بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة التاسعة من الأركان: اختلفوا في مسح الأذنين: هل هو سنة أو فريضة؟ وهل يجدد الماء أم لا؟ ] هذه مسائل: سنة، فريضة، يجدد لها الماء، أو لا يجدد.
[ فذهب بعض الناس إلى أنه فريضة، وأنه يجدد لهما الماء ] ويكون التجديد بغير الماء الذي مسح به الرأس، أي: يمسح الأذنين بماء جديد [ وممن قال بهذا القول جماعة من أصحاب مالك ، ويتأولون مع هذا أنه مذهب مالك ؛ لقوله فيهما: إنهما من الرأس. وقال أبو حنيفة وأصحابه: مسحهما فرض كذلك، إلا أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد ]، وما نسبه هنا إلى أبي حنيفة وأصحابه غير صحيح فهم يقولون: إن مسحهما سنة. وأما القائلون بالوجوب، أو أنهما يمسحان بماء الرأس فهو مذهب الإمام أحمد .
إذاً مذهب أحمد هو ما نسبه المؤلف إلى أبي حنيفة ، ومذهب أبي حنيفة أن مسح الأذن سنة، ومذهب أحمد أنهما فرض، ويمسحان بماء الرأس.
[ وقال الشافعي : مسحهما سنة، ويجدد لهما الماء. وقال بهذا القول جماعة من أصحاب مالك ، ويتأولون أيضاً أنه قول مالك لما روي عنه أنه قال: حكم مسحهما حكم المضمضة ] يعني: أن المضمضة يؤخذ لها ماء جديد غير ماء غسل الوجه، وينسبون إليه أنه قال: إن مسحهما سنة، وأنه يؤخذ لهما ماء جديد.
قال المصنف رحمه الله: [ وأصل اختلافهم في كون مسحهما سنة أو فرضاً: اختلافهم في الآثار الواردة في ذلك ]، يعني بالآثار: الأحاديث التي نقلت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمسح أذنيه. [ أعني: مسحه عليه الصلاة والسلام أذنيه، هل هي زيادة على ما في الكتاب من مسح الرأس؟ ]، فمن قال: إنها زيادة، قال: هي تعارض ما ورد في القرآن، فيجمع بينها وبين ما في القرآن من آية الوضوء، بأنها محمولة على الندب، وآية الوضوء محمولة على الوجوب، وهذه قاعدة في الحكم الذي يعارض ما في القرآن، فيحمل هذا الحكم المعارض على الندب، [ فيكون حكمهما يحمل على الندب؛ لمكان التعارض الذي يتخيل بينها وبين الآية إن حملت على الوجوب ]؛ لأنها لو حملت على الوجوب، لقيل: إن هذا زائد على ما في القرآن، والقرآن قد حدد لنا الفروض، [ أم هي مبينة للمجمل الذي في الكتاب فيكون حكمهما حكم الرأس في الوجوب ]؛ لأن قوله: (رءوسكم) مجمل، فيحتمل أن الأذنين من الرأس، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الأذنين من الرأس، فإذا كان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً للمجمل فهي واجبة. [ فمن أوجبهما جعلهما مبينة لمجمل الكتاب، ومن لم يوجبهما جعلهما زائدة كالمضمضة، والآثار الواردة في ذلك كثيرة ]، يعني: نقل عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يمسح أذنيه كثيراً، [ وإن كانت لم تثبت في الصحيحين ]، وإن كانت هذه الأحاديث غير موجودة في البخاري و مسلم ، [ فهي قدا اشتهر العمل بها ].
قال المصنف رحمه الله: [ وأما اختلافهم في تجديد الماء لهما: فسببه تردد الأذنين بين أن يكونا عضواً مفرداً بذاته من أعضاء الوضوء، أو يكونا جزءاً من الرأس ]، كما في الحديث: ( الأذنان من الرأس )، وهو حديث صحيح، يشير إلى أن الأذنين من الرأس.
[ وقد شذ قوم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه ]، أي: أنهما من الوجه، [ وذهب آخرون إلى أنه يمسح باطنهما مع الرأس، ويغسل ظاهرهما مع الوجه ] وهذا لا دليل عليه [ وذلك لتردد هذا العضو بين أن يكون جزءًا من الوجه، أو جزءًا من الرأس ]، يعني: من أجل هذا وقع التردد من حيث أنه تحصل المواجهة أيضاً بالأذنين، فأدخلهما في الوجه [ وهذا لا معنى له مع اشتهار الآثار في ذلك بالمسح ] أي: أنها تمسح مع الرأس، [ واشتهار العمل به.
و الشافعي يستحب فيهما التكرار كما يستحبه في مسح الرأس ].
أقول: الراجح هو مذهب أحمد ، وهو: وجوب مسحهما، وأنهما يمسحان مع الرأس، قال شيخنا ناصر الدين الألباني : هو أسعد الناس من بين الأئمة الأربعة، يعني: أن أحمد أسعد الناس في هذه المسألة، فقد وافق الدليل، وعمل بحديث: ( الأذنان من الرأس )، أي: فقد أخذ بما دل عليه الحديث في المسألتين، يعني: في وجوب مسحهما، وأنهما يمسحان مع الرأس، ولم يأخذ بواحد دون الآخر كما صنع غيره.
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة العاشرة: من الصفات ] أي: من صفات الوضوء [ اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء ]، أي: أن هذا لا خلاف فيه.
قال المصنف رحمه الله: [ واختلفوا في نوع طهارتهما، فقال قوم: طهارتهما الغسل ] أي: لا بد من غسلهما [ وهم الجمهور ] فقالوا: طهارتهما الغسل [ وقال قوم: فرضهما المسح ] أي: يكتفي بمسح الرجلين فقط [ وقال قوم: بل طهارتهما تجوز بالنوعين ]، أي: هو مخير بينهما، [ الغسل والمسح، وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف ].
قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم: القراءتان المشهورتان في آية الوضوء، أعني: قراءة من قرأ: (وأرجلَكم) بالنصب عطفاً على المغسول ] فيكون معناها وجوب الغسل [ وقراءة من قرأ (وأرجلِكم) بالخفض عطفاً على الممسوح، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين ] يعني: هناك من قال بالتخيير، وهناك من قال بالتعيين، أي: بتعيين أحد الطهارتين [ إما الغسل، وإما المسح، ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين ]، أي: أن كل واحد أخذ بقراءة دون الأخرى، [ على القراءة الثانية، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده ]، والقراءة الثانية أول إعرابها حتى تتوافق مع ما ذهب إليه.
[ ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضاً ]، أي: كل قراءة لها مدلولها الخاص بها، [ جعل ذلك من الواجب المخير ]، يعني: مخير بين أن يغسل وبين أن يمسح، [ ككفارة اليمين، وغير ذلك، وبه قال الطبري و داود ].
فذهب الإمام الطبري و داود إلى أنه مخير، و الطبري له مذهب خاص به، ولكنه لم يشتهر وهو صاحب التفسير.
قال المصنف رحمه الله: [ وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض ]، فالجمهور أولوا قراءة الخفض، والمراد بالجمهور هنا الأئمة الأربعة [ أجودها: أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى ]، أي: أن الخفض جاء بسبب المجاورة جرياً على القاعدة (هذا جحر ضب خرب) فالهاء: للتنبيه، وذا: اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، وجحر: خبر، وهو مضاف، وضب: مضاف إليه، خرب: صفة لجحر، وجحر مرفوع، والأصل أن يرفع خربٌ، ولكنه جره على المجاورة لجحر، فهذه الجملة من الآية معطوفة على غسل اليدين، ولكنها جرت على قوله: (وامسحوا برءوسكم)، للمجاورة.
[ إذ كان ذلك موجوداً في كلام العرب مثل قول الشاعر:
لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر
بالخفض، ولو عطف على المعنى لرفع القطر ].
لعب الزمان: لعب: فعل ماض، الزمان: فاعل، بها: جار ومجرور متعلق بلعب، وغير: فعل ماض، والهاء: مفعول به، بعدي: ظرف منصوب على الظرفية، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، وهو مضاف، وياء النفس: مضاف إليه، [ وغيرها بعدي سوافي ] ومعنى السوافي هنا: جبال الرمال التي تشكلها الرياح.
[ وغيرها بعدي سوافي ] سوافي: فاعل مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، منع من ظهورها الثقل، وهو مضاف، والمور: التراب، مضاف إليه، والقطر: الواو حرف عطف، والقطر معطوف على؟
على السوافي، وهو مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها حركة المجاورة. فالجمهور هنا يقولون: إن (أرجلِكم) منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة، منع من ظهورها حركة المجاورة.
[ وأما الفريق الثاني ] وهم الذين يقولون: إنه يتعين عليه المسح، [ وهم الذين أوجبوا المسح، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا ] ليس: فعل ماض، من أخوات كان ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ونا: ضمير متصل في محل رفع اسمها، بالجبال: الباء حرف جر زائد، أي: فلسنا الجبال ونحن نقول: (برءوسكم) الباء حرف جر زائد أي: فامسحوا رءوسكم. ولا الحديد: الواو: حرف عطف، ولا: نافية، الحديد: معطوف على محل الجبال، وهو منصوب وعلامة نصبه الفتحة على آخره، فهة عطف على محل الجبال، فاللفظ مجرور ولكن محله النصب.
فالحديد معطوف على الجبال، ولكن لما كان محل الجبال النصب نصب، فكذلك الأرجل معطوف على الرءوس الممسوحة، ولكن لما كان الجار والمجرور في محل نصب، نصب، فتبين مما سبق وجه كل قول، وسبب اختلافهم في ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه صلى الله عليه وسلم ]، يعني: الثابت في البخاري وفي مسلم ، إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء: ( ويل للأعقاب من النار ) ]، فهذا دل على أنهما يغسلان؛ لأن المسح لا يمسح فيه العقب، بل يمسح ظهر الرجل فقط.
[ قالوا: فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض؛ لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب ]، أي: فلما علق العقاب بترك غسل الأعقاب عرفنا أن الغسل هو الواجب. وهذا ليس فيه حجة؛ لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم، كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين ]، قال: ففرضه المسح، ولم يقل في جميع القدم لأن فرض المسح لا يستوعب جميع القدم، وحديث ( ويل على الأعقاب من النار ) يدل على التعميم.
[ وقد يدل على هذا ]، يعني: على أن الحديث وارد في المسح، وفي الغسل، [ ما جاء في أثر آخر خرجه أيضاً مسلم أنه قال: ( فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى: ويل للأعقاب من النار ) ]، فهذا يدل على أنهم كانوا يمسحون أرجلهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( ويل للأعقاب من النار ).
[ وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل على جوازه منه على منعه، لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم، لا بنوع الطهارة ] ونوع الطهارة هنا الغسل، [ بل سكت عنها، وذلك دليل على جوازها ].
فعن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتوضأ ولم يغسل عقبه ) أقول: ويرد عليه بحديث أبي هريرة الآتي في الترجيح، الذي يدل على أن الوعيد تعلق بالتعميم، وبنوع الطهارة التي هي الغسل، فقال: ( ويل للأعقاب من النار )، فهذا يؤيد الغسل ويؤيد على أن هذا المسح معناه هنا الغسل [ وجواز المسح أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين ]، ذكر ابن رشد أن القول بمسح الرجلين قال به بعض الصحابة؛ وذلك أنه جاء عن علي رضي الله عنه: (أنه مسح على النعلين)، فقالوا: معناه مسح على رجليه.
وبعد مناقشة ابن رشد لأدلة القولين وقوله: إنها محتملة للمسح والغسل، قال: [ ولكن من طريق المعنى، فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح، كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالباً إلا بالغسل ]؛ لأنهما تمشيان على الأرض [ وينقى دنس الرأس بالمسح، وذلك أيضاً غالب، والمصالح المعقولة ]، والمصالح المعقولة يعني بها: الدنس الذي في الرجل، بسبب مقاربتها للأرض [ والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسباباً للعبادات المفروضة ]، فيكون غسلها عبادة والمصلحة هي تقذرها بالأرض، كما في غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، والمصلحة مظنة التقذر فصارت عبادة.
[ والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسباباً للعبادات المفروضة، حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين: معنىً مصلحياً ]، وهو الذي انقضى، [ ومعنىً عبادياً ] وهو أنها تصاب بالأقذار؛ ولأجل هذا لاحظ المعنى العبادي، فقال بوجوب غسلها، [ وأعني بالمصلحي: ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي: ما رجع إلى زكاة النفس ] أي: طهارة النفس. فابن رشد يرجح الغسل من حيث المعنى، وأما نحن فنرجح الغسل بما دلت عليه الأحاديث.
فالراجح إذاً وجوب غسل الرجلين، قال الإمام النووي في المجموع (1/158): وذلك للأحاديث المستفيضة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يغسل رجليه، ومنها حديث عثمان و علي و ابن عباس و أبي هريرة و عبد الله بن زيد و الربيع بنت معوذ و عمرو بن عبسة، وغيرها من الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما.
وأما قول المؤلف بأن حديث: (ويل للأعقاب من النار ) لا يدل على تعيين الغسل، وأنه محتمل له وللمسح، فيجاب عنه بأن حديث أبي هريرة الذي عند مسلم وهو ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتوضأ ولم يغسل عقبه فقال: ويل للأعقاب من النار )، فهذا صريح في تعيين الغسل، كما نبه على ذلك الحافظ في الفتح (1/119).
قال: وأما قول المؤلف: بأن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم، ومن شرع في المسح ففرضه المسح فيجاب عليه بأن من يقول بالمسح لا يوجب مسح العقب، فيكون الحديث حجة عليه لا له. وقال أيضاً: إنه مخير بين المسح والغسل، هه..
فيجاب عليه: بأن الذين قالوا بالمسح لم يقولوا بمسح العقب، والحديث يقول: ( ويل للأعقاب من النار )، وهم لا يقولون بهذا، فيصير الحديث حجة عليهم، وعليه فلا يصح الاستدلال به على دعواه، وهو التخيير بين المسح والغسل.
مداخلة: لا.
وقال الطحاوي وهو من الحنفية: لما أمرهم بغسل الرجلين، أي الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يبقى منها لمعة وهي كالدرهم، دل على أن فرضها الغسل.
فالراجح إذاً مذهب الجمهور، وهم الأئمة الأربعة.
قال المصنف رحمه الله: [ وكذلك اختلفوا في الكعبين، هل يدخلان في المسح، أو في الغسل عند من أجاز المسح؟
وأصل اختلافهم: الاشتراك الذي في حرف (إلى)، أعني: في قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] ]، وقد مر معنا أن (إلى) تفيد الغاية، وتفيد معنى (مع)، وهو ما مر معنا في غسل اليدين، ولكن يبقى شيء، [ وقد تقدم القول في اشتراك هذا الحرف في قوله تعالى: (إلى المرافق)، لكن الاشتراك وقع هنالك من جهتين: من اشتراك اسم اليد، ومن اشتراك حرف (إلى)، وهنا من قبل اشتراك حرف (إلى) فقط ] يقول المؤلف: أن الاشتراك هناك وقع من جهتين: من جهة حرف (إلى) وكذا الاشتراك في مسمى اليد. أما المرفق فهو: اسم واحد، لا يطلق على شيئين، لكن الاشتراك هنا في الكعبين، وهناك الاشتراك في اليدين.
[ وقد اختلفوا في الكعب ما هو؟ وذلك لاشتراك اسم الكعب، واختلاف أهل اللغة في دلالته، فقيل: هما: العظمان اللذان عند معقد الشراك ].
يعني لقد وقع الخلاف في تعيين الكعبين، فبعض العلماء يقول: أن لكل رجل كعبا واحدا، وهو العظم الذي عند الشراك، أي كعبين للرجلين كليهما في طرق الساق.
[ وقيل: هما العظمان الناتئان في طرف الساق، ولا خلاف في ما أحسب في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك إذ كانا جزءاً من القدم ]. يعني الذي يقول: هما العظمان الأسفلان فيقول: داخلة في الغسل لأنها في الرجل، ولم يلتفت إلى ما تدل عليه (إلى) من الغاية أو المعية، فيجب عنده الغسل قولاً واحداً، ومن قال: إنهما العظمان الناتئان فهذا ترجح عنده أن (إلى) بمعنى (مع) وهنا قاعدة يذكرها بعض أهل العلم، ولكنها غير متفق عليها، وهي: أن (إلى) إذا كان ما قبلها جزءاً مما بعدها، فيدخل ما بعدها في ما قبلها، مثلاً: الأيدي في قوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فالمرفق جزء من اليد، فيدخل فيها، وكذا قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فالكعبين جزء من الرجل، فتدخل فيها، وإذا لم يكن ما بعدها جزءاً مما قبلها فلا يدخل، كقوله: وَأَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ[البقرة:187]، فالليل ليس جزءاً من النهار، فلا نصوم شيئاً من الليل، ولكن هذه القاعدة أغلبية.
فالراجح إذاً أن الكعبين هما: العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، هذا هو الراجح، والدليل على ذلك: ما رواه النعمان بن بشير ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بوجهه, وقال: أقيموا صفوفكم فلقد رأيت الرجل يلصق كعبه بكعب صاحبه ). فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الصفوف، فبادر الصحابة إلى ذلك حتى أن أحدهم ليلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه، فإذا قلنا: إن الكعبين هما: العظمان اللذان عند مقعد الشراك، فلا يتصور أن يلصق أحدهم كعبه بكعب صاحبه، وإذا قلنا: إنهما العظمان الناتئان في طرف الساق، فهذا يتصور منه إلصاق الكعب بالكعب.
وقال النووي في المجموع (1/462) عن حديث النعمان السابق: حديث حسن، رواه أبو داود و البيهقي ، وغيرهما بأسانيد جيدة، وذكره البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر