بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الثانية: الماء الذي خالطه زعفران أو غيره من الأشياء الطاهرة التي تنفك منه غالباً، متى غيرت أحد أوصافه، فإنه طاهر عند جميع العلماء، غير مطهر عند مالك و الشافعي ] و أحمد ، يعني: هناك تخالط الماء والماء لا يستغني عنها، بمعنى لا ينفك عنها، أو يكون الماء تحت أشجار، وأوراق الأشجار تنزل عليه، فهذه الأوراق لا تضره؛ لأن الماء لا يستغني عنه.
أما إذا غيره بالمجاورة، مثل أن تضع ماء في الثلاجة، وتضع فيها شيئًا من الروائح، وهو لا يتصل بالماء، أو أن الماء يكون له رائحة كتلك الروائح، فهذه تسمى رائحة مجاورة لا تضره، أو أنك تضع حبوباً من الهيل غير مفتت، وغير مدقوق بين الماء، فتجد له رائحة الهيل، فهذا يسمى مجاوراً ليس بمخالط.
إذاً لابد يكون تغير بمخالط، ويخرج بالمخالط: المجاور، وأن يكون الماء مستغنياً عن هذا المخالط يمكن فصل الماء عنه.
أما إذا كان مجاورًا أو لا يمكن فصل الماء عنه فإنه لا يضر وإن تغير أو أن يكون التغير كثيراً. أما إذا كان التغير قليلاً بحيث لا يسلبه اسم الماء فإنه لا يضر.
الخلاصة أن الماء المتغير لا بد أن يكون ما غيره مخالطًا، أي: متفتتًا فيه، وخرج بالمخالط: المجاور، كالهيل إذا وضع غير مدقوق في ماء فصار له رائحة فإنه لا يضر، وكذلك أن يكون الماء مستغنياً ومنفكاً عن هذا المخالط، كالشاي، والمرق.
أما إذا كان لا يستغني عنه ولا ينفك عنه مثل الطحلب بين الماء، وأوراق الشجر إذا تساقطت على الماء تحت الشجرة، فهذا لا يضر.
وكذلك أن يكون التغير بحيث يسلبه اسم الماء، أما لو كان تغيراً قليلاً فإنه لا يضر؛ لحديث: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم اغتسل هو و ميمونة في إناء واحد، في قصعة فيها أثر عجين )، والحديث صحيح؛ قد دل على أن التغير القليل لا يضر.
إذاً: إذا كان الماء متغيراً بمخالط، وهذا المخالط لم يسلب عنه اسم الماء، فما حكم هذا الماء؟ حكم الماء طاهر في نفسه، بمعنى إذا وقع في الثوب فإنه لا ينجسه، ولكنه غير مطهر؛ بمعنى لا يجوز أن نتوضأ به، أو نغتسل به من النجاسة، أو نغسل به الثوب النجس، لكن هو طاهر، فمثلًا لو جاء وقت الظهر، فهل يجوز لي أن آخذ الشاي ماء طاهراً غير طهور، وهذا ما ذهب إليه مالك و الشافعي و أحمد .
[ومطهر عند أبي حنيفة ما لم يكن التغير عن طبخ].
وهذا مذهب أبي حنيفة فإنه قال: إنه طاهر مطهر، ما لم يكن التغير عن طبخ، فكل شيء خالط الماء يتغير حكمه كما لو طبخت لحماً أو شاياً فلا يصح أن تتوضأ به، لكن لو خلطنا أشياء مع الماء من غير طبخ ذلك فإنه ماء طهور مطهر فيصح الوضوء به عند أبي حنيفة .
أما المشروبات التي لم تغل ولم تطبخ فإنها كذلك طاهرة مطهرة عند أبي حنيفة وأما ما أغلي وطبخ فأجمعوا على أنه لا يطهر.
قال المصنف رحمه الله: [وسبب اختلافهم هو خفاء تناول اسم الماء المطلق للماء الذي خالطه أمثال هذه الأشياء (أعني: هل يتناوله أو لا يتناوله)]، يعني أنك إذا خلطت المشروبات بغير طبخ فيسمى ماءً مقيداً، قيداً لازماً والقيد قيدان: قيد لازم وقيد منفك، فالقيد المنفك لا يضر: مثلًا: الماء الموجود الآن في عبوات كماء شملان، أو أي ماء صحة أخرى، هذا منفك؛ لأني عندما أضعه في كأس هل أقول له: شملان أو ماء، أقول له: ماء. لكن مشروب كاكولا أو ميراندا.. أو كذا، فيكون اسمها معها؛ فهذا القيد لازم، لكن أبا حنيفة يطلق على الكاكولا مسمى الماء على حسب ما ذكر سابقاً أنه يجيز الوضوء بما لم يطبخ مع الماء.
إذاً القيد المنفك لا يضر؛ لأنه لا بد في الماء أن يكون مطلقاً أي: غير مقيد، فلو كان مقيدًا بقيد منفك فلا يضره.
أما إذا غيره حتى صار مقيداً بقيدٍ لازم فإن هذا يسمى ماء مقيداً وقد سلبه اسمه.
فهنا قلنا لكم: بأن أبا حنيفة يجيزه ما لم يطبخ.
ولهذا يقول أبو حنيفة : ماء، فتقول له: كاكولا، يقول: لا، ما هو كاكولا، هذا ماء، يطلق عليه ماء.
وسبب اختلافهم اسم الماء، [فمن رأى أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق، وإنما يضاف إلى الشيء الذي خالطه]، فمثلاً الميراندا يقال عنها: ميرندا، حتى لو قلت: ماء، فتقول: ماء ميرندا، وكذا كاكولا وهكذا يضاف إلى الشيء الذي خالطه [فيقال: ماء كذا، لا ماء مطلق.
لم يجز الوضوء به، إذ كان الوضوء إنما يكون بالماء المطلق. ومن رأى أنه يتناوله اسم الماء المطلق ] كـأبي حنيفة [أجاز به الوضوء. ولظهور عدم تناول اسم الماء للماء المطبوخ مع شيء طاهر، اتفقوا على أنه لا يجوز الوضوء به وكذلك في مياه النبات المستخرجة منه]. يعني: كالمرق عادةً لا يتناوله اسم الماء؛ لأنه مطبوخ، وغلي على النار.
يعني: أنك إذا وضعت الماء، ووضعته على النار، ووضعت بينه مخلوطات، فـأبو حنيفة يقول: أما هذا فلا يتناوله اسم الماء.
لكن إذا خلطت بينه شيئاً، من غير طبخ ونفخ عليه، فهذا لا يزال هو ماء.
فمن هنا اختلفوا، في الماء المخلوط بشيء آخر، فقالت الحنفية: إنه ماء، ولهم دليل ضعيف، الذي ذكر فيه النبيذ وقال فيه: ( إنه شراب طيب وماء طهور ).
أما مياه النباتات المستخرجة مثل: عصير السمسم وزيت السمسم، وماء الورد والماء الذي يسيل من أصول الشجر إذا قطعت خضراء، فهذه المياه اتفقوا على أنها لا تسمى مياه مطلقة، وإنما تسمى: مياه طاهرة في نفسها غير مطهرة لغيرها.
الخلاصة إذاً الذي اتفقوا عليه كلهم ما طبخ.
والثاني: المياه المستخرجة من النباتات، والماء النازل من أصول الشجر إذا قطعت خضراء.
وكذلك يقول: ما صار صبغاً أو حبراً أو مرقاً، فاتفقوا أنه لا يجوز أن تتوضأ به.
قال المصنف رحمه الله: [ إلا ما في كتاب ابن شعبان من إجازة طهر الجمعة بماء الورد ] كأنه يقول: غسل الجمعة، بماء الورد، يقصد به النظافة ولم يقصد به العبادة، حتى لا يأتي الإنسان وله رائحة كريهة في المسجد؛ فله أن يغتسل بماء الورد وينظف به بدنه فيحصل به الغسل عند ابن شعبان .
لكن من رأى أنه عبادة ونظافة، فيقول: لا يغتسل بماء الورد.
و ابن شعبان رأى أنه لا يجمع عبادةً، وإنما هو نظافة، فقال: يتنظف بأي شيء.
[والحق أن الاختلاط يختلف بالكثرة والقلة، فقد يبلغ من الكثرة إلى حد لا يتناوله اسم الماء المطلق مثل ما يقال: ماء الغسل] والمراد بماء الغسل الماء الذي وضع فيه أوراق السدر، وكان يغتسل بها قبل أن يوجد الصابون والشامبو، فكان من عنده شعر، يأخذ الغسل ويضعه فيه ويغسله فهل يسمى هذا ماء؟ لا.
قال: [ وقد لا يبلغ إلى ذلك الحد، وبخاصة متى تغيرت منه الريح فقط ] فقد يكون التغير في الرائحة فقط تغيراً يسيراً فهذا لا يضر.
[ ولذلك لم يعتبر الريح قوم ممن منعوا الماء المضاف ] يقول بعض العلماء: إذا كان الماء تغير بالريح فقط، ولم يتغير باللون فلا يضر، لكن الراجح أنه إذا تغير بالريح المخالط فإنه يضر، يعني: إذا تغيرت رائحته بمخالط تغيراً كثيراً كأن تأخذ قارورة ماء ورد أو عطر وتصبها في الماء فيصير عطراً، فهذا مخالط، لا يجوز الوضوء به، أما إذا وضعت هناك عوداً .. أو بخوراً، بخرت الإناء ووضعت فيه الماء، فهذا لا يسمى مخالطاً، لكن الروائح التي لا تنفك في إناء كأن وضعت فيه غازاً أو بترولاً، وغسلته وبعد ذلك تضع الماء وتجد رائحة له فهذه لا تضره.
[ وقد قال عليه الصلاة والسلام لـأم عطية عند أمره إياها بغسل ابنته: ( اغسلنها بماء وسدر ) ] ويقصد بالسدر ورق السدر، [ ( واجعلن في الأخير كافوراً أو شيئاً من كافور) ].
والذي نفهمه: ( اغسلنها بماء وسدر )، هل أن الغسلات كلها مخلوطة بالسدر؟ لا، فهناك ماء وسدر، وهناك ماء بغير سدر، وهناك ماء فيه شيء من كافور، وهذا آخر غسلة.
الغسلة الأولى تكون بماء وسدر، وهو ما يسمى بالغسل.
والسدر عندنا والسدر إذا خلط كثيرًا لا يجوز الوضوء به، ولكن قد يقال: إن هذا الحديث يدل على أنه لو خلط بالسدر؛ فيجوز الوضوء به، لا. والمراد بقوله: ( اغسلنها بماء )، أي: بماء صافي، وماء فيه السدر، والدليل في قوله: ( واجعلن في الأخيرة كافوراً )، أي: شيئًا من كافور، فهذا تغير بالكافور شيئاً يسيراً.
وهذا الحديث أخرجه البخاري من حديث أم عطية .
أما قوله: (اغسلنها بماء وسدر )، فالماء المخلوط بالسدر يسمى سدراً، والماء الذي ليس بمخلوط يسمى ماء، وواو العطف لا تقتضي الترتيب. يعني: اغسلنها بسدر وماء.
وفي الباب عن أم هانئ : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغتسل هو و ميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر عجين )، أخرجه النسائي و أحمد و ابن ماجه و ابن حبان ، وصححه شيخنا ناصر الدين الألباني في الإرواء جزء (1/64) وهو حديث صحيح.
[ فهذا ماء مختلط ولكنه لم يبلغ من الاختلاط بحيث يسلب عنه اسم الماء المطلق ].
إذاً إذا لم يسلبه اسم الماء المطلق فحكمه أنه طاهر مطهر، أما إذا سلبه اسم الماء المطلق فإنه طاهر غير مطهر.
[ وقد روي عن مالك اعتبار الكثرة في المخالطة والقلة والفرق بينهما، فأجازه مع القلة وإن ظهرت الأوصاف، ولم يجزه مع الكثرة ] يعني: الإمام مالك قال: إذا كان التغير قليلًا، لا يسلبه اسم الماء؛ فهو طاهر مطهر، وهذا مذهب الشافعي .
والراجح في هذه المسألة: أن الماء إذا تغير بمخالط مستغن عنه تغيراً كثيراً يسلبه اسم الماء؛ فإنه يكون طاهراً في نفسه غير مطهر لغيره؛ وذلك لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]، فالآية أطلقت الماء، فلا بد أن يكون الماء الذي يتطهر به ماءً مطلقاً، ماء غير مقيد بمخالط؛ وذلك لأن الحكم يعطى للاسم، فحكم الطهورية تعطى لاسم الماء، واسم الماء لا يكون كذلك إلا إذا كان محتفظًا بصفاته.
أما لو سلبت منه الصفات والصفات هي: الطعم أو اللون أو الريح؛ فقد زال عنه اسم الماء المطلق، وقد حكمه وهو التطهر به، وبقي الحكم لما غلب عليه من المخالطات.
فالظاهر أن الحكم للغالب ليس للمغلوب، وأصبح الماء مغلوباً، فلا يستطيع أن يؤدي وظيفته.
والاختلاط القليل هو الكافور؛ (وشيئاً من كافور) أما السد فهور اختلاط كثير، وفيه خلاف، هل يطهر الثياب أو لا يطهر الثياب؟ ولكن أرجعكم إلى المسائل الماردينية، فإنه قال: أن الأشياء العريفة تطهر النجاسات ولو لم تكن ماءً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر