الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الرابعة: اختلف العلماء في المستحاضة، فقوم أوجبوا عليها طهراً واحداً فقط ] يعني: غسلاً واحداً فقط [ وذلك عندما ترى أنه قد انقطع حيضها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات.
وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهراً واحداً انقسموا قسمين:
فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها.
والذين أوجبوا عليها طهراً واحداً ] أي: غسلاً واحداً [ فقط هم مالك و الشافعي و أبو حنيفة وأصحابهم، وأكثر فقهاء الأمصار. وأكثر هؤلاء أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحباباً، وهو مذهب مالك ]، يعني: الأئمة الثلاثة أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وأما مالك فلم يوجب عليها الوضوء بل مذهبه استحباب الوضوء لها، وهذه المسألة قد ذكرنا منها من قبل أن مالكاً لا يقول بالوضوء للمستحاضة لكل فرض، فـمالك لا يرى النقض إلا مما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه، ولا يرى المخرج فقط، وإنما يرى ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هناك ... المخرج ولا يرى سلس البول ولا الاستحاضة من نواقض الوضوء.
إذاً مالك يرى أنه ما خرج من المخرج في حال الصحة.
قال: [ وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة ]، وهذا مروي عن ابن عمر و ابن الزبير و علي و ابن عباس و عطاء .
قال: [ وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر، ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين، وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وأول وقت العشاء، وتتطهر طهراً ثانياً وتجمع بينهما، ثم تتطهر طهراً ثالثاً لصلاة الصبح، فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة ]، وهذا القول لا نعلم من هم الذين قالوا به، وعليه فلم يذكر ابن رشد القائلين به، فما رأينا أحداً نسبه إلى أحد.
قال: [ وقوم رأوا أن عليها طهراً واحداً في اليوم والليلة ]، وهذا مروي عن عائشة و ابن المسيب و الحسن البصري .
قال: [ ومن هؤلاء من لم يحدد له وقتاً ]، يعني: قال: في أي وقت، كل يوم تغتسل. وهو مروي عن علي ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر. هذا إعادة للكلام الأول.
تنبيه: ومعنى قولهم: أن عليها طهراً واحداً في اليوم والليلة، فالمراد به الغسل؛ لأننا نتكلم في الغسل، وأما الوضوء فما أشار إليه إلا إشارة وسكت.
قال: [ فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال:
قول: إنه ليس عليها إلا طهر واحد فقط عند انقطاع دم الحيض ]، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة.
قال: [ وقول: إن عليها الطهر لكل صلاة ]، وهذا مروي عن ابن عمر و ابن الزبير و علي و ابن عباس و عطاء .
قال: [ وقول: إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة. وقول: إن عليها طهراً واحداً في اليوم والليلة ]، وهذا مروي عن عائشة و ابن المسيب و الحسن .
قال: [ والسبب في اختلافهم في هذه المسألة هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث: واحد متفق على صحته، وثلاثة مختلف فيها.
أما المتفق على صحته فحديث عائشة ]، وهذا أخرجه البخاري و مسلم ، [ قالت: ( جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: لا، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ) ]، فقوله: (اغسلي عنك الدم): يحتمل غسل الفرج فقط، ويحتمل أنه الغسل لجميع البدن.
قال: [ وفي بعض روايات هذا الحديث: ( وتوضئي لكل صلاة )، وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم ، وخرجها أبو داود ، وصححها قوم من أهل الحديث ].
وقوله: (لم يخرجها البخاري ) غير صحيح، بل أخرجها البخاري بلفظ: ( ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت )، وفي البخاري الأمر بالاغتسال عند انقطاع دم الحيض، ولفظه: ( ثم دعي الصلاة عند انقطاع دم الحيض )، وفي لفظ: ( ثم دعي الصلاة قدر الأيام التي كنتي تحيضين ثم اغتسلي وصلي ). إذاً هذا الحديث في البخاري ، وفيه الأمر بالوضوء لكل صلاة، وفيه أنها لا تغتسل إلا مرة واحدة.
قال: [ والحديث الثاني: حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف : ( أنها استحاضت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة )، وهذا الحديث هكذا أسنده محمد بن إسحاق عن الزهري .
وأما سائر أصحاب الزهري ، فإنهم رووا عنه: ( أنها استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: إنما هو عرق وليست بالحيضة، وأمرها أن تغتسل وتصلي ) ]، فقط أن تغتسل وتصلي، ولم يأمرها أن تؤخر صلاة كذا إلى صلاة كذا، بل مطلق.
[ فكانت تغتسل لكل صلاة ] يعني: هذا من عندها [ على أن ذلك هو الذي فهمت منه، لا أن ذلك منقول من لفظه عليه الصلاة والسلام ومن هذا الطريق خرجه البخاري ]، يعني: الذين رووا الحديث من غير ابن إسحاق قلت: رواية ابن إسحاق أخرجها أحمد في المسند وهي رواية شاذة، أما رواية من خالفه من أصحاب الزهري فأخرجها البخاري من رواية ابن أبي ذئب ، وأخرجها مسلم من رواية الليث ، وأخرجها أحمد من رواية الأوزاعي ، وأخرجها مسلم من رواية إبراهيم بن سعد ، وأخرجها مسلم من رواية عمرو بن الحارث ، وأخرجها مسلم كذلك من رواية ابن عيينة ، وأخرجها الطحاوي من رواية النعمان و حفص بن غيلان ، فهؤلاء ثمانية رواة خالفوا محمد بن إسحاق وقالوا: أنها هي التي كانت تغتسل.
[ وأما الثالث ] الحديث الثالث فحديث أسماء بنت عميس أنها قالت: ( يا رسول الله! إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، وللمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وتغتسل للفجر، وتتوضأ فيما بين ذلك )، خرجه أبو داود ، وصححه أبو محمد بن حزم ]. وهو حديث صحيح صححه الألباني في صحيح أبي داود .
[ وأما الرابع: فحديث حمنة بنت جحش ، وفيه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عندما ترى أنه قد انقطع دم الحيض، وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات )، على حديث أسماء بنت عميس ، إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب، وهنا على التخيير ]. يقول: ابن رشد أن حديث أسماء بنت عميس يدل على الوجوب وحديث حمنة ابنة جحش يدل على التخيير، وسيأتي معنا الكلام على أن هذا ناسخ لحديث أسماء .
[ فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب:
مذهب النسخ، ومذهب الترجيح، ومذهب الجمع، ومذهب البناء ]. هذا مذهب جديد مذهب البناء.
[ والفرق بين الجمع والبناء، أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضاً فيجمع بين الحديثين ]، بل يقول: ذاك الحديث سكت عن هذا الحكم وهذا الحديث جاء بحكم زائد، فلا تعارض، فنأخذ بما جاء بالحكم الزائد، هذا معنى الباني. أو يقال: أن ذاك الحديث أتى بحكم أثبتناه، ثم جاء حكم زائد في حديث آخر فبنيناه على الحكم الأول.
[ وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضاً في الظاهر، فتأمل هذا، فإنه فرق بين. أما من ذهب مذهب الترجيح، فمن أخذ بحديث فاطمة بنت أبي حبيش ] يعني: الحديث الأول [ لمكان الاتفاق على صحته، عمل على ظاهره، أعني: من أنه لم يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة، ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد، ولا بشيء من تلك المذاهب ]، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرها بالوضوء لكل صلاة.
[ وإلى هذا ذهب مالك و أبو حنيفة و الشافعي وأصحاب هؤلاء، وهم الجمهور.. ]. إلا أن الزيادة التي جئنا بها، وهي الوضوء لكل صلاة لم يذهب إليها الإمام مالك وإنما قال: يستحب، الوضوء لها لكل صلاة.
[ ومن صحت عنده من هؤلاء الزيادة الواردة فيه، وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة وقد علمنا أن مالكاً لم يصححها.
أوجب ذلك عليها، وهؤلاء هم الأئمة الثلاثة، ومن لم تصح عنده لم يوجب ذلك عليها، وهو الإمام مالك .
وأما من ذهب مذهب البناء ]، يعني فإنه سيقول: إن حديث فاطمة ليس فيه الأمر بالغسل.
[ فقال: إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلاً، وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة ، فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال، هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا؟ فأخبرها صلى الله عليه وسلم أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة، ولم يخبرها فيه بوجوب الطهر أصلاً لكل صلاة، ولا عند انقطاع دم الحيض ].
فيقال: وهذا يرده ما سبق من النقل عن رواية البخاري ولفظه: (ثم اغتسلي وصلي).
[ وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة ]، وقد ذكرنا أن هذه الرواية شاذة لا تصح.
[ لكن للجمهور ]. يذكر المؤلف هنا حجة الجمهور وهي أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ لأنها إذا كانت تجهل ولا تستطيع أن تميز بين دم الحيض وبين دم الاستحاضة فتجعلهما شيئاً واحداً، فهي إما أنها كانت تغتسل لكل صلاة، أو تغتسل غسلاً واحداً.
[ لكن للجمهور أن يقولوا: إن تأخير البيان ] يعني: في حديث فاطمة ، [ عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان واجباً عليها الطهر، لكل صلاة لأخبرها بذلك، ويبعد أن يدعي مدع أنها كانت تعرف ذلك، مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض. وأما تركه عليه الصلاة والسلام إعلامها بالطهر الواجب عليها عند انقطاع دم الحيض، فمضمن في قوله: ( إنها ليست بالحيضة ); لأنه كان معلوماً من سنته عليه الصلاة والسلام أن انقطاع الحيض يوجب الغسل، فإذاً إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به، وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة، وكلام ابن رشد هنا مبني على أنه لم يأمرها بالاغتسال عند انقطاع الدم، ولذلك ذكر رواية أمرها وهي موجودة في صحيح البخاري .
[ إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة ]، يعني: لم تشرع [ وثبتت بعد ]، يعني: شرعت بعد ذلك أي عندما أمر فاطمة بالغسل فقط عند انقطاع الدم، ولم يأمرها بالغسل عند كل صلاة أي: أن الشرع في ذلك الوقت أوجب غسلاً واحداً، وبعد ذلك أوجب الشرع الغسل في كل يوم ثلاث مرات، فيكون مثل من يقول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب الجلد أولاً، وبعد ذلك أوجب بعده التغريب.
قال: [ فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة وهي: هل الزيادة نسخ أم لا؟ ] إذا قلنا: إن الحكم لما سألت فاطمة بنت أبي حبيش الرسول صلى الله عليه وسلم، كان على البراءة الأصلية وهو أن عليها غسلاً واحداً عند انقطاع الحيض كما هو مقرر عندهم، ثم مما جاءت أسماء وسألت الرسول صلى الله عليه وسلم، أجابها بحكم جديد وهو أنها تغتسل لكل صلاة، فهذا زيادة حكم جديد.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب الأئمة الثلاثة أن الزيادة على ما كان أولاً لا تسمى نسخاً، وعند أبي حنيفة أن الزيادة تسمى: نسخاً.
قال: [ وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره عليه الصلاة والسلام لها بالغسل، فالمؤلف أتى به هنا، لكن يقال: صحت الرواية أو لم تصح؟ [ فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء ]، فخلاصة من ذهب مذهب الترجيح أن رجح حديث فاطمة ، وأن من ذهب مذهب البناء رجح حديث أسماء ؛ لأن فيه زيادة.
[ وأما من ذهب مذهب النسخ فقال: إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة ]، حديث أسماء بنت عميس الذي فيه أنها كانت تغتسل ثلاث مرات، وحديث أم حبيبة أنها كانت تغتسل لكل صلاة، فلما شق عليها، أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تجمع بين الصلوات وتغتسل ثلاث مرات، فيكون هذا ناسخ لحديث الغسل عند كل صلاة.
قال: [ واستدل على ذلك بما روي عن عائشة ] وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود [ ( أن سهلة بنت سهيل استحيضت، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك، أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد، والمغرب والعشاء في غسل واحد، وتغتسل ثالثاً للصبح ) ]، فتبين أن فعل أم حبيبة من الاغتسال لكل صلاة كان في أول الأمر ثم خفف بعد ذلك.
[ وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا.. ] يقول هؤلاء: أن المستحاضة لا تخلو من أن تكون مميزة أو عارفة بالعادة، فالمميزة والعارفة بالعادة ترجع إلى تمييزها أو عادتها وتغتسل بعد ذلك، فإن كانت غير مميزة ولا عارفة بالعادة، فهذه وقع الخلاف فيها، فإما أن تكون حافظة للوقت دون القدر، أو للقدر دون الوقت ومشكلة، فقالوا: هذه أمرها مشكل، وهي طاهرة في العبادات، حائضة في غيرها، فهي تتوقع في كل وقت أن الحيض قد انقطع، وقالوا: أن المتحيرة طاهرة في العبادات حائضة في غيرها، يعني: أن عليها أن تصلي وعليها أن تصوم، ولا يجوز لزوجها أن يجامعها، ولا يجوز لها أن تقرأ القرآن بغير صلاة، لا تقرأه إلا في الصلاة فقط، فهي طاهر في العبادات حائضة في غيرها، ولا تدري متى ينقطع عنها الدم. فهذه المرأة تغتسل لكل صلاة. ومن قال: أنها تغتسل في اليوم مرة واحدة قال: إنها كانت تحفظ شيئاً واحداً، فكانت تحفظ أن الدم ينقطع عنها عند طلوع الشمس، فيقال لها: اغتسلي كل يوم عند طلوع الشمس، وأما تلك المميزة فهي تغتسل غسلاً واحداً، فهذا موضع الجمع.
إلا أن هذا الكلام غير مسلم به، وقلنا: أن المتحيرة وهي التي تحفظ العادة ولا تميز ترجع إلى عادة غالب النساء؛ فـ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة:286]، فتسأل أخواتها وعماتها عن وقت حيضهن فإن قلنا: نحيض في أول الشهر سبعة أيام، فتحيض معهن سبعة أيام، ونقول لها: أنت في علم الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( في علم الله )، فتغتسل بعد السبعة الأيام.
[ فقالوا: إن حديث فاطمة بنت أبي حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة، وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك ] أي: المستحاضة عندهم، [ فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطاً للصلاة، وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة.
وأما حديث أسماء بنت عميس فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة، إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات، فهذه إذا انقطع عنها الدم، وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين ]، ويحتمل أنها عندما تجمع الصلاتين تغتسل لها غسلاً واحداً.
قال: [ وهنا قوم ] وهذا مذهب خامس [ ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة و أسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش ]، وهو حديث حسن طويل.
[ وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها، وهؤلاء منهم من قال: إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضها.
ومنهم من قال: بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة، وهذا هو قول خامس في المسألة، إلا أن الذي في حديث حمنة بنت جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد، وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات.
وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك، ولست أعلم في ذلك أثراً ]. انتهى.
والراجح في هذه المسألة: أنه لا يجب على المستحاضة إلا غسلاً واحداً عند انقطاع دم الحيض، على حسب ما سبق في شرحنا، وذلك أن الأصل عدم وجوب تكرار الغسل، فلا يجب التكرار إلا إذا ورد الشرع بإيجابه، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع دم الحيض، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي )، وليس في هذا اللفظ ما يقتضي التكرار، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ لأنه لو كان التكرار واجباً لبينه لها.
وأما ما ورد من الأحاديث في إيجاب الغسل لكل صلاة، فلا يخلو كل واحد منها من مقال، وبعضهم لم يتفق على تصحيحها، وبعضهم أولوها، فلا تقوى على معارضة ما ثبت في الصحيحين من الاغتسال مرة واحدة. بمعنى: أننا إذا نظرنا إلى ما ثبت في الصحيحين ونظرنا إلى هذه الأحاديث وما يدخلها من تأويل وما يدخلها من تضعيف، وجدنا أنها لا تقوى على معارضة الحديث الثابت في الصحيحين.
وقد أطال الكلام عليها النووي في شرح مسلم (ج3/ص244) و الشوكاني في النيل (ج1/ص263) وفي السيل (ج1/ص149) فيحسن الرجوع إليها.
كما أن الراجح أنها تتوضأ لكل صلاة مفروضة، كما دلت على ذلك رواية البخاري و أبي داود .
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الخامسة: وطء المستحاضة.
قال رحمه الله: اختلف العلماء في جواز وطء المستحاضة على ثلاثة أقوال:
فقال قوم: يجوز وطؤها، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار ومن هؤلاء الفقهاء: أبو حنيفة و مالك و الشافعي و الثوري و أبو ثور .. وغيرهم.
[ وهو مروي عن ابن عباس و سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين.
وقال قوم: ليس يجوز وطؤها، وهو مروي عن عائشة ، وبه قال النخعي و الحكم ، أما ما نقل عن عائشة فقد قال البيهقي : النقل عن عائشة ليس بصحيح. فهذا النقل عنها غير صحيح، انظر المجموع للإمام النووي (ج2/ص384).
[ وقال قوم: لا يأتيها زوجها إلا أن يطول ذلك بها، وبهذا القول قال أحمد بن حنبل ]، وله رواية كالقول الأول، وهو جواز وطؤها، كقول الجمهور.
[ وسبب اختلافهم: هل إباحة الصلاة لها هي رخصة لمكان تأكيد وجوب الصلاة، أم إنما أبيحت لها الصلاة لأن حكمها حكم الطاهر؟ ] بمعنى: أن الصلاة أبيحت لها رخصة، أم لأنها طاهرة كغيرها؟ [ فمن رأى أن ذلك رخصة لم يجز لزوجها أن يطأها، ومن رأى أن ذلك لأن حكمها حكم الطاهر أباح لها ذلك، وهي بالجملة مسألة مسكوت عنها.
وأما التفريق بين الطول ولا طول فاستحسان ]، أي: أن بعضهم استحسنه فقط.
والراجح: أنه يجوز لزوجها وطؤها في أيام الاستحاضة، والدليل على ذلك: ما رواه عكرمة عن حمنة بنت جحش ( أنها كانت تستحاض وكان زوجها يجامعها )، رواه أبو داود وحسنه النووي في شرح مسلم والمجموع.
وعن عكرمة أيضاً قال: ( كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها ) رواه أبو داود .
قال الحافظ في الفتح: حديث صحيح إن كان عكرمة سمعه منها، يعني: أن السند كله صحيح، لكن هل سمع منها أو لم يسمع؟ هذا الذي فيه شيء.
وهذان الأثران يعتبران من أحد قسمي الإقرار المعمول به، ومعنى ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا علم بذلك فهو إقرار منه وإن قلنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك فما وقع في زمانه يعتبر إقرار، لأن الله عز وجل لا يسكت عن الخطأ، ولأنزل فيه قرآناً أو لأبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم لينهى عن ذلك لأنه في زمن التشريع. وروى البخاري عن ابن عباس تعليقاً: تصلي ولو ساعة، ويأتيها زوجها إذا صلت، فإباحة الصلاة لها أعظم من إباحة الجماع.
إلا أن الجزء الأول منه صحيح - وهو تصلي ولو ساعة - والأخير منه ضعيف، الذي هو محل الاستشهاد حقنا، كما في مختصر البخاري لشيخنا (ج1/ص92).
والإجماع منعقد أن المستحاضة كالطاهر في الصلاة والصوم، يعني: يعتد بصلاتها وصومها فيقال: وكذلك الجماع فيكون حكمها حكم الطاهر؛ ولأن التحريم إنما يثبت بالشرع، ولم يرد الشرع بتحريمه، فالواجب الرجوع إلى البراءة الأصلية. انظر المجموع، (ج2/ص384) وشرح مسلم ، (ج3/ص242) وفتح الباري: (ج1/ص511) وفتح القدير للحنفية (ج1/ص157). انتهى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر