بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ الباب الرابع:
في نواقض الوضوء:
والأصل في هذا الباب ] يعني: الدليل [ قوله تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يقبل الله صلاة من أحدث؛ حتى يتوضأ ) ].
وفي هذا الباب مسائل اتفقوا عليها ذكرها المصنف.
قال: [ اتفقوا في هذا الباب على انتقاض الوضوء من البول والغائط، والريح والمذي والودي؛ لصحة الآثار في ذلك، إذا كان خروجها على وجه الصحة ].
يقول: إن هذه المسائل التي اتفقوا عليها، لكل منها حديث؛ فأما انتقاضه من البول، والغائط فهو من حديث ابن عسال ، حيث قال: ( كنا في سفر، فأمرنا ألا ننزع خفافنا من غائط، وبول ونوم ).
واتفقوا كذلك على انتقاض الوضوء بالريح؛ لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عبد الله بن زيد : ( أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل عليه أنه يجد شيئًا في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينفصل؛ حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )، أخرجه البخاري و مسلم .
أما المذي: فلحديث علي رضي الله عنه قال: ( كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته؛ فأمرت المقداد فسأله؟ فقال: يغسل ذكره ويتوضأ )، والحديث أخرجه البخاري و مسلم .
وأما الودي: فهو يتبع البول في النجاسة، ولكن لم يرد فيه أثر.
النواقض المختلف فيها:
[ ويتعلق بهذا الباب مما اختلفوا فيه سبع مسائل تجري منه مجرى القواعد لهذا الباب:
المسألة الأولى: الوضوء مما يخرج من الإنسان:
اختلف علماء الأمصار في انتقاض الوضوء مما يخرج من الجسد من النجس على ثلاثة مذاهب: فاعتبر قوم في ذلك الخارج وحده، من أي موضع خرج، وعلى أي جهة خرج ] بمعنى أن هؤلاء قالوا: إذا خرج نجس من الإنسان، من أي موضع خرج، سواءً من القبل أو من الدبر، أو من البدن صار وضوءه باطلاً، [ وهو: أبو حنيفة وأصحابه، و الثوري و أحمد ف، وجماعة ] يقول: وهؤلاء الذين اعتبروا الخارج من أي موضع كان، حتى ولو من البدن هم: أبو حنيفة وأصحابه، و الثوري و أحمد .
ولكن نسبة هذا إلى أحمد غير صحيح، بل مذهب أحمد موافق لمذهب الشافعي كما في المغني.
قال: [ ولهم ] أي: لـأبي حنيفة وهؤلاء الجماعة [ سلف من الصحابة، فقالوا: كل نجاسة تسيل من الجسد، وتخرج منه يجب منها الوضوء، كالدم والرعاف الكثير، والفصد والحجامة، والقيء إلا البلغم عند أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة : إنه إذا ملأ الفم ] يعني: البلغم [ ففيه الوضوء.
ولم يعتبر أحد من هؤلاء اليسير من الدم إلا مجاهد ] يعني: إذا كان يسيراً من الدم، لا يسيل فإنه لا ينقض الوضوء عند كل هؤلاء، عدا مجاهد .
[ واعتبر قوم آخرون المخرجين: الذكر والدبر ] فقال هؤلاء: كل ما خرج من الذكر والدبر ناقض، وما خرج من غير هذين المخرجين فلا ينقض.
[ فقالوا: كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء، من أي شيء خرج، من دم أو حصا، أو بلغم وعلى أي وجه خرج، كان خروجه على سبيل الصحة، أو على سبيل المرض ] كالسلس والاستحاضة [ وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه ] وكذلك أحمد [ و محمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك ] وهذا هو المذهب الثاني.
[ واعتبر قوم آخرون الخارج والمخرج، وصفة الخروج ] الخارج يعني: الذي نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، والمخرج: من السبيلين، وصفة الخروج: أنه خرج على سبيل الصحة لا المرض.
[ فقالوا: كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه وهو: البول، والغائط، والمذي، والودي، والريح، إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء، فلم يروا في الدم والحصاة والدود وضوءاً، ولا في السلس، وممن قال بهذا القول مالك وجل أصحابه ] يعني هؤلاء يقولون: إذا خرج من الإنسان خارج؛ فلا ينقض الوضوء، إذا كان على سبيل المرض، ولهم التفصيل في هذه المسألة في المدونة، حتى أنهم قالوا: لو أحس شيئاً خرج بعد البول ولم يتعرض له فلا ينقض الوضوء، ويستمر في الصلاة، فجعلوه كالذي يبتلى بسلس البول، فهذا عند مالك لا ينقض الوضوء، بل يعفى عنه ويستمر في صلاته.
[ والسبب في اختلافهم: أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط وبول وريح ومذي لظاهر الكتاب، ولتظاهر الآثار بذلك، تطرق إلى ذلك ثلاثة احتمالات:
أحدها: أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط، المتفق عليها على ما رآه مالك ، رحمه الله تعالى.
الاحتمال الثاني:
أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن لكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس ] وهذا مذهب أبي حنيفة .
ثم قال: [ والاحتمال الثالث:
أن يكون الحكم أيضاً إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين السبيلين، فيكون على هذين القولين.. ] أبي حنيفة و الشافعي [ الأخيرين، وورود الأمر بالوضوء من تلك الأحداث المجمع عليها، إنما هو من باب الخاص أريد به العام، ويكون عند مالك وأصحابه إنما هو من باب الخاص المحمول على خصوصه ] أي: ما يتعداها.
قال: [ فـالشافعي و أبو حنيفة اتفقا على أن الأمر بها هو من باب الخاص أريد به العام، واختلفا أي عام هو؟ ] بمعنى: هل هو كل ما خرج؟ فقال ذاك: عام في كل ما خرج من الجسد، وقال هذا: عام في كل ما خرج من السبيلين.
قال: [ فـمالك يرجح مذهبه: بأن الأصل هو أن يحمل الخاص على خصوصه؛ حتى يدل الدليل على غير ذلك، و الشافعي يحتج بأن المراد به المخرج لا الخارج، باتفاقهم على إيجاب الوضوء من الريح الذي يخرج من أسفل، وعدم إيجاب الوضوء منه إذا خرج من فوق ] فالجشاء لا يجب الوضوء منه.
[ وكلاهما ذات واحدة، والفرق بينهما اختلاف المخرجين، فكان هذا تنبيهاً على أن الحكم للمخرج، وهو ضعيف; لأن الريحين مختلفان في الصفة والرائحة ] ولكن قوله: (وهو ضعيف) غير صحيح، فالمراد به الريح، فمثلاً إذا أكلت شيئاً كريهًا، تخرج رائحة من الفم كريهة.
[ و أبو حنيفة يحتج بأن المقصود بذلك: هو الخارج النجس؛ لكون النجاسة مؤثرة في الطهارة، وهذه الطهارة وإن كانت طهارة حكمية، فإن فيها شبهاً من الطهارة المعنوية، أعني: طهارة النجس ] فهو يستدل بهذا، [ وبحديث ثوبان ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ )] وهذا الحديث أخرجه البخاري ، ولكن لفظ الحديث عند غيره: ( استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر ) لم يقل: فتوضأ، ( فأتي بماء فتوضأ )، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في الإرواء، وهذا الحديث لا يدل على أنه انتقض وضوءه بالقيء، وإنما يدل على أنه بطل صومه.
ويستدل كذلك أبو حنيفة : [ وبما روي عن عمر و ابن عمر رضي الله عنهما من إيجابهما الوضوء من الرعاف ] وهذا أثر صحيح، ولكنه لا يعتبر دليلاً؛ لأنه اجتهاد من الصحابة.
[ وبما روي من أمره صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة فكان المفهوم من هذا كله عند أبي حنيفة الخارج النجس ] يقول: هذا يستدل به أبو حنيفة ، ولكن لا دليل فيه عليه؛ لأنه خارج من المخرجين؛ فهو دليل للشافعية، سواءً كان عن صحة أو عن مرض.
وأما حديث: ( أنه أمرها بالوضوء لكل صلاة )فقال عليه: الحديث صحيح بشواهده.
ثم قال: [ وإنما اتفق الشافعي و أبو حنيفة على إيجاب الوضوء من الأحداث المتفق عليها، وإن خرجت على جهة المرض؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بالوضوء عند كل صلاة المستحاضة، والاستحاضة: مرض.
وأما مالك : فرأى أن المرض له هاهنا تأثير في الرخصة قياساً أيضاً على ما روي من أن المستحاضة لم تؤمر إلا بالغسل ] وهذا ثابت كما في البخاري أنها لم تؤمر إلا بالغسل فقط [ وذلك أن حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذا متفق على صحته ] أخرجه البخاري و مسلم وفيه: أنه أمرها بالغسل عند انقطاع الدم.
إذا عرفت المستحاضة انقطاع الحيض، وبدأت في الاستحاضة تغتسل، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرها أن تتوضأ لكل صلاة، ولم يأمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولكنها كانت تغتسل لكل صلاة من نفسها.
فالإمام مالك يقول: إن دم الاستحاضة غير ناقض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها أن تتوضأ لكل صلاة، وإنما أمرها بأن تغتسل عند رؤية انقطاع الدم.
[ ويختلف في هذه الزيادة فيه أعني الأمر بالوضوء لكل صلاة، ولكن صححها أبو عمر بن عبد البر ] اختلفوا في هذه الزيادة: (أمرها بالوضوء)، فبعضهم صححها، وبعضهم لم يصححها، وممن صححها أبو عمر بن عبد البر ، وسبق أيضاً أنها صحيحة بشواهدها.
[ قياساً على من يغلبه الدم من جرح ولا ينقطع، مثل ما روي ( أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب دماً) ].
فالإمام مالك يرى: أنه دليل على أنه لا ينقض الوضوء، إلا ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في النواقض، وأما ما خرج من السبيلين، ومن غير النواقض كالاستحاضة، فلم يصح عنده حديث عمر في الأمر بالوضوء.
وأما ما خرج من النجاسات من غير السبيلين، فحديث عمر : (صلى وجرحه يثعب دماً) وكلام الإمام مالك جيد في هذا.
لكن الراجح من المذاهب الثلاثة: ما ذهب إليه الإمام الشافعي و أحمد : بأن كل ما خرج من السبيلين ناقض، وممن رجح هذا القول: الإمام الشوكاني في السيل الجرار، فقال: (أما انتقاضه بالبول والغائط فبالضرورة الدينية، وأما ما عداهما - أي: البول والغائط - فما وقع النص عليه كما في حديث: (حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً )، وهو في الصحيح، فهو ناقض بالنص.
وأما مالم يقع النص عليه فهو لاحق بالريح، إما بفحوى الخطاب أو بلحن الخطاب، ولا يحتاج مع هذا إلى الاستدلال على تعميم الخارج بما لم يثبت ففي هذا كفاية، وهو يشمل ما قل أو ندر ).
يقول الإمام الشوكاني : أنه ورد في المسائل التي اتفقوا عليها نص شرعي، وأدناها الريح، وهناك ما يسمى: بفحوى الخطاب، ولحن الخطاب؛ ويكون في الخاص الذي أريد به العموم، مثل قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، فالضرب يكون من باب أولى، ولحن الخطاب: هو ما يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق؛ إذاً ننظر إلى ما يخرج من السبيلين، ونوازنه بالريح؛ فسنجد منه ما هو داخل في فحوى الخطاب، فالدم مثلاً أكبر من الريح.
فيكون داخل في الريح بفحوى الخطاب، وداخل في البول بلحن الخطاب، فهو داخل فيه بفحوى الخطاب، ولحن الخطاب بالمنصوص عليها، فلا نحتاج إذاً أن نقول: أعطنا دليلاً على أن الدم ناقض للوضوء؛ لأنه لو أن إنساناً مثلاً ضرب والده وسبه، وقال: لا يوجد في الآية القرآنية، دليل على منعه، فنقول له: إنه داخل في التأفيف بفحوى الخطاب فكذلك الحال في الدم الخارج من مخرج البول، فقد ثبت في السنة أن الريح ناقض للوضوء، فالدم ناقض من باب أولى، وهذا هو الراجح.
وأما لحن الفحوى: فيكون أكبر؛ فالدم مثلاً يساوي للبول، فيسمى: لحن الخطاب، وكذلك مثلاً النهي عن أكل مال اليتيم، لو قال قائل: إن الله نهانا عن أكله، وأنا أريد أن أحرقه، فهذا يسمى لحن الخطاب.
المسألة الثانية: الوضوء من النوم:
قال رحمه الله: [ المسألة الثانية: النوم: اختلف العلماء في النوم على ثلاثة مذاهب:
فقوم رأوا أنه حدث؛ فأوجبوا من قليله وكثيره الوضوء. وقوم رأوا أنه ليس بحدث، فلم يوجبوا منه الوضوء إلا إذا تيقن بالحدث، على مذهب من لا يعتبر الشك، وإذا شك على مذهب من يعتبر الشك؛ حتى أن بعض السلف كان يوكل بنفسه إذا نام من يتفقد حاله، أعني: هل يكون منه حدث أم لا؟ ] يقول: رأى أصحاب القول الثاني أن النوم لا يبطل الوضوء، لكن إذا أحدث يبطل، ولكن إذا نام لم يكن عنده أحد، فإنه قد يحدث ولا يعرف فينتقض الوضوء.
وأما أصحاب القول الثالث: ففرقوا؛ جمعاً بين الأحاديث.
قال: [ وقوم فرقوا بين النوم القليل الخفيف، والكثير المستثقل، فأوجبوا في الكثير المستثقل الوضوء دون القليل، وعلى هذا فقهاء الأمصار والجمهور ] في المذاهب الأربعة.
ولكن أصحاب القول هذا اختلفوا في الهيئات التي يكون فيها النوم ثقيل، والهيئات التي يكون فيها النوم غير ثقيل.
قال: [ ولما كانت بعض الهيئات يعرض فيها الاستثقال من النوم أكثر من بعض، وكذلك خروج الحدث، اختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك : من نام مضطجعاً أو ساجداً فعليه الوضوء، طويلاً كان النوم أو قصيراً ] سواء كان مضطجعاً أو ساجداً حتى ولو قصير؛ لأنه يثقل النوم في هذه الهيئة.
[ ومن نام جالساً فلا وضوء عليه إلا أن يطول ذلك به.
واختلف القول في مذهبه في الراكع، فمرة قال: حكمه حكم القائم، ومرة قال: حكمه حكم الساجد ] مرة قال: ينقض بقليله وكثيره، ومرة قال: ينقض بالطويل.
[ وأما الشافعي فقال: على كل نائم كيفما نام الوضوء، إلا من نام جالساً ] فيرى أن نوم الجالس ليس فيه استثقال.
[ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعاً ] لأن النوم في هذه الهيئة يكون فيه استثقال.
اكتبوا:
وقال الإمام أحمد : إن النوم اليسير قاعداً لا ينقض، وإن الكثير ينقض, فوافق مالك في هذا، وأما نوم القائم والراكع والساجد، فله روايتان:
أحدهما: ينقض، والثاني: لا ينقض إلا إذا كثر.
فهذه هي المذاهب التي في النوم.
ولكن ما أصل اختلافهم؟
قال: [ وأصل اختلافهم في هذه المسألة: اختلاف الآثار الواردة في ذلك ] فبعضها تقتضي: أن النوم غير ناقض، وبعضها تقتضي: أن النوم ناقض.
[ وذلك أن هاهنا أحاديث، يوجب ظاهرها أنه ليس في النوم وضوء أصلاً، كحديث ابن عباس ] الذي أخرجه البخاري و مسلم [ : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل إلى ميمونة فنام عندها؛ حتى سمعنا غطيطه، ثم صلى ولم يتوضأ ) ] فهذا الحديث يدل على أن النوم لا ينقض الوضوء.
ولكن استدلاله هنا بهذا الحديث غير صحيح؛ لأن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على اختصاصه بالرسول صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري و مسلم : ( أن عائشة رضي الله عنها، لما سألته عن نومه قبل وتره؟ فقال لها: يا عائشة : إن عيني تنام ولا ينام قلبي )، وكذلك ما ثبت أن: ( رؤيا الأنبياء وحي ).
قال: [ وقوله صلى الله عليه وسلم ] فيما أخرجه البخاري و مسلم [ ( إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد؛ حتى يذهب عنه النوم، فإنه لعله يذهب أن يستغفر ربه، فيسب نفسه ) ] وهذا الحديث لا دليل فيه أيضاً؛ لأن غاية ما فيه أنه أمر من أراد أن يصلي، وهو نعسان بالنوم، فهذين الحديثين ليس فيهما دليل.
[ وما روي أيضاً: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا ينامون في المسجد حتى تخفق رءوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون ] والحديث أخرجه مسلم ، وفيه دلالة واضحة.
[ وكلها آثار ثابتة.
وهاهنا أيضاً أحاديث يوجب ظاهرها: أن النوم حدث، وأبينها في ذلك حديث صفوان بن عسال قال: ( كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن لا ننزع خفافنا من غائط وبول ونوم، ولا ننزعها إلا من جنابة )، فسوى بين البول والغائط والنوم، صححه الترمذي ] فهذا يدل على أن النوم ناقض مطلقاً.
[ ومنها حديث أبي هريرة المتقدم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه ) ] وهذا حديث متفق عليه، وفيه الدلالة على أن النوم ناقض.
[ فإن ظاهره أن النوم يوجب الوضوء قليله وكثيره، وكذلك يدل ظاهر آية الوضوء، عند من كان عنده المعنى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] معنى إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6]: قمتم من النوم، فهذه الآية تدل على أن النوم ناقض.
قال: [ أي: إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم وغيره من السلف، فلما تعارضت ظواهر هذه الآثار ] معنا أثر واحد، وهو: أنهم كانوا يجلسون وينامون ويضطجعون، عارض هذا الآخر، أما تلك فليس بها معارضة؛ لأنها لا تدل على أن النوم ناقض.
قال: [ ذهب العلماء فيها مذهبين:
مذهب الترجيح، ومذهب الجمع; الذين ذهبوا مذهب الترجيح انقسموا إلى قسمين، قال: [ فمن ذهب مذهب الترجيح إما أسقط وجوب الوضوء من النوم أصلاً، على ظاهر الأحاديث التي تسقطه، وإما أوجبه من قليله وكثيره؛ على ظاهر الأحاديث التي تسقطه أيضاً، أعني: على حسب ما ترجح عنده من الأحاديث الموجبة، أو من الأحاديث المسقطة.
ومن ذهب مذهب الجمع: حمل الأحاديث الموجبة للوضوء منه على الكثير، والمسقطة للوضوء على القليل ] وقد اختلفوا في تحديد القليل والكثير [ وهو كما قلنا مذهب الجمهور، والجمع أولى من الترجيح، ما أمكن الجمع عند أكثر الأصوليين ] إذاً المصنف يرجح مذهب الجمهور ونحن نرجح خلافه.
[ وأما الشافعي : فإنما حملها على أن المستثنى من هيئات النائم الجلوس فقط; لأنه قد صح ذلك عن الصحابة أعني: أنهم كانوا ينامون جلوساً، ولا يتوضئون ويصلون، وإنما أوجبه أبو حنيفة في النوم والاضطجاع فقط; لأن ذلك ورد في حديث مرفوع، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الوضوء على من نام مضطجعاً )، والرواية بذلك ثابتة عن عمر ] لكن هذا الحديث ضعيف.
[ وأما مالك فلما كان النوم عنده إنما ينقض الوضوء من حيث كان غالباً ]، وهو كذلك عند أحمد [ سبباً للحدث، راعى فيه ثلاثة أشياء: الاستثقال أو الطول أو الهيئة ] قوله: (الاستثقال والطول)، قال: إنما يستثقل ويطول إذا طال في الجالس فهو ينقض، وإذا كان في المبتدئ أو ساجد، فإنه ينقض لأنه يكون مستثقل، وهو كلام أحمد كذلك.
[ فلم يشترط في الهيئة التي يكون منها خروج الحدث غالباً، لا الطول ولا الاستثقال، واشترط ذلك في الهيئات التي لا يكون خروج الحدث منها غالباً ].
إذاً الشافعي قال بالهيئات، وغيره قال بالاستثقال، فـأبو حنيفة رأى الاستثقال في الاضطجاع فقط، و مالك قال: الاستثقال يحصل بشيئين: إما في الاضطجاع، والسجود أو بالطول، ولو كان جالساً.
والراجح: أن النوم ناقض مطلقاً، وأن مسلك الترجيح بين الأحاديث هو الأقرب؛ لعدم إمكان الجمع بالنسبة لبعض ألفاظ حديث أنس ، ففي مسند البزار ، بإسناد صححه الحافظ في الفتح، بلفظ: ( فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة )، وفي مسائل أحمد لـأبي داود بلفظ: ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعون جنوبهم فينامون، فمنهم من يتوضأ، ومنهم من لا يتوضأ )، وقد صححه شيخنا ناصر الدين الألباني ، وهو بهذا بهذين اللفظين لا يمكن حمله على النوم، ممكناً مقعدته من الأرض، وحينئذ فهو معارض لحديث صفوان بن عسال الذي فيه: ( لكن من غائط وبول ونوم )، فإنه يدل على أن النوم ناقض مطلقاً كالغائط والبول، ولا شك أنه أرجح من حديث أنس ؛ لأنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك حديث أنس ، إنما حديث أنس يرجع إلى الصحابة، إذ من الممكن أن يكون ذلك، قبل إيجاب الوضوء من النوم.
والخلاصة: أن العلماء انقسموا إلى فريقين، فمنهم: من سلك مسلك الترجيح، ومنهم من سلك مسلك الجمع، فقال بعضهم: النوم غير ناقض، وهم الذين سلكوا مسلك الترجيح، وقال بعضهم: النوم ناقض، وهذا ما نرجحه؛ لأن بعض ألفاظ حديث أنس ، لا يمكن أن يسلك فيها مسلك الجمع، كقوله: (يضطجعون)، فهل يقال: يضطجعون قليلاً، هذا ما لا يقوله أحد وحينئذ لا يبقى معنا إلا الترجيح.
فننظر في حديث صفوان : فإذا هو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وننظر في حديث أنس فإذا هو من قول الصحابة أو فعلهم، فمن المحتمل أن يكون هذا قبل أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالوضوء من النوم.
وهناك قاعدة أصولية يأخذ بها ابن حزم ، في جميع ما يرده من الأحاديث، فكل ما ورده من الأحاديث ينزلها على شيئين.
يقول: ننظر في الأحاديث التي ظاهرها التعارض، فما كان منها مبقياً على البراءة الأصلية، فهذا نحمله على قبل نزول الحكم في هذا الشيء.
وما كان ناقلاً عن البراءة الأصلية؛ فإنا نأخذ به؛ وذلك لأنا في شك أن المبقي على البراءة الأصلية كان متأخراً عن الناقل فينسخه، بينما نحن في يقين: أن الناقل من الحكم، نقل الحكم عن البراءة الأصلية، فالعمل حينئذ بالمتيقن.
ونحن إذا نظرنا إلى حديث صفوان بن عسال ، فسنجد يقيناً أن الرسول صلى الله عليه وسلم نقل هذا الحكم من البراءة الأصلية إلى حكم جديد، وهو أن النوم ناقض للوضوء. بخلاف حديث أنس ، فهو باقي على البراءة الأصلية.
إذاً: إذا تعارضت الأحاديث بهذه الصفة، فالإمام ابن حزم ينزلها على هذه القاعدة.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر