عام في جميع الأزمان.

    [ يقتضي استغراق جميع الأوقات ]، وذلك عند طلوع الشمس أو عند غروبها، وعند استواء الشمس أو بعد العصر أو أي وقت.

    [ وقوله في أحاديث النهي في هذه الأوقات: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها )]. أي: في هذه الأوقات الخمسة، فهو خاص في الأزمان عام في جميع الصلوات.

    [ يقضي أيضاً عموم أجناس الصلوات المفروضات والسنن والنوافل، فمتى حملنا الحديثين على العموم في ذلك وقع بينهما تعارض ]. في الصلاة في هذه الأوقات.

    [ وقع بينهما تعارض هو من جنس التعارض الذي يقع بين العام، والخاص، إما في الزمان، وإما في اسم الصلاة. فمن ذهب إلى الاستثناء في الزمان: أعني استثناء الخاص من العام ]. الذي هو الزمن من العام الذي هو الصلاة.

    [ منع الصلوات بإطلاق في تلك الساعات]. قال: على أنا استثنينا هذه الأزمان الخمسة من الصلوات، فالصلاة مباحة إلا في هذه الأوقات الخمسة فهي مستثناة.

    [ ومن ذهب إلى استثناء الصلاة المفروضة المنصوص عليها بالقضاء من عموم اسم الصلاة المنهي عنها]. قال: الصلاة جميعها منهي عنها في هذه الأزمان الخمسة، ولكن أستثني القضاء في الفائت.

    [ منع ما عدا الفرض في تلك الأوقات. وقد رجح مالك مذهبه من استثناء الصلوات المفروضة من عموم لفظ الصلاة ].

    مالك ترجح مذهبه بقوله: ( أن من أدرك من العصر ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر )، قال: الفريضة مستثناة من عموم الصلاة.

    [ وقد رجح مالك مذهبه من استثناء الصلوات المفروضة من عموم لفظ الصلاة بما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر )، ولذلك استثنى الكوفيون عصر اليوم من الصلوات المفروضة]. مالك قال: أي صلاة، والكوفيون قالوا: بصلاة العصر فقط.

    [ ولذلك استثنى الكوفيون عصر اليوم من الصلوات المفروضة، لكن قد كان يجب عليهم أن يستثنوا من ذلك صلاة الصبح أيضاً للنص الوارد فيها ]. أي قوله: ( من أدرك ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ).

    ما لكم يا أحناف تعملون بجزء من الحديث وتتركون جزءاً تقولون: يصلي عصر يومه ولا يصلي صبح يومه، هذا تفريط، فالحديث واحد، فكيف تأخذون بعضه وترمون بعضه؟ قالوا: لنا رأي في ذلك؛ لأن العصر إذا صلى منها ركعة وغربت الشمس دخل في الوقت المباح، لأن الصلاة بعد غروب الشمس مباحة أما الصبح فلو صلى ركعة وطلعت الشمس دخل في الوقت الحرام، لأن الصلاة عند طلوع الشمس حتى ترتفع حرام، فلما رأيناه يدخل في الحرام منعناه من الحرام هذا كلامهم، واستدلوا بحديث آخر، لم يذكره المؤلف: وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرقب لنا الوقت يومنا هذا )، قال بلال : أنا، فنام النبي صلى الله عليه وسلم ونام الجند، وقعد بلال يرقب الوقت واستند إلى راحلته فما أيقض الجميع إلا الشمس، يعني: الشمس ارتفعت، فقاموا، فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من ذاك الوادي، وقال: ( إن هذا واد حضره الشيطان )، فخرجوا، ولما خرجوا من الوادي صلوا الصبح، قال الحنيفة: إنما أمرهم بالخروج؛ لأن ذلك الوقت وقت طلوع الشمس قبل الارتفاع، فهذا دليل أنها لا تصلى في هذا الوقت وتؤخر حتى يذهب هذا الوقت، عرفتم هذا؟ وأجاب أهل الحديث على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نص على العلة، فلماذا تعللون بعلة لم ينص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: ( إن هذا الوادي حضره الشيطان )، وأنتم لا تعلمون المحل الذي يحضره الشيطان، وهذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم المواضع التي يحضرها الشيطان، ولو قلنا: إنه عام لقلنا: من نام في بيته وطلعت الشمس، فليخرج من بيته إلى موضع آخر يصلي فيه الصبح، ولكنا لا ندري هل حضرنا الشيطان أو غلبنا النوم، فهذا ليس فيه دليل للحنيفة.

    الشيخ: ها.

    [ ولذلك استثنى الكوفيون عصر اليوم من الصلوات المفروضة، لكن قد كان يجب عليهم أن يستثنوا من ذلك صلاة الصبح أيضاً للنص الوارد فيها، ولا يردوا ذلك برأيهم من أن المدرك لركعة قبل الطلوع يخرج للوقت المحظور والمدرك لركعة قبل الغروب يخرج للوقت المباح. وأما الكوفيون ]. غُلب الكوفيون والآن يريد الكوفيون أن يغلبوا الجمهور.

    [ وأما الكوفيون فلهم أن يقولوا: إن هذا الحديث ليس يدل على استثناء الصلوات المفروضة من عموم اسم الصلاة التي تعلق النهي بها في تلك الأيام؛ لأن عصر اليوم ليس في معنى سائر الصلوات المفروضة ].

    قالوا: الحديث: (من أدرك ركعة من العصر)، أو ( أدرك ركعةً من الفجر)، يدل على قضاء تلك الصلاة، وأنتم أيها الأئمة الثلاثة عممتموه في جميع الصلوات، هذا كلام الأحناف.

    [ لأن عصر اليوم ليس في معنى سائر الصلوات المفروضة، وكذلك كان لهم أن يقولوا في الصبح لو سلموا أنه يقضى في الوقت المنهي عنه ]، لكنهم سكتوا.

    [ فإذاً الخلاف بينهم آيل إلى أن المستثنى الذي ورد به اللفظ، هل هو من باب الخاص أريد به الخاص؟].

    أي: خاص بالصبح والعصر.

    [ أم من باب الخاص أريد به العام؟].

    أي: وإن ورد في الصبح والعصر فإن المراد به قضاء الصلوات المفروضة.

    [ وذلك أن من رأى أن المفهوم من ذلك هي صلاة العصر والصبح فقط المنصوص عليهما، فهو عنده من باب الخاص أريد به الخاص، ومن رأى أن المفهوم من ذلك ليس هو صلاة العصر فقط، ولا الصبح بل هي جميع الصلاة المفروضة، فهو عنده من باب الخاص أريد به العام، وإذا كان ذلك كذلك فليس هاهنا دليل قاطع على أن الصلوات المفروضة هي المستثناة من اسم الصلاة الفائتة، كما أنه ليس هاهنا دليل أصلاً لا قاطع ولا غير قاطع على استثناء الزمان الخاص الوارد في أحاديث النهي ].

    يقول: ليس لكم يا حنيفة دليل، ولا لكم يا أئمة دليل؛ لأن الأحناف يقولون: إنه من باب الخاص أريد به الخاص، والأئمة الثلاثة يقولون: إنه من باب الخاص أريد به العام، ولا نستطيع أن نرجح لكم أحد القولين.

    [ قاطع على استثناء الزمان الخاص الوارد في أحاديث النهي من الزمان العام الوارد في أحاديث الأمر، دون استثناء الصلاة الخاصة المنطوق بها].

    وهي العصر والصبح.

    [ في أحاديث الأمر من الصلاة العامة المنطوق بها في أحاديث النهي ].

    النهي عن كل الصلوات.

    [ وهذا بيّن، فإنه إذا تعارض حديثان في كل واحد منهما عام وخاص لم يجب أن يصار إلى تغليب أحدهما إلا بدليل ].

    إذاً: نقف في هذه المسألة ولا نرجح لا مذهب الأحناف ولا مذهب الجمهور.

    [ لم يجب أن يصار إلى تغليب أحدهما إلا بدليل أعني: استثناء خاص هذا من عام ذاك، أو خاص ذاك من عام هذا، وذلك بين والله أعلم ].

    ذكر الراجح في مسألة الصلوات المنهي عنها في وقت الكراهة

    وهنا توضيح ما قاله المؤلف مع الترجيح، إن أحاديث النهي عن الصلاة خاصة بالأزمان عامة في الصلوات، وأحاديث الأمر بالصلاة عامة في الأزمان خاصة في الصلاة، فتعارض حديثان في كل واحد منهما عموم من وجه وخصوص من وجه، فلا يجوز أن يصار إلى تغليب أحدهما على الآخر إلا بدليل خارجي مرجح، هكذا قال المؤلف، وقد أتيت بالمرجح للحنفية، وبالمرجح لـمالك و أحمد ، وبالمرجح لـلشافعي ، واعتمدت ما رجحه الشافعي .

    أولاً الحنيفة: فبعضهم غلب أحاديث النهي على أحاديث الأمر، أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، على أحاديث الأمر بالصلاة في هذه الأوقات تغليباً لجانب الحضر، بدليل أن النهي لا يباح بحال، أما الأمر فموكول إلى الاستطاعة، وهذا دليل لمن قال بمنع صلاة النفل والفرض في هذه الأوقات ما عدا عصر يومه وهم الحنفية، إذاً ما وجه ترجيحهم؟ رجحوا أحاديث النهي على أحاديث الأمر، وبعضهم خصص عموم الأزمان بخصوص الصلوات، وخصص عموم الصلوات بخصوص الأزمان، فخصص أحاديث النهي عن كل صلاة بخصوص أحاديث الأمر بالصلاة الوارد في الأمر بها، وخص عموم الأزمان في أحاديث الأمر بالصلاة بخصوص الأزمان الخمسة الوارد في أحاديث النهي، وهو كل من قال: بجواز الصلاة الوارد فعلها في هذه الأوقات، قال: كل صلاة ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها في هذه الأوقات فهي مخصة من هذه الأوقات، مثل: قضاء الفوائت، فإنه قد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم الفوائت في هذه الأوقات، وقد أقر بذلك، ومثل صلاة الجنازة.

    ومثل: قضاء الفوائت كسنة الفجر، وقضاء السنن الراتبة بعد العصر، وقضاء الفرائض، قال: هذا يجوز، وممن قال بهذا: مالك و أحمد ، قالوا: تستثنى قضاء السنن الرواتب وصلاة العصر وقضاء الفرائض، وقال: بمنع كل صلاة لا سبب لها، وقال: بمنع كل صلاة لها سبب لم يرد خبر بطلب صلاتها في هذه الأوقات، إذاً: قالوا: يجوز قضاء الفرض، ويجوز قضاء الرواتب ولا تجوز تحية المسجد؛ لأنه لم يرد حديث خاص بصلاتها في هذا الوقت، وإنما عموم الحديث قلنا تصلى، لكن صلاة بذاتها وردت صلاتها في هذه الأوقات لا يجوز.

    فملخص كلام أحمد و مالك قالوا: أن هذه الأحاديث أحاديث النهي عامة في الصلوات خاصة في الأزمان، وهناك صلوات وردت بعينها أن تصلى في هذه الأوقات، مثل: حديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر، ومثل: الحديث الذي قضى كذلك سنة الفجر بعد الفجر وأقره، ومثل: قضاء الفريضة قالوا: فهذه يجوز صلاتها، أما تحية المسجد فلا تجوز؛ لأنه لم ترد بخصوصها في هذه الأوقات، إنما وردت بعمومها فقط، فنحن نرجح عموم النهي على عموم الأمر بتحية المسجد.

    أما الشافعي فله طريقة أخرى في الترجيح، غير ما سلكه من تقدمه من الأئمة الثلاثة، وهي: أنه قال: في ترجيحه حال كونه راداً على ما قاله أبو حنيفة ، أبو حنيفة قال: تعارض أمر ونهي فنقدم النهي عن الأمر، قال له: يا أبا حنيفة تعارض نهي ونهي، ليس أمر ونهي، تعارض نهي ونهي وهو: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )، فهنا تعارض نهي ونهي، فكيف تخرج منهما؟ هذا رد من الشافعي على الأحناف.

    كما في حديث النهي عن الجلوس في المسجد حتى يصلي ركعتين، فلا وجه حينئذٍ لما قاله أبو حنيفة ، من تغليب جانب النهي على جانب الأمر، إذاً أطاح بمذهب الأحناف، ثم سلك بالعمل بطريقةً أخرى، وهي: أنه إذا تعارض عامين، أحدهما قد خصص والآخر لم يخصص، فإن العام الذي قد خصص يضعف عمومه، أما العام الذي لم يخصص فعمومه أقوى من العام المخصص، إذاً النهي عن الصلوات في هذه الأوقات هذا عام قد خصص.

    وأما النهي: ( لا يجلس أحدكم حتى يصلي ركعتين)، هذا عام لم يخصص من وجه، حتى في وقت يحرم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب عليك أن تصلِي الركعتين. ولو رأيت منكراً، ( من قال لصاحبه: أنصت فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له )، هذا منكر فقد نهي عنه، لكن الركعتين تصليهما، إذاً حديث النهي عن الجلوس قبل صلاة ركعتين عام لم يخصص، وحديث النهي عن الصلوات في أوقات الكراهة عام قد خصص، إذاً فأي الحديثين أقوى؟

    قال الشافعي : ثم سلك في العمل بها طريقة أخرى، ولأنه قال: إذا تعارض عامين أحدهما قد خصص والآخر لم يخصص فإن العام الذي قد خصص يضعف عمومه، أما العام الذي لم يخصص فعمومه أقوى من العام المخصص، ثم قال: إن أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات قد خصص عمومها بالفعل وبالقول وبالتقرير من الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الفعل: فصلاته صلى الله عليه وسلم بعد العصر كما في الصحيح، عن عائشة و أم سلمة ، وأما القول: فبحديث جبير بن مطعم : أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار )، رواه أحمد والأربعة وصححه شيخنا في الإرواء.

    وأما التقرير: فإقراره لمن صلى سنة الصبح بعد صلاة الصبح. رواه الترمذي عن قيس بن سعيد بن سعد وقال: إسناده ليس بمتصل، وأخرجه متصلاً ابن خزيمة في صحيحه و ابن حبان و الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وصححه شيخنا في الدرس.

    وأخرج ابن حزم في المحلى عن رجل من الأنصار وحسنه العراقي ، الرجل الذي صلى لعله من الأنصار ولعله هذا، وقال: العراقي سنده حسن. وبهذا ضعف عموم أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، أما تحية المسجد فإن النهي عن الجلوس قبل صلاتها يعم جميع الأوقات، وهذا النهي لم يخصص، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها في زمن يمنع فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو وقت خطبة الجمعة، فلهذا كان طلبها أقوى من أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، فتخص تحية المسجد من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، ثم إنه نظر في الصلاة التي قد خصصت من عموم النهي إلى المعنى، وقال: إنها من باب الخاص أريد به العام، والمعنى الذي نظر فيه الشافعي : هو أن هذه الصلوات المعمول بها في هذه الأوقات من قضاء الفائت من السنن، وسنة الطواف وتحية المسجد ذات أسباب، منها: ما هو مقارن كتحية المسجد، ومنها: ما هو متقدم كسنة الطواف، يعني: الأسباب ثلاثة: إما أن يكون مقارناً، كتحية المسجد وصلاة الكسوف، أو متقدماً: كالفائتة وكالطواف.

    والثالث: السبب المتأخر كسنة الإحرام، هذه سببها متأخر، هذا قال: لا تجوز؛ لأنك قد تحرم وقد لا تحرم، فقال: فيلحق بها كل صلاة لها سبب متقدم أو مقارن، والذي يمنع منه في هذه الأوقات هو النفل المطلق فقط، والصلاة التي لها سبب متأخر كسنة الإحرام، وبنحو هذا ما قرره شيخنا ناصر الدين في الدرس مرجحاً لصلاة التحية في هذه الأوقات؛ لأن النهي فيها لم يخصص بوجه ما، ونقل هذا الطريقة عن الحازمي في الاعتبار، قال: إن الحازمي قال في الاعتبار: أنه إذا تعارض عامين أحدهما قد خصص والآخر الذي لم يخصص فإنا نقدم العمل بالعام الذي لم يخصص على العام الذي قد خصص، هذا وجه الترجيح في هذه الصلوات.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765799582