بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [ الباب السادس ] في هذا الباب سيتكلم المصنف عن المواضع التي لا يصلى فيها، أي: أن هناك مواضع تكره الصلاة فيها، وما عداها تجوز الصلاة فيها، فهو سيذكر المواضع التي يجوز الصلاة فيها، ثم سيأتي بالمواضع التي تكره الصلاة فيها، والخلاف في ذلك، وبيان الراجح.
[ وأما المواضع التي يصلى فيها: فإن من الناس من أجاز الصلاة في كل موضع لا تكون فيه نجاسة. ومنهم من استثنى من ذلك سبعة مواضع: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله.
ومنهم من استثنى من ذلك المقبرة فقط. ومنهم من استثنى المقبرة والحمام. ومنهم من كره الصلاة في هذه المواضع المنهي عنها، ولم يبطلها ]، والأمر كذلك، فإن الصلاة في هذه المواضع لا تبطل.
[ وهو أحد ما روي عن مالك ، وقد روي عنه الجواز، وهذه رواية ابن القاسم ].
روي عنه الأمرين: الكراهة والجواز.
قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب، وذلك أن ها هنا حديثين متفق على صحتهما، وحديثين مختلف فيهما. فأما المتفق عليهما فقوله عليه الصلاة والسلام: ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، وذكر فيها: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأينما أدركتني الصلاة صليت ) ]، وهذا الحديث أخرجه البخاري و مسلم .
وقوله: (أينما) من ألفاظ العموم، فهي تشمل كل المواضع.
[ وقوله عليه الصلاة والسلام: ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً ) ].
وهذا الحديث أخرجه البخاري و مسلم ، وفيه استثناء للقبور، وبما أن الحديث صحيح؛ فإن استثناء القبور من عموم الحديث الأول صحيح.
[ وأما غير المتفق عليهما ]، أي: الأحاديث الغير المتفق عليها، لم يروها البخاري و مسلم [ فأحدهما ما روي: ( أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله الحرام ) خرجه الترمذي ] وكذلك أخرجه ابن ماجه ، ولكن الحديث ضعيف، فليس كل ما فيه صحيح، إنما الصحيح فيه ثلاثة.
قال: [ والثاني ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام: ( صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل ) ].
وهذا الحديث صحيح. فيكون استثناء مرابض الإبل صحيح، وكذلك الصلاة في المقبرة والحمام، لأن الحديث الوارد في ذلك صحيح؛ في النهي عن الصلاة في الحمام والمقبرة.
قال: [ فذهب الناس في هذه الأحاديث ثلاثة مذاهب:
أحدها: مذهب الترجيح والنسخ. والثاني: مذهب البناء، أعني: بناء الخاص على العام ]، وهؤلاء انقسموا، فقال بعضهم: نستثني من الحديث ما صح، وقال آخرون: نستثني السبعة، [ والثالث: مذهب الجمع. فأما من ذهب مذهب الترجيح والنسخ؛ فأخذ بالحديث المشهور، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، وقال: هذا ناسخ لغيره ]، فكل موضع عند هؤلاء تصح فيه الصلاة [ لأن هذه هي فضائل له عليه الصلاة والسلام، وذلك مما لا يجوز نسخه ]؛ وإذا قلنا: إنها فضيلة، فلا يجوز حينئذ نسخها.
[ وأما من ذهب مذهب بناء الخاص على العام؛ فقال: حديث الإباحة عام، وحديث النهي خاص، فيجب أن يبنى الخاص على العام. فمن هؤلاء من استثنى السبعة مواضع ]، لكن هذا الحديث ضعيف.
قال: [ ومنهم من استثنى الحمام والمقبرة، وقال: هذا هو الثابت عنه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قد روي أيضاً النهي عنهما مفردين ]، يعني: في الحمام والمقبرة، من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة )، وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود ، وهو موجود في الإرواء للألباني .
فتكون المستثنيات الصحيحة ثلاثة: الحمام، والمقبرة، ومعاطن الإبل.
قال: [ ومنهم من استثنى المقبرة فقط؛ للحديث المتقدم.
فأما من ذهب مذهب الجمع ولم يستثن خاصاً من عام، فقال: أحاديث النهي محمولة على الكراهة، والأولى على الجواز ].
المقصود أنه: قد صح النهي ألّا يصلى في ثلاثة مواضع: في المقبرة، والحمام، ومعاطن الإبل. فتستثنى هذه الثلاثة من عموم حديث ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، وأما باقي السبعة فلا تستثنى من عموم الحديث؛ لضعف الحديث الذي وردت فيه، وكذلك فإنه لم يرد فيها أثر، والأصل فيها الإباحة.
والقول: بالكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل فيما عدا الثلاثة، في كل ما ذكر في الباب. والمصنف قد ذكر أكثر من سبعة مواضع ستأتي.
قال رحمه الله: [ واختلفوا في الصلاة في البيع والكنائس ] وهذه لم تذكر في الحديث، فتبقى على الأصل وهو الإباحة، إلا أن يكون هناك تشبه بالكفار، فتكره حينها لأجل التشبه. وقوله: (في البيع والكنائس)، البيع: لليهود، والكنائس: للنصارى.
[ فكرهها قوم، وأجازها قوم، وفرق قوم بين أن يكون فيها صور أو لا يكون، وهو مذهب ابن عباس ؛ لقول عمر : لا تدخلوا كنائسهم من أجل التماثيل. والعلة فيمن كرهها لا من أجل التصاوير، حملها على النجاسة ]، يقول: أن من منع الصلاة في البيع والكنائس علته نجاستها.
قال: [ واتفقوا على الصلاة على الأرض ]، قوله: (الصلاة على الأرض) أي: على غير التراب. [ واختلفوا في الصلاة على الطنافس ]، والسجادة منها، [ وغير ذلك مما يقعد عليه على الأرض ]، كالموكيت مثلاً. وهذا هو الذي اختلفوا في الصلاة عليه.
[ والجمهور على إباحة السجود على الحصير ].
الحصير: هو الذي يكون مصنوعاً من النخل.
وهو لا يدخل في الطنافس؛ لأن الطنافس تصنع من غير الحصير.
[ وما يشبهه مما تنبته الأرض ]، أي أنهم اتفقوا على إباحة الصلاة على ما تنبته الأرض.
[ والكراهية بعد ذلك، وهو مذهب مالك بن أنس ]، قال الإمام مالك : كل ما لا تنبته الأرض فلا يشرع مثلاً الصلاة على الجلود؛ لأن الجلود لا تنبتها الأرض، وكذلك المصنوع من غير القطن فإنه مكروه في مذهب مالك بن أنس ، ولكن الراجح الجواز في كل ما ذكر في الباب، كما ذكرنا سابقاً: وكذلك ما لم يرد فيه أثر فالأصل فيه الإباحة، والقول بالكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل فيما عدا الثلاثة، لكل ما ذكر في الباب.
والذي تكره فيه الصلاة ثلاثة أشياء: معاطن الإبل، والمقبرة، والحمام. وهذه الكراهة كراهة تنزيه لا تحريم.
وأما الكنائس فتكره إذا كانت فيها تماثيل، أو كانت فيها صور، أو خوف من التشبه، أما أنه ورد فيها حديث فلا.
السؤال: [ما معنى البيع؟]
الجواب: معابد اليهود التي يؤدون فيها عباداتهم.
السؤال: هل يؤخذ من الصلاة في المقبرة الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟
الجواب: نعم تكره، إلا إذا كان القبر في اتجاه القبلة، وعلى كل حال فالصلاة في المقبرة والحمام لا تنبغي؛ لأنه لا بد من تنزيه الصلاة عن الحمام، والمقبرة، وكذلك معاطن الإبل؛ لأن الإبل ستشوش عليك في صلاتك في المعطن، ولو لم تكن موجودة، لأنه قد تأتي وأنت تصلي. والخلاصة: أن الأقرب: حرمة الصلاة في المقبرة، ولكن الحرمة لا تعني البطلان.
السؤال: [ ما المقصود بالحمام الذي لا ينهى عن الصلاة فيه؟ ]
الجواب: المراد به الحمام العام، وكذلك الحمام الذي يغتسل فيه فقط، فتكره الصلاة فيهما.
قال المصنف رحمه الله: [ الباب السابع ] في معرفة التروك التي هي شروط في صحة الصلاة:
قال: [ وأما التروك المشروطة في الصلاة: فاتفق المسلمون على أن منها قولاً، ومنها فعلاً ] أي: أقوال وأفعال تترك في الصلاة. [ فأما الأفعال؛ فجميع الأفعال المباحة التي ليست من أفعال الصلاة ]، أي: لا في ركوع، ولا سجود، ولا اعتدال، [ إلا قتل العقرب، والحية في الصلاة، فإنهم اختلفوا في ذلك؛ لمعارضة الأثر في ذلك ]، والأثر هو حديث أبي هريرة الذي فيه: ( أمر بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب )، أخرجه الطيالسي ، وهو حديث صحيح.
أي: القياس على أنها تبطل الصلاة؛ لأنها ليست من حركات الصلاة.
[ واتفقوا فيما أحسب: على جواز الفعل الخفيف ]، فقال بعضهم: والمقصود بالفعل الخفيف ما كان أقل من ثلاث حركات، وبعضهم قال: ما لا يجعل الشخص كأنه ليس في صلاة، وبعضهم قالوا: ما لا يتجاوز فعل الرسول صلى الله عليه وسلم من فتح الباب، والرقي على المنبر، وعلى كل حال فهذه أشياء ترجع إلى العرف، والقاعدة أن ما لم يحدده الشرع فيرجع فيه إلى العرف.
[ وأما الأقوال فهي أيضاً الأقوال التي ليست من أقاويل الصلاة، وهذه أيضاً لم يختلفوا أنها تفسد الصلاة عمداً؛ ]، أي أنهم اتفقوا على أن هذه الأقوال، إذا وجدت في الصلاة عمداً بطلت الصلاة؛ [ لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] ]، والمراد بالقنوت هنا: السكوت، [ ولما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث ألا تكلموا في الصلاة )]. وهذا الحديث كان بعد إباحة الكلام، [ وهو حديث ابن مسعود ]، وقد رواه أبو داود بإسناد صحيح، [ وحديث زيد بن أرقم أنه قال: ( كنا نتكلم في الصلاة؛ حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام )]. وهذا الحديث أخرجه البخاري و مسلم .
[ وحديث معاوية بن الحكم السلمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتهليل، والتحميد، وقراءة القرآن ) ]، وهذا الحديث أخرجه مسلم .
فهذه هي الأشياء التي اتفقوا على أنها تبطل الصلاة، واستدلوا على ذلك بهذه الأحاديث الصحيحة.
قال: [ إلا أنهم اختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما: إذا تكلم ساهياً، والآخر: إذا تكلم عامداً لإصلاح الصلاة، وشذ الأوزاعي فقال: من تكلم في الصلاة لإحياء نفس أو لأمر كبير، فإنه يبني ] أي: يبني على الصلاة؛ لأنها لا تبطل.
ومعنى قوله: (من تكلم في الصلاة لإحياء نفس): مثلاً لو أن إنساناً رأى إنساناً أعمى سيسقط في بئر، فصاح به: البئر يا أعمى، امش جهة يسارك، أو امش جهة يمينك، فالأوزاعي يقول: لا تبطل، لكن الراجح أنها تبطل، وعليه أن يعيد الصلاة، ويجب عليه أن يتكلم في مثل حالة الأعمى، ثم يعيد الصلاة.
[ والمشهور من مذهب مالك : أن التكلم عمداً على جهة إصلاح الصلاة لا يفسدها ]، ومثل هذا: لو أن الإمام جلس في الثالثة فقيل له: هذه الثالثة، بقي عليك ركعة أو نحوه، فهذا لا يبطل الصلاة.
[ وقال الشافعي : يفسدها التكلم كيفما كان، إلا مع النسيان ] إذاً فالشافعي يقول: لا تبطل الصلاة بالكلام إذا كان نسياناً، ولكن لا بد أن يكون الكلام قليلاً لا كثيراً، فإن كان كثيراً فإنه يبطل؛ ولو كان نسياناً.
[ وقال أبو حنيفة : يفسدها التكلم كيف كان ]، أي: سواء كان نسياناً، أو عمداً، أو لمصلحة الصلاة، فجعل كل الكلام يفسدها، لأي غرض كان.
أما الإمام أحمد بن حنبل فقال: يفسدها كلام المأموم والمنفرد، إلا كلام الإمام لمصلحة الصلاة.
فعلى قول الإمام أحمد : لو أن إماماً شك في عدد الركعات التي قد صلاها، فأشار إلى المأمومين، وقال لهم: قد نسيت كم صليت بكم، فإن كانت ثلاثاً فأشيروا إلي بالقيام، وإن كانت أربعاً فأشيروا إلي بالجلوس، أو قال لهم: لا أدري هل أنا في الجلسة الأولى للتشهد أم في الثانية، فأشيروا إلي، إذا قلت بالسلام أو بعدمه، فالإمام أحمد يقول في مثل هذا: لا تبطل صلاته.
وأما كيف يشير المأمومون لإمامهم؟ فإنهم يشيرون إليه بالتسبيح، أو بقراءة آية كقوله تعالى: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78].
ولو أن المأمومين مثلاً سكتوا، فقال لهم: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22]، فلا حرج؛ لأن التكلم بالقرآن في الصلاة لا يبطلها.
والخلاصة: أن الإمام أحمد يرى أن كلام الإمام لمصلحة الصلاة، لا يفسدها.
وذكرنا أن المأمومين يشيرون لإمامهم بالتسبيح.
قال رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم: تعارض ظواهر الأحاديث في ذلك، وذلك أن الأحاديث المتقدمة تقتضي تحريم الكلام على العموم، وحديث أبي هريرة المشهور ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين ؟ فقالوا: نعم ) ]، وهذا الحديث أخرجه البخاري و مسلم ، وفي رواية: ( ما قصرت ولا نسيت، فقالوا: بل نسيت يا رسول الله ). [ ( فصلى ركعتين أخريين، ثم سلم )، ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم، والناس معه، وأنهم بنوا بعد التكلم، ولم يقطع ذلك التكلم صلاتهم، فمن أخذ بهذا الظاهر ] وهو كما قال، هذا ظاهر الحديث. [ ورأى أن هذا شيء يخص الكلام لإصلاح الصلاة، استثنى هذا من ذلك العموم ]، أي العموم السابق في الحديث. [ وهو مذهب مالك بن أنس . ومن ذهب إلى أنه ليس في الحديث دليل على أنهم تكلموا عمداً في الصلاة، وإنما يظهر منهم أنهم تكلموا، وهم يظنون أن الصلاة قد قصرت ]، أي أنه نزل وحي فيه أن الصلاة قصرت. [ وتكلم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يظن أن الصلاة قد تمت ]، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معذورين، [ ولم يصح عنده أن الناس قد تكلموا بعد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما قصرت الصلاة وما نسيت ) ]، والظاهر أنهم ما تكلموا بعدها، ولو تكلموا بعد هذه الكلمة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لبطلت صلاتهم، [ قال: إن المفهوم من الحديث إنما هو إجازة الكلام لغير العامد ]. والقائل هو: الشافعي .
[ فإذاً السبب في اختلاف مالك ، و الشافعي في المستثنى من ذلك العموم ] أي: السبب في اختلافهم في المستثنى من ذلك العموم، [ هو اختلافهم في مفهوم هذا الحديث ].
والخلاصة من هذا: أن الإمام مالك فهم من حديث ذي اليدين : جواز الكلام للمصلحة؛ فاستثناه من عموم الأحاديث السابقة. وفهم الشافعي من حديث ذي اليدين : جواز الكلام لغير العامد، فاستثناه من الأحاديث السابقة.
و للشافعي في حديث ذي اليدين ، وعدم العمل به كلام لطيف غير هذا، وهو أنه قال: حديث ذي اليدين واقعة حال ووقائع الأحوال إذا اعتراها الاحتمال؛ كساها ثوب الإجمال؛ فسقط بها الاستدلال.
ومعنى كلامه هذا: أن هذه الواقعة يحتمل أنها كانت قبل أن يحرم الكلام. وكذلك فإن من المحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ناسياً وأيضاً فإن المأموم له أن يكلم الرسول؛ لأن كلام الرسول يجوز في الصلاة. وهذا احتمال أيضاً. وكذلك من المحتمل أنهم كانوا يظنون: أن الوحي قد نزل بتقصير الصلاة، فهذه الاحتمالات جعلت هذا الحديث مجمل، وهذا معنى قوله: فكساها ثوب الإجمال، أي كسا واقعة الحال: ثوب الإجمال، فسترها وجعلها لا يرى منها شيء؛ فسقط بها الاستدلال، وهذا هو معنى كلام الشافعي .
ومعنى قوله: واقعة حال، أي: أن هذه الواقعة وقعت مرة واحدة، ولم تتكرر في زمن الصحابة، وأيضاً اختلفوا في معناها، فلا عموم لها، كما قال بعضهم: وقائع الأحوال لا عموم لها.
[ مع أن الشافعي اعتمد أيضاً في ذلك أصلاً عاماً ]، أي: في كلام الناس، [ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) ]، وليس معنى هذا أنهم لا يقع منهم الخطأ والنسيان، وإنما معناه: أن المؤاخذة قد رفعت في الخطأ والنسيان.
[ وأما أبو حنيفة ] وهو الذي يبطل الصلاة بالكلام كله، من غير استثناء. [ فحمل أحاديث النهي على عمومها، ورأى أنها ناسخة لحديث ذي اليدين ، وأنه متقدم عليها ].
أما توجيه الإمام أحمد لهذه المسألة في مذهبه فكان: بأن حمل كلام الصحابة على إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يبطل الصلاة؛ لأن إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تبطل الصلاة، ولا يكون هذا في حق غيره؛ لأنهم لو كلموا إماماً غير الرسول صلى الله عليه وسلم لبطلت صلاتهم، ولكن يستدل بهذا على أن للإمام أن يكلم المأمومين. فمنعه في المأموم، وأجازه في حق الإمام.
وخلاصة هذا الكلام: أن لكل واحد من الأئمة الأربعة توجيه للحديث، فالإمام مالك أخذ بالظاهر، وللشافعي توجيهان: أحدها: أنها واقعة حال، كساها ثوب الإجمال، فسقط بها الاستدلال، والثاني: أن ذلك في الناس.
وأما توجيه أبي حنيفة فيقول: إن الحديث منسوخ؛ لأنه متقدم.
وأما توجيه أحمد فيقول: إنه كلام لإجابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا جائز، فيستدل به على أن للإمام أن يكلم المأموم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كلمهم، وأما المأموم فليس له أن يكلم الإمام؛ لأن كلام الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ أي أن الصحابة يجوز لهم أن يكلموا الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
وأما الراجح في المسألة: فهو أن حديث ذي اليدين ، يحمل على ما كان قبل البراءة الأصلية، من إباحة الكلام في الصلاة، فلا نسخ فيه؛ لأن رفع البراءة الأصلية ليس له نسخ، ويؤيد هذا -أي: أن الكلام حرم بعد هذا الحديث- ما ورد من التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء؛ لأن هذا ورد بعد تحريم الكلام، فدل على أن من نابه شيء في الصلاة ألا يتكلم، بل يسبح فالتسبيح للرجال، ويصفق النساء. وله أيضاً: أن يتكلم بالقرآن كما تكلم ذلك الرجل، وهذا هو الراجح.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر