الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك على سدنا محمد, وسلم تسليماً كثيراً.
قال المصنف رحمه الله: [ الباب السادس في آداب الاستنجاء: وأما آداب الاستنجاء ودخول الخلاء، فأكثرها محمولة عند الفقهاء على الندب، وهي معلومة من السنة كالبعد في المذهب إذا أراد الحاجة ].
جاء في حديث عن المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد ). رواه أبو داود و الترمذي و النسائي وهو حديث حسن.
[ وترك الكلام عليها ]. وهذا قد ورد فيه حديث، ولكنه ضعيف وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفان عورتهما يتحدثان, فإن الله عز وجل يمقت على ذلك ), أخرجه أبو داود , ولكن يغني عنه الحديث الصحيح: ( أن رجلاً مر على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على حاجته فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام, وبعد أن قضى حاجته صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتني على مثل هذا فلا تسلم عليّ ), فالشاهد منه قوله: ( إذا رأيتني على مثل هذا ), وأما عدم رده للسلام؛ لأنه من الذكر، والذكر منهي عنه عند قضاء الحاجة، وكذلك لا يتكلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالمعروف إلا بعد ما أنهى حاجته. صلى الله عليه وسلم.
[ والنهي عن الاستنجاء باليمين وألا يمس ذكره بيمينه ].
فقد أخرج البخاري و مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً: ( إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه, ولا يستنجِ بيمينه, ولا يتنفس في الإناء ).
[ وغير ذلك مما ورد في الآثار ].
ومنها: الذكر عند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث), والذكر عند الخروج وهو أن يقول: (غفرانك), وهذان الحديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: النهي عن البول في الماء الراكد؛ لحديث جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يبال في الماء الراكد), أخرجه مسلم .
ومنها: أن يتخلى في طريق الناس أو ظلهم أو مواردهم, وذلك لما رواه الإمام مسلم و أبو داود عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا اللعانين قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم ), فهذه كلها ينهى عنها في الاستنجاء.
قال المصنف رحمه الله: [ وإنما اختلفوا من ذلك في مسألة واحدة مشهورة، وهي استقبال القبلة للغائط والبول واستدبارها، فإن للعلماء فيها ثلاثة أقوال: أنه لا يجوز أن تستقبل القبلة لغائط، ولا بول أصلاً ولا في موضع من المواضع ]. ولا يستدبرها.
[ وقول: إن ذلك يجوز بإطلاق ]. أي: يجوز الاستقبال والاستدبار لها في الغائط والبول.
[ وقول: إنه يجوز في المباني والمدن، ولا يجوز ذلك في الصحراء وفي غير المباني والمدن ].
قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم هذا: حديثان متعارضان ثابتان أحدهما: حديث أبي أيوب الأنصاري ] الذي أخرجه البخاري و مسلم .
[ أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا), والحديث الثاني: حديث عبد الله بن عمر ]. رضي الله عنه, أخرجه كذلك البخاري و مسلم .
[ أنه قال: ( ارتقيت على ظهر بيت أختي حفصة ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً لحاجته على لبنتين مستقبل الشام مستدبر القبلة ). فذهب الناس في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب:
أحدها: مذهب الجمع. والثاني: مذهب الترجيح. والثالث: مذهب الرجوع إلى البراءة الأصلية إذا وقع التعارض وأعني بالبراءة الأصلية: عدم الحكم ]. بمعنى أن الحديثين يسقطان ويرجع بعد ذلك إلى البراءة الأصلية.
[ فمن ذهب مذهب الجمع: حمل حديث أبي أيوب الأنصاري على الصحاري وحيث لا سترة، وحمل حديث ابن عمر على السترة، وهو مذهب مالك ] وكذا الشافعي ورواية عن أحمد .
[ ومن ذهب مذهب الترجيح رجح حديث أبي أيوب ]. وهذا مذهب أبي حنيفة و الثوري ورواية عن أحمد , وعنهما أي: أحمد و أبا حنيفة : يجوز الاستدبار مطلقاً؛ لحديث ابن عمر المتفق عليه في استدباره صلى الله عليه وسلم الكعبة, إذاً فهنا أربعة مذاهب, وفي رواية أيضاً عن أبي حنيفة : أنه لا يجوز, لا استدبار ولا استقبال.
[ لأنه إذا تعارض حديثان أحدهما فيه شرع موضوع ] يعني: مثبت.
[ والآخر موافق للأصل ] يعني: موافق للبراءة الأصلية.
[ الذي هو عدم الحكم، ولم يعلم المتقدم منهما من المتأخر، وجب أن يصار إلى الحديث المثبت للشرع ]؛ لأنه متيقن.
[ لأنه قد وجب العمل بنقله من طريق العدول ] أي: أنه نقل الحكم من البراءة الأصلية إلى التكليف، والمراد به حديث أبي أيوب .
[ وتركه الذي ورد أيضاً من طريق العدول ] يعني: حديث ابن عمر .
[ يمكن أن يكون ذلك قبل شرع ذلك الحكم ].
أي: أن أول ما كان هو البراءة الأصلية, و عبد الله بن عمر رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي هذا الحكم؛ لأن الشريعة لا تزال تزداد شيئاً فشيئاً.
[ ويمكن أن يكون بعده ]. فيكون ناسخاً لحديث أبي أيوب .
[ فلم يجز أن نترك شرعاً وجب العمل به بظن ]، والشرع قد أوجب العمل بالظن الغالب.
[ لم نؤمر أن نوجب النسخ به ]؛ لأن حديث ابن عمر ظن, فلا نوجب النسخ بالظن.
[ إلا لو نقل أنه كان بعده ] أي: إلا إذا ثبت أن حديث ابن عمر كان بعد حديث أبي أيوب .
قال المصنف رحمه الله: [ فإن الظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع ].
وهنا كلام يذكر: وهو أن الظنون منها ما يوجب العمل به, ومنها ما لا يجوز العمل به، وهذا كلام ابن رشد ؛ لأنه جعل حديث أبي أيوب في مرتبة الظن, وجعل حديث ابن عمر في مرتبة الظن, ولكن الراجح: أن حديث أبي أيوب في مرتبة الظن, وحديث عبد الله بن عمر في مرتبة الشك, وقد يرى أنه جعلها كلها في مرتبة الظن, فلما جعلها في مرتبة الظن اضطر أن يقول: أن بعض الظنون لا يجب العمل بها, وبعض الظنون يجب العمل بها.
ولكن ما المراد بالظنون هنا؛ لأن الشريعة أكثرها ورادة بالظن الغالب, والظن الغالب: قد أجمع العلماء على العمل به, فمثلاً: شهادة الرجلين وقد زكيا: أن فلاناً قتل فلاناً, فهذا يجب العمل به ويقتل القاتل, وكذلك شهادة أربعة: أن فلان زنى بفلانة, هذا ظن ومع ذلك يجب العمل به بالإجماع, وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( قد يكون أحدكم ألحن بحجته من بعض, فأقضي له على نحو مما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه, فلا يأخذ منه شيئاً, فإنما أقطع له قطعة من النار), وحكمه هنا بالظن، فهذا الكلام فيه بعض شيء، وهو أنه جعل الحديثين في مرتبة الظن, ولكنه في آخر كلامه، جعل حديث ابن عمر في مرتبة الشك.
فالحاصل في تعريف الظن والشك هو أن الظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر, والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما عن الآخر, وحديث أبي أيوب : في مرتبة الظن, وأما حديث ابن عمر : فهو في مرتبة الشك, هذا هو تقرير القاعدة عند ابن حزم , وهذا ما يريده المؤلف من كلامه هنا, إلا أنه تجوز في التعبير عن حديث ابن عمر في إطلاق الظن عليه، مما جعله يفرق بين الظنّين, ثم إنه استدرك في آخر كلامه بجعله حديث ابن عمر في مرتبة الشك, ونحن لا نقول: إن حديث ابن عمر الشك مستوي فيه، أي: هل هو قبل النهي أو بعد النهي, أما حديث أبي أيوب فهو ظن راجح؛ لأنه نقل الحكم عن البراءة الأصلية.
[ فإن الظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع: أعني التي توجب رفعها أو إيجابها، وليست هي أي ظن اتفق، ولذلك يقولون: إن العمل ما لم يجب بالظن، وإنما وجب بالأصل المقطوع به ]. وهذه العبارة (ما لم يجب) غير مستقيمة, والظاهر أن حرف (ما) زائد لا مكان له هنا.
[ إن العمل ما لم يجب بالظن، وإنما وجب بالأصل المقطوع به، يريدون بذلك الشرع المقطوع به الذي أوجب العمل بذلك النوع من الظن ]، وهو هنا جعل النسخ. بحديث ابن عمر من الظن.
[ وهذه الطريقة التي قلناها هي طريقة أبي محمد بن حزم الأندلسي ، وهي طريقة جيدة مبنية على أصول أهل الكلام الفقهي، وهو راجع إلى أنه لا يرتفع بالشك ما ثبت بالدليل الشرعي ].
فجعل حديث ابن عمر في مرتبة الشك، من حيث تقدم روايته أو تأخرها عن حديث أبي أيوب ، فلا ندري هل قول ابن عمر كان في زمن البراءة الأصلية أو كان بعد حديث أبي أيوب ، فهو مستوي عندنا ولا يوجد ترجيح لأحدهما, ولكن حديث أبي أيوب فيه ظن غالب برفع الحكم من البراءة الأصلية إلى النهي, فنحن نعمل بالظن, ولا نعمل بالشك, فهذا هو تقرير القاعدة.
[ وأما من ذهب مذهب الرجوع إلى الأصل عند التعارض ].
يعني: تعارض الحديثان فتساقطا فنرجع بعد ذلك إلى البراءة الأصلية.
[ فهو مبني على أن الشك يسقط الحكم ويرفعه ].
وهو الشك الموجود في حديث ابن عمر [ وأنه كَلَا حكم، وهو مذهب داود الظاهري ، ولكن خالفه أبو محمد بن حزم في هذا الأصل مع أنه من أصحابه ].
فـابن حزم هنا خالف شيخه داود الظاهري , ولكن مذهب ابن حزم أقوى من مذهب شيخه داود الظاهري .
[ قال القاضي ] وهو ابن رشد [ فهذا هو الذي رأينا أن نثبته في هذا الكتاب من المسائل التي ظننا أنها تجري مجرى الأصول، وهي التي نطق بها في الشرع أكثر ذلك، أعني أن أكثرها يتعلق بالمنطوق به، إما تعلقاً قريباً من القريب، وإن تذكرنا لشيءٍ من هذا الجنس أثبتناه في هذا الباب ].
يعني: أنه جاء بالمسائل التي هي قريبة أو قريبة من القريب, ولكن إذا فاته شيء في المستقبل فسيثبته بعد ذلك.
وقد بين مرجعه في هذا النقول, فقال:
[ وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها، هو كتاب الاستذكار ].
كتاب الاستذكار هو لـابن عبد البر ويقع في ثلاثين مجلداً, ولكنه اختصره؛ لأنه يذكر مذاهب الصحابة والمذاهب كلها, إلا أن كتاب الاستذكار لم يأتِ بالتوجيهات والاستدلالات والتوضيحات الموجودة في كتاب ابن رشد ، بل جاء بها من عنده أو نقلها من كتب أخرى؛ لأن المتأخر يعتمد غالباً على المتقدم.
ثم إن ابن رشد قد أعطى الإذن لمن رأى أن مذهباً من المذاهب لم يذكر أن يضيفه كمذهب أحمد مثلاً، أو رأى عبارة فيها غموض فلا مانع من أن يبينها، وإذا رأى أن النسبة إلى المذاهب قاصرة ولم تكن مستوفية فلا مانع من أن يستوفيها, وكذلك إذا أراد أن يرجح شيئاً فلا مانع أن يذكره، فإنه قد قال:
[ وأنا قد أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه، والله المعين والموفق ].
فجزاه الله خيراً.
فالحاصل: أن الراجح هو الجمع بين حديث ابن عمر وحديث أبي أيوب لأمور: أولاً: أن ابن عمر حدث بالحديث لما قيل له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فحدث بحديثه بياناً منه أنه رأى ذلك بعد النهي.
ثانياً: أنه لما قيل له: إنه قد نهي عن الاستقبال، قال: إنما ذلك كان في الصحراء وحيث لا مبان, أما إذا كان هناك مبان فلا مانع, فهذا يدل على أن ابن عمر لديه علم بأن حديث أبي أيوب كان قبل ذلك، وكذلك الإمام النووي قال: حديث أبي أيوب عام, ولا يفصح عن الصحراء ولا عن المباني, فمن المحتمل أن أبا أيوب كان ينحرف إذا دخل الحمام احتياطاً لهذا الحديث لأنه يشمل المباني.
وإن كان يرى أنه عام فهو مذهب له خاص، خالفه فيه كثير من الصحابة, وهذا هو الذي رجحناه في هذه المسألة.
أما الإمام الشوكاني وشيخنا ناصر الدين الألباني فإنهما: رجحا العمل بحديث أبي أيوب ، وقالوا: بأنه يحرم مطلقاً حتى في المباني, فأنا نوهت هنا أن الشيخ الألباني و الشوكاني رجحا بخلاف ما قلت, لأن العالم لا يفرض أقواله على الناس ويبجح من خالفه, بل يقول قوله الذي يراه, ومن وثق به أخذ بقوله، ومن لم يثق به فليس بملزم أن يأخذ بقوله, كما أن العالم قد يكون له في المسألة قولان أو ثلاثة, وذلك ليس بالتشهي, وإنما يقوله بعد بذل الجهد في الحصول على الصواب, فيذكر ما ظنه أنه الصواب، ثم يبدو له غيره فيقول بخلافه, وهكذا ينبغي أن يكون العالم.
فالحاصل: أن حديث أبي أيوب : حديث مطلق, وحديث ابن عمر : فعل مقيد بالبنيان, فالجمع بينهما هو الأقرب, وقد ورد التفسير عن ابن عمر للقول المطلق في حديث أبي أيوب : بأن محله في الفضاء, فروى أبو داود بإسناد حسنه شيخنا في الإرواء (ج1/ص100): أن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة, ثم جلس يبول إليها, فقلت: يا أبا عبد الرحمن ! أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى, إنما نهي عن هذا في الفضاء, فإن كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.
فقول ابن عمر هذا كأنه تفسير لحديث أبي أيوب . وهو يشعر بأنه كان لديه علم باختصاص ذلك بالفضاء, وأجاب النووي في المجموع (ج2/ص90) عن قول أبي أيوب : فدخلنا الشام فرأينا مراحيض قد بنيت إلى القبلة، فنحن ننحرف ونستغفر الله, أجاب عنه النووي بجوابين:
أحدهما: أنه شك في عموم النهي فاحتاط بالاستغفار.
والثاني: أن هذا مذهبه ولم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً, وقد خالفه غيره من الصحابة. انتهى كلام النووي .
أقول: وقد رجح الجمع ابن قدامة في المغني (ج1/ص120).
فالحاصل: أن القول بالجمع بين الحديثين هو ما ملت إليه ورأيت أنه الحق بعد البحث في عدة مراجع, وإن كان مخالفاً لما قاله شيخنا في تمام المنة, و الشوكاني في النيل والسيل, فطالب العلم ملزم بما يظهر له ويرى أنه الحق, وليس ملزماً بقول أحد, فالحق أكبر من الرجال, والدعوة إلى إلزام الناس بما تراه أو تبديع المخالف وتضليله ليس من طريقة السلف, وإنما هو من القصور في العلم وضعف الأفق.
وهذا هو وقعنا الآن، في المتمذهبين القدامى والمتمذهبين الجدد, فالمتمذهبون القدامى يقولون لك: قال الشافعي وإلا قال أبو حنيفة والمتمذهبون الجدد يقولون لك: لا عبرة بقول الشافعي ولا بقول أبي حنيفة وإنما قول الشيخ الجديد, ويضربون لك صفحاً عن أقوال العلماء كلهم, فقد تكون المسألة خلافية قال فيها: أبو حنيفة كذا أو قال الشافعي كذا أو قال أبو ثور كذا, فيقول لك: ليسوا بمعصومين، ولكن قال شيخنا كذا وكذا, يعني: ما قالته الأمة يسقط وشيخك هو المعصوم! ويقول: هؤلاء مبتدعون ولا نصلِ بعدهم؛ حتى أنهم أفتوا بعضهم: أن من قرأ بالبسملة أنه مبتدع وأنه لا يصلى بعده, وكذلك من قنت: أنه مبتدع ولا يصلى بعده, فهؤلاء مقلدون جدد، ومتعصبون تعصباً أعمى, فعندما تكون المسألة خلافية فإنا نرجح ما نرى, ولكن لا نلزم أحداً بأن يأخذه, وهذا ما كان عليه الأئمة الأربعة والسلف, كانوا لا يلزمون أحداً بما يقولون, ولكن يقول أحدهم: أرى كذا وكذا, ويقول: كل يؤخذ من قوله ويترك.
وهذا التعصب هو من ضيق الأفق, فقد يرجح العالم قولاً ثم يرى خلافه, وما نقلته مراراً من الروايات المختلفة في المسألة الواحدة عن الأئمة الأربعة ليس ذلك عن طريق التشهي حاشا وكلا, وإنما هو ميل إلى ما يظهر لهم بعد بذل الجهد من الوصول إلى الحق, وقد قال عمر رضي الله عنه: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي, فليتنبه طالب العلم لمثل هذا.
وهذه النصيحة حتى لا يكون طالب العلم من المقلدين القدامى، ولا يكون من المقلدين الجدد.
قال المصنف رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه, وسلم تسليماً.
[ كتاب الصلاة: الصلاة تنقسم أولاً وبالجملة إلى فرض وندب.
والقول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر بالجملة في أربعة أجناس: أعني أربع جمل: الجملة الأولى: في معرفة الوجوب وما يتعلق به. والجملة الثانية: في معرفة شروطها الثلاثة، أعني: شروط الوجوب، وشروط الصحة، وشروط التمام والكمال.
والجملة الثالثة: في معرفة ما تشتمل عليه من أفعال وأقوال، وهي الأركان ].
والفرق بين الشرط وبين الركن: أن الشرط: لا يدخل في الماهية ويلزم وجوده عند القيام بالأركان, مثل الوضوء والركن: هو ما يدخل في الماهية, كقراءة الفاتحة والركوع والسجود والاعتدال, وهذه لازمة وتدخل في الماهية, ومن الفروق أيضاً أن الشرط: يجوز تقدمه, والركن لا يجوز تقدمه, ومن هنا تأتي مسألة النية: هل هي شرط في صحة الصلاة أو ركن, فقال الأئمة الثلاثة: إنها شرط في صحة الصلاة, وهم مالك و أحمد و أبو حنيفة ، وقال الشافعي : هي ركن في صحة الصلاة, ومعنى ذلك: أنه يجب اقتران النية بالتكبير, وأنها إذا تقدمت فلا يصح التكبير, ومن هنا وجد طلاب الشافعية المشقة في التكبير، فتجده يريد أن يكبر ويقول: هل اقترنت النية أم لا, وبعد ذلك تمادوا فقالوا: يسن النطق بالنية لمساعدة القلب على ذلك، وهذا اضطرار منهم, ولو أنهم قالوا: إنها شرط لكفوا ذلك التعب ولجاز تقدم النية على التكبير ولهذا يتعبوا الشافعية كثيراً في النية, ولا سيما من ابتلي بالوسواس, وقد كان أحدهم يريد أن يقول: نويت أصلي فرض الظهر أداءً قال: أذاءً! فقال له واحد بجانبه: لقد آذيت الله والرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة والمصلين, يعني: بهذه النية.
وعلى كل حال سواء كانت شرط أو ركن، فالنية هي قصد الفعل, والشافعية يقولون: النية: قصد الشيء مقترناً بفعله, فيزيدون عبارة مقترناً بفعله.
ولكن الشخص لو قام في الصف وقال: استووا للصلاة, فهو يقصد بذلك الإمامة، وكذا من توضأ وأذن وأحرم للظهر، فهذه هي النية بأكثر من شيء، وهي مقترنة بالتكبير, ولكن التمذهب يتعب كثيراً, ولا سيما إذا كان الإنسان قد تمرن على المذهب من الصغر, فعند الكبر تكون لديه رواسب يصعب عليها تركها.
[ والجملة الرابعة: في قضائها ومعرفة إصلاح ما يقع فيها من الخلل وجبره ; لأنه قضاء ما إذا كان استدراكاً لما فات ]. فمعنى القضاء هو: الاستدراك لما فات.
قال المصنف رحمه لله: [ الجملة الأولى: وهذه الجملة فيها أربع مسائل: هي في معنى أصول هذا الباب.
المسألة الأولى: في بيان وجوبها.
الثانية: في بيان عدد الواجبات منها.
الثالثة: في بيان على من تجب.
الرابعة: ما الواجب على من تركها متعمداً؟ ].
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الأولى: أما وجوبها فبين من الكتاب والسنة والإجماع، وشهرة ذلك تغني عن التكلف القول فيه ].
فهذا هو الإجماع الذي من أنكره صار كافراً, وهو الإجماع بما هو معلوم من الدين بالضرورة، وأما الإجماع على ما لا يعلم من الدين بالضرورة، فإن من أنكره لا يصير كافراً.
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الثانية: وأما عدد الواجب منها ففيه قولان: أحدهما: قول مالك و الشافعي والأكثر: وهو أن الواجب هو الخمس صلوات فقط لا غير ].
ولهذا لم يقولوا بوجوب صلاة العيد, والإمام أحمد يوافقهم إلا أنه يقول: بوجوب صلاة العيد.
[ والثاني: قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو أن الوتر واجب مع الخمس واختلافهم هل يسمى ما ثبت بالسنة واجباً أو فرضاً لا معنى له ].
أنه لا فرق في قولك: واجب أو فرض، لأن المؤدى واحد، وسواء قلت الصلوات الخمس فرض وهذا واجب, فلا فرق لأن مؤداه أنه يأثم بتركه.
قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم: الأحاديث المتعارضة. أما الأحاديث التي مفهومها وجوب الخمس فقط، بل هي نص في ذلك ].
وهناك فرق بين الظاهر والنص؛ لأن الظاهر قد يكون قابله معنى آخر أبعد منه ويعمل به, أما النص فلا يجوز أن ينتقل منه إلا بنص آخر فهو يقول:
[ فمشهورة وثابتة، ومن أبينها في ذلك ما ورد في حديث الإسراء المشهور ].
[ أنه لما بلغ الفرض إلى خمس قال له موسى : ( ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعته، فقال تعالى: هي خمس، وهي خمسون لا يبدل القول لدي ) ].
فقوله: (لا يبدل القول لدي)، وهذا خبر، والخبر لا يجوز نسخه, وإنما النسخ في الأوامر والنواهي، ولا يدخل في الأخبار؛ لأنه لو دخل فيها لكان تكذيباً للخبر, وهنا قوله: ( لا يبدل القول لدي ), إخبار بأن الله لا يبدل هذا القول, فإذاً هذا نص لا يدخله النسخ, هكذا قال الجمهور.
[ وحديث الأعرابي المشهور ]. الذي رواه البخاري و مسلم . [ الذي سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام فقال له: ( خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع ). وأما الأحاديث التي مفهومها وجوب الوتر، فمنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر فحافظوا عليها ) ].
وهذا الحديث من طريق عمرو بن شعيب ورواه عنه ثلاثة كلهم ضعفاء, الحجاج بن أرطأة و المثنى بن الصباح و محمد بن عبيد الله العرزمي وثلاثتهم ضعفاء، فلا تقوم به حجة.
[ وحديث حارثة بن حذافة ].
الذي أخرجه أبو داود وهو حديث صحيح.
[ قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن الله أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، وجعلها لكم فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر) ].
فهذا الأمر الأقرب فيه حمله على الندب؛ للأحاديث الصحيحة التي لا تحتمل التأويل.
[ وحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا ) ].
وهذا الحديث ضعيف.
فالحاصل: أن الجمهور قالوا: هذا خبر والخبر لا يدخله النسخ، ولو افترضنا أن الحنيفة قالوا: إنه ليس بخبر, وأن المراد به الأمر فيدخله النسخ, فيقال لهم: إن هذه الأحاديث متواترة, وكذلك الآيات التي نصت على الأوقات الخمسة متواترة، وهم يقولون: إن الزيادة على النص نسخ، وإن الآحاد لا تنسخ المتواتر, فلم يبقَ لهم حجة على القول بوجوب الوتر.
[ فمن رأى أن الزيادة هي نسخ ولم تقو عنده هذه الأحاديث قوة تبلغ بها أن تكون ناسخة لتلك الأحاديث الثابتة المشهورة رجح تلك الأحاديث، وأيضاً فإنه ثبت من قوله تعالى في حديث الإسراء: (إنه لا يبدل القول لدي) وظاهره أنه لا يزاد فيها، ولا ينقص منها، وإن كان هو في النقصان أظهر، والخبر ليس يدخله النسخ.
ومن بلغت عنده قوة هذه الأخبار التي اقتضت الزيادة على الخمس إلى رتبة توجب العمل، أوجب المصير إلى هذه الزيادة، لا سيما إن كان ممن يرى أن الزيادة لا توجب نسخاً ].
وهم الجمهور, فإنهم يقولون: إن الزيادة لا توجب نسخاً.
[ لكن ليس هذا من رأي أبي حنيفة ]. وهو أن الزيادة توجب عنده النسخ.
ولكن يقال: إن من المقرر في أصول الحنيفة: أن الزيادة على النص نسخ, وأنه لا ينسخ المتواتر بالآحاد, ولهذا لم يقولوا بزيادة التغريب على الحد, ولم يقضوا بالشاهد واليمين في الأموال وهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم, بناءً على أنه آحاد, وأنه زيادة على الآية: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282].
وأما هنا فقد خالفوا أصولهم, وقالوا: بوجوب صلاة الوتر، وهي زيادة على النص في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78], وهذا نص يريدون أن ينسخوه, وقالوا: بزيادة صلاة الوتر.
فـدُلُوكِ الشَّمْسِ[الإسراء:78]: يعني: صلاة الظهر والعصر, و غَسَقِ اللَّيْلِ[الإسراء:78]: المغرب والعشاء, وَقُرْآنَ الْفَجْرِ[الإسراء:78]: صلاة الفجر, كما أنها نص على أن ما زاد على ذلك من صلاة الليل يكون نافلة؛ لقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79] فالحاصل: أن الآية نص في أن الصلوات خمس, وأن ما زاد عليها فإنها تسمى نافلة.
سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر