الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ وقوم لم يروا بينه وبين الماء المطلق فرقاً وبه قال أبو ثور و داود وأصحابه ] وهو رواية عن أحمد [ وشذ أبو يوسف فقال: إنه نجس ] أبو يوسف من أتباع أبي حنيفة ، لأنه لو كان نجساً لكانت الأعضاء نجسة.
قال المصنف رحمه الله: [ وسبب الخلاف في هذا أيضاً ما يظن من أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق ] أي: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا إن لم نجد ماءً أن نتيمم، فهل الماء المستعمل يتناوله لفظ الماء في الآية أو لا يتناوله.
[ حتى إن بعضهم غلا فظن أن اسم الغسالة أحق به من اسم الماء، وقد ثبت ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أصحابه يقتتلون على فضل وضوئه ) ] وهذا الحديث صحيح أخرجه الإمام أحمد و البخاري في صحيحه، أما الحديث الذي يدل على أن الماء المطلق طاهر مطهر، فكأنهم قالوا: إن هذا لا يثبت أنه طاهر مطهر.
[ ولا بد أن يقع من الماء المستعمل في الإناء الذي بقي فيه الفضل ] يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سكت عن فعل الصحابة دل على أنه طاهر، لكن هل لا يدل على أنه طهور؟
[ وبالجملة فهو ماء مطلق; لأنه في الأغلب ليس ينتهي إلى أن يتغير أحد أوصافه بدنس الأعضاء التي تغسل به، فإن انتهى إلى ذلك، فحكمه حكم الماء الذي تغير أحد أوصافه بشيء طاهر، وإن كان هذا تعافه النفوس أكثر وهذا لحظ من كرهه ] يعني: هل الماء الذي نستعمله في طهارة الأعضاء نجساً إلا إذا انفصل من الأعضاء بأن كان فيها أوساخ فهذا حكمه حكم الماء المتغير بالطاهرات، وقد قلنا: إن حكم الماء المتغير بالطاهرات أنه طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، إلا أن الماء المتغير بالأعضاء كتغير بالوضوء أكبر من المتغير مثلاً في الشاهي أو كذا؛ لأنه إذا كان متغير بالشاهي أو بالمرق سوف تشربه، لكن إذا كان متغيراً بغسل الأعضاء هل ستشربه؟
[ وأما من زعم أنه نجس فلا دليل معه ] هكذا يقرر.
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الرابعة: حكم الأسار:
اتفق العلماء على طهارة أسار المسلمين، وبهيمة الأنعام ] أي: اتفقوا على أن باقي شرب المسلمين طاهر، وكذلك بهيمة الأنعام.
[ واختلفوا فيما عدا ذلك ] أي غير الإنسان وبهيمة الأنعام [ اختلافاً كثيراً، فمنهم من زعم أن كل حيوان طاهر السؤر ] أي: كل حيوان طاهر فسؤره طاهر وهذا القول الأول.
[ ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير فقط ] لثبوت نجاسته في القرآن [ وهذان القولان مرويان عن مالك ، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير والكلب وهو مذهب الشافعي و أحمد ، أي: أن كل الحيوانات سؤرها ليس بنجس إلا الخنزير والكلب [ ومنهم من استثنى من ذلك السباع عامة ] يعني: السباع التي لها أنياب سؤرها نجس [ وهو مذهب ابن القاسم ] من المالكية [ ومنهم من ذهب إلى أن الأسآر تابعة للحوم، فإن كانت اللحوم محرمة فالأسآر نجسة، وإن كانت مكروهة فالأسآر مكروهة، وإن كانت مباحة فالأسآر طاهرة ] وهذا هو مذهب أبي حنيفة .
[ وأما سؤر المشرك ] أي: فيما يشرك من الماء [ فقيل: إنه نجس ].
[ وقيل: إنه مكروه إذا كان يشرب الخمر وهو مذهب ابن القاسم ] من المالكية [ وكذلك عنده جميع أسآر الحيوانات التي لا تتوقى النجاسة غالباً مثل الدجاج المخلاة، والإبل الجلالة، والكلاب المخلاة ].
والدجاج المخلاة هي التي تأكل العذرة.
القول الثاني: استثنى الخنزير.
القول الثالث وهو قول الشافعي و أحمد : استثنى الخنزير والكلب.
القول الرابع: أن الأسار تابعة للحيوان فإن محرمة اللحم أسارها نجسة، وهو مذهب الحنفية..
[ سبب اختلافهم في ذلك هو ثلاثة أشياء: أحدها معارضة القياس لظاهر الكتاب ] يعني: أنه ورد في القرآن نجاسة الخنزير ونجاسة المشرك.
[ والثاني: معارضته لظاهر الآثار.
والثالث: معارضة الآثار بعضها بعضاً في ذلك.
أما القياس: فهو أنه لما كان الموت من غير ذكاة هو سبب نجاسة عين الحيوان بالشرع، وجب أن تكون الحياة هي سبب طهارة عين الحيوان..] أي: أن السبب في نجاسة الحيوان الموت والحياة سبب في طهارته، فإذا كانت الحياة سبباً في طهارته فسؤره طاهر [ وإذا كان ذلك كذلك فكل حي طاهر العين، وكل طاهر العين فسؤره طاهر، وأما ظاهر الكتاب فإنه عارض هذا القياس في الخنزير والمشرك، وذلك أن الله تعالى يقول في الخنزير: فَإِنَّهُ رِجْسٌ[الأنعام:145]، وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه؛ ولذلك استثنى قوم من الحيوان الحي الخنزير فقط] وقال: كل الحيوانات طاهرة [ومن لم يستثنه حمل قوله (رجس) على جهة الذم له] يعني: أن الحيوانات كلها طاهرة عنده حتى الخنزير.
[ وأما المشرك ففي قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[التوبة:28]]، فهذه الآية تعارض القياس [ فمن حمل هذا أيضاً على ظاهره ] أي: أن المشرك نجس [ استثنى من مقتضى ذلك في القياس المشركين ] أي: لأن الآية أخرجتهم.
[ ومن أخرجه مخرج الذم لهم طرد قياسه ] أي أن معنى (نجس) في الآية: الذم لهم.
أقول: ولا يلزم من نجاسة عين المشرك ونجاسة عين الخنزير نجاسة سؤرهما، إنما يقولون: أن الماء القليل لا ينجس بمجرد ملاقاة النجس، وإنما يلزم ذلك عند من يقول: بأن الماء ينجس بالملاقاة.
[ وأما الآثار ] أي: الواردة [ فإنها عارضت هذا القياس في الكلب والهر والسباع، خرأخرج
أما الكلب: فحديث أبي هريرة المتفق على صحته، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات ) وفي بعض طرقه: ( أولاهن بالتراب ) وفي بعضها:( وعفروه الثامنة بالتراب ) ] وهذا الحديث صحيح، أخرجه البخاري و مسلم .
[ وأما الهر فما رواه قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين ) وقرة ثقة عند أهل الحديث]. وهذا الحديث صحيح أخرجه الدارقطني.
[ وأما السباع فحديث ابن عمر المتقدم عن أبيه قال: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) ] وهو حديث صحيح.
فمفهومه يقتضي تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على أن سؤر السباع ينجس الماء بالملاقاة إذا كان الماء دون القلتين فهو يكون مستثنى من القياس، وهو حل الحيوانات ما عدا السباع.
[ وأما تعارض الآثار في هذا الباب، فمنها أنه روي عنه: ( أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع، فقال: لها ما حملت في بطونها ولكم ما غبر شراباً وطهوراً ) ] وهذا الحديث ضعيف.
[ ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع، وترد علينا )] وهذا الحديث رواه مالك في الموطأ، وفي إسناده انقطاع، فهو حديث ضعيف.
[ وحديث أبي قتادة أيضاً الذي خرجه مالك : ( أن كبشة سكبت له وضوءاً فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات ) ] فهذا يعارض حديث قرة ولكن فيه قصور؛ لأنه ليس كل السباع من أصناف الطوافات.
[فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور، فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة ] يقول: الماء طاهر، والكلب طاهر ولكن الغسل هو للتعبد.
إذاً بقي على أسار الحيوانات الغير طاهرة [ وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء ] يقول: أن شرب أو أكل من ... فذاك رزقه، ومن ... حتى ولو في غير الماء ...
[وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له، ولأنه ظن أيضاً أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ[المائدة:4]] بمعنى: أنه إذا فهم من الحديث أن الكلب نجس العين، فالله قد أباح لنا أن نأكل مما أمسكته لنا، فإذا كان ما أمسكته لنا حلالاً، فهذا دليل على طهارته.
[ يريد أنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته، وأيد هذا التأويل ] ومعنى التأويل أي: التعبد.
[ بما جاء في غسله من العدد، والنجاسات ليس يشترط في غسلها العدد فقال: إن هذا الغسل إنما هو عبادة، ولم يعرج على سائر تلك الآثار لضعفها عنده.
وأما الشافعي فاستثنى الكلب من الحيوان الحي ورأى أن ظاهر هذا الحديث يوجب نجاسة سؤره وأن لعابه هو النجس لا عينه فيما أحسب، وأنه يجب أن يغسل الصيد منه، وكذلك استثنى الخنزير لمكان الآية المذكورة].
يقول صاحب الكتاب: على أن لعاب الكلب عند الشافعي نجس وأن الكلب طاهر.
وقوله فيما أحسب هو بخلاف ما يحسب، فإن الشافعي يقول بنجاسة عين الكلب، وأنه يجب غسل الصيد منه، لكن نقول: أن صيده بمحل عطفين، هو يقول الآن ... عن مالك لأنه معروف في الحديث.
وكذلك الشافعي استثنى الخنزير لما كان الآية فقال: الخنزير نجس وسؤره نجس.
ويجب غسل الإناء من ولوغ الخنزير فيه سبعاً، كما هو مقرر في المذهب؛ قياساً على الكلب، بالأولى، وهو ما نسميه سابقاً: فحوى الخطاب.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر