بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الثالثة:
اختلف العلماء في إيجاب الوضوء من لمس النساء باليد، أو بغير ذلك من الأعضاء الحساسة، فذهب قوم إلى أن من لمس امرأة بيده، مفضياً إليها، ليس بينه وبينها حجاب، ولا ستر فعليه الوضوء، وكذلك من قبلها؛ لأن القبلة عندهم لمس ما، سواء التذ أم لم يلتذ ]. يعني: حصلت لذة أو لم تحصل لذة.
قال: [ وبهذا القول قال الشافعي وأصحابه، إلا أنه مرة فرق بين اللامس والملموس ]. يعني في مذهب الإمام الشافعي قول بأنه ينقض وضوء اللامس دون الملموس.
قال: [ فأوجب الوضوء على اللامس دون الملموس، ومرة سوى بينهما ]، يعني: ينقض اللامس والملموس.
قال: [ ومرة فرق أيضًا بين ذوات المحارم والزوجة ].
والراجح من مذهب الشافعي أنه ساوى بين اللامس والملموس، يعني: في مذهب الشافعي قولان:
القول الأول: أنه ينقض اللامس، لكن هذا رأي في المذهب. والراجح: أنه إذا لمس المرأة أو لمسته المرأة لا ينتقض وضوءهما.
وقوله: (ومرة فرق أيضاً بين ذوات المحارم والزوجة)؛ لأن الشافعي له قاعدة، وهي: أنه يعمل بالمظان، يعني: مظان الشيء، فهو يقول: مثلًا النوم مظنة للحدث، فإذا نام ممكنًا مقعدته من الأرض فلا ينقض وضوءه.
واللمس مظنة للشهوة، فإذا لمس محرمًا أو صغيرة لا تشتهى، فلا ينقض الوضوء، فهو لا يقول بالشهوة، إنما يقول: مظنة للشهوة، فإذا لمس محرمه أو صغيرة فلا ينقض وضوءه؛ فلهذا فرق بين ذوات المحارم، ومرة ساوى بينهما، والراجح التفريق.
وعلة عدم النقض بلمس المحارم، أو الصغيرة عند الشافعية؛ لأنها ليست مظنة للذة. بخلاف الزوجة لمسها ينقض وضوءه.
إذاً الشافعي مرة أوجب الوضوء على من لمس الزوجة، ومن يجوز له أن يتزوج بها. أما التي لا يجوز التزوج بها يعني المحرمة تحريمًا مؤبدًا، فلا ينقض الوضوء، وهم المحارم.
وخرج بالتحريم المؤبد، التحريم المؤقت كأخت الزوجة، وكذلك المحرمة بالملاعنة، فإن لمسها ينقض.
قال: [وذهب آخرون إلى إيجاب الوضوء من اللمس إذا قارنته اللذة أو قصد اللذة، في تفصيل لهم في ذلك، وقع بحائل أو بغير حائل]. أي: حتى ولو بغير حائل إذا لمسها بلذة.
قال: [ بأي عضو اتفق ما عدا القبلة، فإنهم لم يشترطوا لذة في ذلك ]. لأن قولهم ليس عن اللذة، لأنهم قد اشترطوها، اللهم إلا في الصغيرة.
قال: [وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه، ونفى قوم إيجاب الوضوء لمن لمس النساء، وهو مذهب أبي حنيفة ]. يعني: لهؤلاء المذاهب الثلاثة سلف من الصحابة. أحمد له ثلاث روايات: له رواية كمذهب الإمام الشافعي ، وله رواية كمذهب مالك ، وله رواية كمذهب أبي حنيفة .
قال: [ ولكل سلف من الصحابة إلا اشتراط اللذة، فإني لا أذكر أحدًا من الصحابة اشترطها ]. يعني: كونه يتلذذ أو لا يتلذذ.
قال: [ وسبب اختلافهم في هذه المسألة: اشتراك اسم اللمس في كلام العرب ]، كالقرء، الذي هو لفظ مشترك، وكذلك اللمس هنا لفظ مشترك، القرء اشتراكه من باب الاشتراك، واللمس من باب الحقيقة والمجاز، كالأسد.
قال: [فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب في الطهارة في آية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ[النساء:43] ]، ومنهم ابن عباس الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم التأويل، فذهب إلى أنه الجماع، ومرة غضب فصرح به بلفظ قال: هو النيك النيك.
وهذه الملامسة مفاعلة، فهي أقرب إلى الجماع من اللمس، كخاصمت زيدًا.
قال: [وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد] وقالوا: هو كعاقبت اللص، فليس هناك مفاعلة من الجانبين، فأنت المعاقِب وهو معاقَب، والذين قالوا: هو الجماع، يكون من باب المفاعلة، كخاصمت زيدًا وقاتلته، يعني: تحصل من الجانبين.
قال: [ومن هؤلاء من رآه من باب العام أريد به الخاص، فاشترط فيه اللذة]، ومعنى أنه (من باب العام أريد به الخاص) مثل اللمس، لكن ليس اللمس مطلقًا، إنما لمس بلذة، فهو من باب العام أريد به الخاص، كقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]، فهذا من باب العام الذي أريد به الخاص، والناس المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173]، فهذا من باب العام الذي أريد به الخاص، ونعيم الأشجعي هو الذي قال: الناس، و((إِنَّ النَّاسَ))، المراد به أبو سفيان وأصحابه.
فهنا قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43] عام أريد به الخاص، وهو اللمس بلذة، وهذا مذهب من قال: إنه بلذة.
قال: [ومنهم من رآه من باب العام أريد به العام، فلم يشترط اللذة فيه، ومن اشترط اللذة فإنما دعاه إلى ذلك ما عارض عموم الآية، من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلمس عائشة عند سجوده بيده، وربما لمسته].
بمعنى: أن الآية عامة، لكن المراد بها خاص وهو بلذة؛ لأن عائشة رضي الله عنها يمكن لمسته بغير لذة، وهو لمسها بغير لذة، حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي، وكانت عائشة معترضة، فإذا سجد غمزها فكفت يده، ومرة قامت عائشة والرسول صلى الله عليه وسلم في بيتها، في نوبتها، فافتقدته فلم تجده، فقالت: لعله ذهب إلى بعض نسائه وتركني. فقالت: أطلبه في المسجد، فإن لم أجده في المسجد فقد تركني وذهب إلى بعض نسائه. أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد بلغ به التعظيم في تلك الحالة أنه حرص على أن يثني على الله بما هو أهله، فكان يقول: ( سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، فلك الحمد حتى ترضى )، وهو ساجد، وهي تطلبه، قالت: (فوضعت يدي على رجله فوجدت برد رجله).
فهنا قالوا: أن المراد بغير لذة، وأن الناقض المس بلذة.
ثم قال: [وخرج أهل الحديث حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقلت: ما هي إلا أنت؟ فضحكت)].
وهذا الحديث صحيح بما له من الشواهد، وهو يرد على من يقول: إنه لا ينقض إلا بلذة، فهذا يدل على أنه لا ينقض مطلقًا بلذة أو بغير لذة؛ لأن الرجل في الغالب لا يقبل زوجته رحمة بها، وإنما يقبلها لأجل اللذة.
قال: [قال أبو عمر : هذا الحديث وهنه الحجازيون، وصححه الكوفيون، وإلى تصحيحه مال أبو عمر ابن عبد البر ].
قال: وروي هذا الحديث أيضًا من طريق معبد بن نباتة ، وقال الشافعي : إن ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أرَ فيها، ولا في اللمس وضوءًا].
يعني: كأن الشافعي أخذ بالآية، وحملها على الحقيقة وهي المس باليد، ولكن الآية أيضاً تحتمل المجاز، ولذلك قال: لو صح هذا الحديث لقلت به، وحملت الآية على المجاز، أي أن اللمس هو الجماع.
لكن الثابت الآن عن أصحابه أنهم يأخذوا بالحديث، ولا يتعصبون، ويقولون: إن اللمس إطلاقًا لا ينقض الوضوء.
قال: [وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس يطلق حقيقة على اللمس باليد، ويطلق مجازًا على الجماع].
لكن بعض المجاز قد هُجِر، حتى أنك إذا تكلمت لا يخطر ببال السامع ذلك المجاز، وصار الإطلاق على الحقيقة، فلو قال قائل: أريد أن أذهب إلى الغائط، فلا يفهم من قوله أنه ذاهب لقضاء الحاجة ولكن الغائط في الحقيقة اسم للمكان المطمئن من الأرض، ويستعمل مجازاً في الغائط؛ لأنه يحل في هذا المكان غالبًا، لكن المجاز هذا هجر، وصار يطلق على الخارج من العذرة كأنه حقيقة.
قال رحمه الله: [وأنه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يحمل على الحقيقة؛ حتى يدل الدليل على المجاز، فمثلاً من يقول: إن اللمس باليد، فإنه حمل اللمس على حقيقته، حتى يدل الدليل على غيره.
وأما القائلون بأن معنى الملامسة هي الجماع فقالوا: نوافقكم على أنه حقيقة في اللمس، ولكن الحقيقة هذه تنتقض بشيئين:
الأول: أن المجاز إذا هجر، وصار اللفظ يطلق كأنه حقيقة كما هو الحال في الغائط، فإنه يطلق على المجاز، لا على الحقيقة.
الثاني: أن هناك صوارف، صرفت هذه الحقيقة إلى المجاز، منها: قول عائشة : (وجدت برد رجليه)، فقولها هذا صرف اللمس إلى معناه المجازي وهو الجماع.
[ولأولئك]، أي: الذين يقولون بأن اللمس هو الجماع، [أن يقولوا: إن المجاز إذا كثر استعماله، كان أدل على المجاز منه على الحقيقة، كالحال في اسم الغائط، الذي هو أدل على الحدث الذي هو فيه مجاز، منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة.
والذي أعتقده]، أي ما يرجحه صاحب الكتاب: [أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين، بالسواء، أو قريبًا من السواء، أنه أظهر عندي في الجماع، وإن كان مجازاً; لأن الله تبارك وتعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع ].
فقال مثلاً: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237]، فهذا من التأدب في الألفاظ.
قال: [ وهما في معنى اللمس، وعلى هذا التأويل في هذه الآية يحتج بها في إجازة التيمم للجنب، دون تقدير تقديم فيها، ولا تأخير على ما سيأتي بعد]. والمراد الآية قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، فإذا حملنا قوله تعالى: لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]على جامعتم النساء، فهو دليل واضح على أن المتيمم له أن يتيمم عن الجنابة، بدلًا عن الغسل.
وإذا حملنا الآية على اللمس باليد، فليس فيها دليل واضح على أن التيمم يكون بديلاً عن الغسل من الجنابة، وهذا سيأتينا في موضع وسيبسطه المؤلف كثيرًا، ولكن هنا أشار إليه إشارة، وقال: ( في الآية تقديم وتأخير ).
إذاً قلنا: إذا كان المقصود باللمس الجماع، في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، فيكون معنى الآية: إذا أجنبتم ولم تجدوا ماء فتيمموا؛ لأن الجماع ينقض الوضوء ويوجب الغسل. وأما إن كان المراد باللمس الجس باليد، فالمراد أن يكون التيمم بديلاً عن الوضوء، ولا يكون في الآية دليل على أن التيمم بدلًا عن الغسل، بل تطلب له أدلة أخرى.
وأيضاً إذا حملنا قوله: (لامستم) على جامعتم، فستكون جمعت بين الوضوء والغسل.
وهذا الكلام سيأتي بسطه فيما بعد في باب التيمم.
قال: [وترتفع المعارضة التي بين الآثار، والآية على التأويل الآخر].
بمعنى: إذا حملنا الآية على الجماع، فليس فيها معارضة بينها وبين القبلة، وبين الجس باليد؛ لأنه هذا وارد في الجماع، ولكن إذا قلنا: إن المراد بالآية: الجس باليد، فإنه سيكون بين الآية والأحاديث معارضة، وأما من فهم من الآية اللمسين معًا]. أي: لمستموهن بأيديكم، وجامعتموهن، لكن هذا كلام ضعيف.
فمثلاً لو قلت لك: وراء المدرسة أسد، قلت لي: ما هذا الأسد؟ قلت لك: رجل شجاع وأسد حقيقة، فلا يصح لأن اللفظ لا يستعمل في الحقيقة والمجاز في آن واحد.
وكذلك لو قلنا: إن المراد باللمس: الجس باليد والجماع، فإنه كلام ضعيف.
قال: [فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك، إنما تقصد به معنىً واحداً من المعاني التي يدل عليها الاسم، لا جميع المعاني التي يدل عليها، وهذا بين بنفسه في كلامهم].
والقاعدة أن: (اللفظ إذا كان يحتمل الحقيقة والمجاز، فالأصل في إطلاقه أن يكون على الحقيقة، إلا إن دل دليل يصرفه عن الحقيقة، فيحمل على المجاز).
ولا يتصور أن هناك لفظ يستعمل عند العرب في الحقيقة والمجاز في آن واحد.
السؤال: [ما مدى صحة قول الشافعي أن حديث: (كان يصلي فغمزها) لا يحتج به على عدم انتقاض الوضوء باللمس؟ ].
الجواب: نحن بينا أن الراجح هو أن اللمس لا ينقض مطلقًا، وأن المراد باللمس الجماع، وما جعلنا نقول بأنه الجماع هو ما عارضه من الأحاديث الصحيحة التي لا تقبل الاحتمال؛ لأن الشافعي قال في الحديث: (أنه كان يصلي فغمزها)، قال: لعله من وراء حائل، أي: أنه كان على رجلها سترة، ولذلك يقول الشافعي : وهذه واقعة حال اعتراها الاحتمال، فكساها ثوب الإجمال، فسقط بها الاستدلال. ( واقعة حال اعتراها الاحتمال )، يعني: أنه كان من فوق سترة، ( فكساها ثوب الإجمال )، أي: صارت مجملة، والمجمل لا يعمل به حتى يبين.
ولكن قول عائشة رضي الله عنها: (إني وجدت برد رجليه)، قول بين يرد كلام الشافعي ، فكلام الشافعي هنا غير وجيه.
السؤال: هل يحتمل حديث: (كان يصلي فغمزها) الخصوصية بالنبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، وما قاله الشوكاني من أنه إذا خالف فعل الرسول صلى الله عليه وسلم قوله، فتحمل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم كلها على الخصوصية، فإنه لا يوافق على الخصوصيات هذه مطلقًا إلا بدليل؛ لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والله سبحانه وتعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
السؤال: [ما هو الراجح فيما يحمل عليه قوله تعالى: (أو لامستم) هل على الحقيقة أم المجاز؟ ]
الجواب: الراجح: أن الآية تحمل على المجاز؛ لقيام الأدلة الصحيحة التي لا يمكن تأويلها بأنها من فوق حائل، يعني: هل تؤّول القبلة بأنها من فوق حائل؟ ( ووجدت برد رجليه ) بأنه من فوق حائل؟ كلام ضعيف.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر