بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
يقول المصنف رحمه الله: [ المسألة الثانية من الأحكام: اختلف الفقهاء في غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء، فذهب قوم إلى أنه من سنن الوضوء بالإطلاق ]، أي: من سنن الوضوء بغير تفصيل، [ وإن تيقن طهارة اليد ] حتى ولو تيقن طهارة اليد فإنه يغسلها، [ وهو مشهور مذهب مالك و الشافعي ]، المشهور من مذهب مالك و الشافعي أنه يسن غسلها مطلقاً نام أو لم ينم، وسواء نام في النهار أو في الليل، لا يفصلون في ذلك [ وقيل: إنه مستحب للشاك في طهارة يده ]، يعني: ليس من باب: أطلق النوم وأراد به شيئاً عاماً هو الشك، فإذا حصل له شك بنوم أو غيره، فلا يدخلها في الإناء، وهذا القول الثالث: [ وهو أيضاً مروي عن مالك ] وهذه رواية ثانية عن مالك [ وقيل: إن غسل اليد واجب على المنتبه من النوم ] نهاراً أو ليلاً، وهذا قول رابع [ وبه قال داود وأصحابه ] هؤلاء يقولون: تغسل اليد من أي نوم [ وفرق قوم بين نوم الليل، ونوم النهار، فأوجبوا ذلك من نوم الليل، ولم يوجبوه في نوم النهار، وبه قال أحمد ] فتحصل من هذا أربعة أقوال: قول أنه سنة بإطلاق.
وقول أنه مستحب للشاك.
وقول أنه واجب على المنتبه من النوم مطلقاً.
وقول أنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون النهار.
فهذه هي الأقوال الأربعة. وقيل ذكر سبب الاختلاف لا بد من التنبيه على أن حديث: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء )، هذا يفيدنا أن هذا الحكم لئلا يتقذر الماء، يعني: قد تكون يده نجسة فيتقذر الماء وعليه فهذا الحكم لأجل الماء، وليس لأجل اليد، وهناك أحاديث صحيحة عن عثمان و علي و زيد ، و عبد الله بن زيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغسل يده عند الوضوء مطلقاً، وهذا يفيدنا أنه يسن غسل اليدين.
إذاً حديث الاستيقاظ يفيدنا أن الغسل مطلوب لأجل الماء، وهذه الأحاديث تفيدنا أن الغسل مطلوب لليد. فيجوز أن يكون الحكم للماء، وأن يكون لليد وأن يكون لكليهما، فإذا قام من النوم فهو للماء لئلا يتقذر، ولليد لأنه قد ثبتت سنيتها. وقد يكون الحكم لليد فقط وليس للماء، وذلك إذا تيقن طهارة يده ولم يشك فيها، فإنه لا يغمسها بل يغسلها ثلاثاً. وقد يكون الحكم للماء فقط وليس لليد والماء، وذلك إذا قام من النوم وأراد أن يدخل يده في الماء لغرض ما غير الوضوء، فإن علة الاستقذار موجودة، فيكون الحكم للماء فقط.
قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم في ذلك ] أي: اختلافهم في هذه الأقوال الأربعة [ اختلافهم في مفهوم الثابت من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده )]، في هذا القول: (لا يدري أين باتت يده) هل يدلنا على التنجيس أو على الاستقذار؟ بمعنى: هل باتت يده في أنفه، في مغابنه وهي مواضع مستقذرة، في دبره إذا كان قد استنجى بالماء؟
إذاً هذا الحديث يعطينا أن العلة ليست في النجاسة، بل الاستقذار. وبالسبر والتقسيم فإما أن تكون العلة النجاسة أو الاستقذار، وبعد السبر وجدنا أن يده تبيت في مغابنه ولا تذهب وتتلطخ بنجاسات، فهنا العلة للاستقذار وليست للنجاسة، إنما الاستقذار للماء.
[وفي بعض رواياته: ( فليغسلها ثلاثاً )]، والنجاسة تغسلها حتى تزول عينها، فإذا كانت غير عينية، يعني لا طعم ولا لون لها فتغسل مرة واحدة، ويسن غسلها ثلاثاً، ولكن قال الفقهاء: في هذا الحديث لا بد من غسل اليد ثلاثاً؛ لأن الحديث إذا غيا بغاية وجب أن تتبع، فينبغي غسلها إذا أردت السنة والامتثال ثلاثاً، فالحديث استدلوا به كلهم، واختلفوا في فعله، لأنه أمر، (فليغسلها ثلاثًا).
أولاً: من قال: [ فمن لم ير الزيادة الواردة في هذا الحديث، على ما في آية الوضوء معارضة وبين آية الوضوء ]، يقول: هذا ليس فيه معارضة لآية الوضوء، [ حمل لفظ الأمر هاهنا على ظاهره من الوجوب وجعل ذلك فرضاً من فروض الوضوء ]، فقال: هذا فعل آخر أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الوضوء، وآية الوضوء لا تنافيه، وجعل ذلك فرضاً من فروض الوضوء، هذا القول الأول: الوجوب.
[ومن فهم من هؤلاء من لفظ البيات نوم الليل أوجب ذلك من نوم الليل فقط، ومن لم يفهم منه ذلك وإنما فهم منه النوم فقط أوجب ذلك على كل مستيقظ نهاراً أو ليلاً ]، فالذي فرق أحمد والذي لم يفرق داود لأنه ظاهري، مذهبه مذهب الظاهرية، لكن العلة هنا الاستقذار، لا سيما في أوقات الحر، وفي تهامة، والنهار أشد حراً من الليل، والمغابن تكون فيه عفنة أكثر من الليل؛ لأن ليل تهامة أحسن من نهارها، وفي حديث المرأة التي وصفت زوجها: لا حر ولا قر، ولا برد ولا مخافة، هذا ليل تهامة.
هذا يجعلنا نعتبر الإمام أحمد ظاهرياً في هذه المسألة، ونعتبر داود الظاهري قد تنازل عن ظاهريته، وعمل بالعلة وهي التقذر.
الخلاصة: أن قوله: ( فإنه لا يدري أين باتت يده ) إذا نظرنا إلى العلة رأينا أن هذه العلة ثابتة بمفهوم المخالفة، فإذا كان هذا المفهوم يقتضي الأغلبية فلا نعمل به، مثل قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23]، فقوله: (فِي حُجُورِكُمْ) خرجت مخرج الغالب فهنا (باتت يده) للأغلبية؛ لأن أكثر الناس ينامون في الليل. إذاً لا تقبل علة البيتوتة بمفهوم المخالفة؛ لاعتبار وجود علة أخرى وهي استقذار اليد في المغابن.
وعلى هذا يكون داود الظاهري هنا قد تنازل شيئاً ما عن ظاهريته، فجعل العلة هي: الاستقذار، فعممه في نوم الليل والنهار، ولم يتقيد بلفظ: بات.
وأما الإمام أحمد فكان هنا ظاهرياً، فأخذ بظاهر اللفظ، ولم ينظر إلى العلة.
ونحن إذا نظرنا إلى العلة لقلنا: إن نوم النهار ولا سيما في تهامة، وفي المدينة المنورة، أشد بالمغابن تعفناً منه في نوم الليل.
[ومن لم يفهم منه ذلك وإنما فهم منه النوم فقط، أوجب ذلك على كل مستيقظ من النوم نهاراً أو ليلاً، ومن رأى أن بين هذه الزيادة والآية تعارضاً إذ كان ظاهر الآية المقصود منه حصر فروض الوضوء كان وجه الجمع بينهما عنده أن يخرج لفظ الأمر عن ظاهره الذي هو الوجوب إلى الندب]؛ لأن الآية بينت أعضاء الوضوء، ولا سيما في الحديث: ( توضأ كما أمرك الله )، قال: إذاً هذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم فجمع بين الآية والأحاديث، بأن الأمر للندب.
ثم إنه ذكر خلافاً دقيقاً بين من قال بالندب، ومعروف أن المالكية أشد ابتعاداً من البدع من كل المذاهب، فيتركون السنة خوفاً من أن تقع بدعة في المستقبل فصوم الست من شوال سنة وثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال مالك: أكره صوم الست من شوال مخافة أن يتخذها الناس سنة، أو أن يلحقوها برمضان، يعني يرفعوها عن درجتها.
فقال بعضهم: لأنه لم يبلغه حديث الست، وقال المالكية: لا أصحابنا بلغهم، ولكن من قواعده أن السنة عنده سنة ونفل وواجب، فلو رفعت السنة إلى محل الواجب صارت بدعة، ولو رفعت النفل إلى محل السنة صارت بدعة، فخاف من الناس أن يرفعوا هذه السنة إلى محل الواجب فكره ذلك، وهذا الذي خافه الإمام مالك وقع، فقد أخبرني الشيخ عمر سيف: أنه كان في الحبشة، وقد وجد أهل الحبشة يصومون ما يفطرون يوم عيد الفطر، ولكن العيد الأكبر بعد صيام الست، هذا في الحبشة، فألحقوها برمضان، وقد قرأت في كتب ابن تيمية يقول: من البدع جعل الست كأنها من رمضان، وأن يُعيّد بعده، وهذا ما خشيه الإمام مالك .
فهنا أمر دقيق، يقول: غسل اليدين ندب، وأما عندهم فسنة وندب ومستحب، فعند المالكية مثلاً التراويح مستحب فيها الجماعة، فندعوا الناس ونظهرها ونصليها، فعندهم هذه تسمى سنة، ولكن صلاة الليل -وهذا ورد عن ابن عباس أنه صلى مع الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة- فهذا يسمى مستحب ومندوب، فلو أنا جمعنا الناس وقلنا: بما أن ابن عباس صلى مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن سنصلي صلاة الليل جماعة، ونظهرها فهذا بدعة يقول: رفع المندوب إلى المستحب بدعة، وفي الاعتصام للشاطبي : ورفع المندوب إلى المستحب بدعة.
الخلاصة: هل غسل اليدين من الندب أو من المستحب، أو من السنة؟
وقال: [ومن تأكد عنده هذا الندب لمثابرته عليه الصلاة والسلام على ذلك قال: إنه من جنس السنن. ومن لم يتأكد عنده هذا الندب قال: إن ذلك من جنس المندوب والمستحب، وهؤلاء غسل اليد عندهم بهذه الحال إذا تيقنت طهارتها أعني: من يقول إن ذلك سنة ومن يقول إنه ندب] ففرق بين السنن وبين المندوب والمستحب، فعندهم السنة كالترك، فتصل محل الواجب، يعني: إذا كثرت بترك السنن تعاقب على ذلك، والمستحب والمندوب قد يرتفع بكثرته إذا تركته مرات حتى يصل إلى محل السنن، هذا مذهب مالك .
والمستحب هو: ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يواظب عليه.
والسنة: ما فعله وواظب عليه، مثل: الوتر، وسنة الفجر، والرواتب المؤكدة، وعند الشافعية نسميها سنة مؤكدة وغير مؤكدة، ونفل مطلق، فنقسمها إلى: مؤكدة وغير مؤكدة، المؤكدة: هي التي بعد الصلوات وواظب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير المؤكدة هي: الرواتب التي مع الصلوات، ولكن لم يواظب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم كسنة المغرب القبلية، وسنة العصر ونفل مطلق وهو: الذي لم يكن بعد الرواتب، ولا قبل الرواتب.
فالمالكية عندهم المستحب بمعنى السنة غير المؤكدة والندب مثله.
فالذي يرفع المستحب إلى درجة السنة المؤكدة، من ناحية أنه استحسن أن يعمل هذا العمل يكون مبتدعاً عند المالكية.
والراجح أنه نوع بدعة، يسمى بدعة إضافية، فلو أنا نجتمع كل ليلة ونخرج مثل رمضان, ونجمع طلاب الجامعة ونصلي بهم صلاة الليل، ونقرأ وكذا، يكون هذا بدعة.
إذا داومنا عليه، وأظهرناه، حتى ولو شهراً والا نصف شهر, أظهرناه كالتراويح هذا يسمى بدعة، لكنها بدعة إضافية؛ لأن البدعة تنقسم إلى: بدعة أصلية، وبدعة إضافية، فالبدعة الأصلية: ما لم تشرع لا بأصلها، ولا بوصفها، مثل: لله علي نذر أن أسكت هذا اليوم ولا أكلم إنساناً.
والبدعة الإضافية: ما شرعت في أصلها، ومنعت بوصفها، وفيها خلاف والراجح أنها بدعة، وممن قال بها ابن مسعود و ابن عمر ، فـابن مسعود له حديث طويل في ذلك، و ابن عمر له حديث قصير، وفيه أنه عطس عنده رجل فقال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال: أما أنا فلا أقول: والصلاة والسلام على رسول الله، لأنه ما هكذا أمرنا رسول الله.
[ومن لم يفهم من هؤلاء من هذا الحديث علة توجب عنده أن يكون من باب الخاص أريد به العام كان عنده مندوباً للمستيقظ من النوم فقط. ومن فهم منه علة الشك وجعله من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده للشاك لأنه في معنى النائم].
وسبب الاختلاف بين أحمد و مالك ، والظاهرية، أن أحمد قال: هذا من باب الخاص أريد به الخاص. وقالت الظاهرية: هذا من باب الخاص أريد به العام.
إذاً قال الإمام أحمد : قوله: ( من باتت يده )من باب الخاص أريد به الخاص، وقال الظاهرية: هذا من باب الخاص أريد به العام، أي نوم، وكذلك قال الإمام مالك : وهذا من باب الخاص أريد به العام، والعام هو الشك، فهو من باب الخاص أريد به العام وهو الشك، فإذا شك في يده سواءً نام أو لم ينم، لا يغمسها.
[ والظاهر من هذا الحديث أنه لم يقصد به حكم اليد في الوضوء، وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به، إذا كان الماء مشترطاً فيه الطهارة، وأما من نقل من غسله صلى الله عليه وسلم يديه قبل إدخالهما في الإناء في أكثر أحيانه فيحتمل أن يكون من حكم اليد على أن يكون غسلها في الابتداء من أفعال الوضوء، ويحتمل أن يكون من حكم الماء أعني أنه لا ينجس أو يقع فيه شك إن قلنا إن الشك مؤثر ].
فصاحب الكتاب قال: يمكن، أما حديث أبي هريرة فهو من حكم الماء، والأحاديث التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها حديث عبد الله بن زيد عند البخاري ، وحديث عثمان عند البخاري و مسلم ، وحديث علي عند ابن ماجه ، وهو صحيح، تعطينا أنه من حكم اليد، هاه، فقد يكون من هذا ومن هذا.
فالمؤلف يرى أنه من المحتمل أن تكون لهذا ولهذا، ولكن الأحاديث الواردة في ذلك تدل على أن الغسل للماء واليد، فمن قام من النوم وأراد الوضوء كان غسلها من حكم الماء واليد.
ومن أراد الوضوء وهو غير مستيقظ من نوم فالحكم لليد فقط.
فإذا أراد الوضوء وهو غير مستيقظ من نوم، ولا يشك في طهارة يده، فنقول: يغسلها؛ لأنه يسن غسل اليدين قبل الوضوء، والحكم لليد.
وكذلك من قام من النوم غير مريد للوضوء ولكنه محتاج لاغتراف الماء بيده لأمر ما غير الوضوء، فالحديث يشمله، فيكون الحكم للماء فقط.
فإن قيل: فما الفرق بين غسل اليدين لأجل النوم وبين غسلهما لأجل الوضوء؟
فيقال: إذا كان للوضوء كان مستحباً، وإذا كان من النوم كان سنة، ولهذا نقول- على مذهب الشافعية -: إن كان للوضوء كان غير مؤكد، وإن كان من النوم كان الغسل مؤكداً.
إذاً الراجح أن غسل اليدين سنة مؤكدة في حق المستيقظ من النوم، وسنة غير مؤكدة في غير المنتبه من النوم، أما المنتبه من النوم فلأنه علق الحديث بأمر يقتضي الشك، ( فإنه لا يدري أين باتت يده )، وهو يدري أنها باتت في غير نجاسة فهذا قرينة صارفة للأمر من الوجوب إلى الندب.
فإن قيل: هل يشرع غسل اليدين قبل إدخالهما في الماء إذا كان كثيراً؟
فيقال: إذا كان مستبحراً فهذا فيه كلام كثير للعلماء: أنه لم يعمل أحد بظاهر هذا الحديث فهذا إذا كان كثيراً بحيث لا يتقذر ولا تعافه الأنفس مثل برميل يشربون منه؛ لأن التقذر يرجع إلى أن تعافه الأنفس، فإذا قمت من النوم مثلاً وهذا البرميل فيه ثلاث قلل، أو أربع قلل، أو كذا، وغمست يدي سيتقذرون منه، فالحكم باق؛ لأن العلة التقذر لا التغير، فيبقى مناط الحكم، وتقرير هذا المناط يرجع إلى العرف.
فإن قيل: فهل يشرع غسل اليدين لمن لم يستيقظ من نوم؟
فيقال: إذا كان يرى بيده شيئاً من الاستقذار فيعمه الحديث وإذا لم يكن يرى في يده شيئاً من الاستقذار حتى لا يعاف الماء فلا مانع.
فإن قيل: فما صارف الأمر (فليغسل يده) من الوجوب إلى أنه سنة مؤكدة.
فيقال: لأن قوله: ( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده )، فهذه القرينة صارفة من الوجوب إلى النفل فيسمى سنة غير مؤكدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه ترك غسل اليدين.
ولكن التثليث فيها حكمه حكم التثليث في أعضاء الوضوء، وليس حكمه حكم التثليث لمن بات في النوم، التثليث لمن قام من النوم آكد؛ لأنه غيا بغاية، وأما الوضوء فإنه توضأ مرتين، وتوضأ مرة، وتوضأ ثلاثاً.
فالخلاصة: أنه سنة مؤكد عند الاستيقاظ من النوم، وعند الوضوء.
ولكن تفترق في التثليث، فالتثليث عندما يستيقظ من النوم مؤكد أكثر. وأما في الوضوء فحكمها حكم أعضاء الوضوء، فالرسول صلى الله عليه وسلم توضأ مرة، ومرتين، وثلاثاً، فيغسلها مرة، أو مرتين، أو ثلاثاً.
وأما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء في أكثر أحيانه، فليس صارفاً للتوكيد بل صارف للوجوب.
فإن قيل: أليس ترك النبي صلى الله عليه وسلم غسل يديه أحياناً صارفاً لكونه سنة مؤكدة؟
فيقال: كلام وجيه، لكن الفعل إذا كان بياناً لمجمل فإن ورد فيه ترك ولو قليل دل على أنه سنة، وإن ورد أنه لم يترك دل على أنه بيان للمجمل.
فإن قيل: ألا يفرق في غسل اليدين بين من بات مستجمراً ومن بات متوضئاً؟
فيقال: أهل المدينة أكثر ما كانوا يستجمرون، وكانت بلدهم حارة، وقد يحصل في الدبر شيء من الرطوبة، وقد تذهب يده إلى محل الدبر وفيه من آثار الغائط، فتتنجس فينجس الماء -على القول بأن الماء ينجس بالملاقاة، ولكن القول الصحيح أن الماء لا ينجس إلا بالتغير- ولكن العلة التقذر.
فإن قيل: بالنسبة للتثليث، هل واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم؟
فيقال: لا، بل توضأ ثلاثاً، ومرتين لكن الغالب ثلاثاً.
فإن قيل: ألا يدل هذا على أنها سنة مؤكدة؟
فيقال: نعم، هي سنة مؤكدة.
ولكن عدم التثليث يدل على الجواز فيجوز واحدة ويجوز ثنتين.
فإن قيل: فهل العلة النجاسة أم للتعبد؟
فيقال: للاستقذار وليس للتعبد، فقوله: ( فإنه لا يدري أين باتت يده ) تعليل يظهر منه أنها للاستقذار، فهذا غسلها من البيتوتة من النوم.
وغسلها عند الوضوء أمر تعبدي كأعضاء الوضوء، ولهذا قال محمد بن إسماعيل الأمير: وهل تتداخل الغسلان، أو يغسلها ست مرات؟ يعني: ثلاثاً لهذا، وثلاثاً لهذا، قال: تتداخل.
فإن قيل: فما هي العلة الصارفة للأمر بغسل اليد ثلاثاً؟
فيقال: لأنه إذا كان غسلها سنة، فالتثليث سنة، إذا كان الأصل سنة، فالصفة سنة.
الخلاصة: أن التثليث في المبيت لا بد منه، ولا يستقر الأمر إلا بالتثليث، أما في غسل الوضوء فيكفي مرة كالأعضاء، ويكون ممتثلاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الحكم في الجميع فهو سنة مؤكدة.
قال الجمهور: إنه سنة.
أحكام شرع الله سبع تقسم الفرض والمندوب والمحرم
والرابع المكروه ثم ما أبيح والسادس الباطل واختم بالصحيح
وسنة يثاب من قد فعله ولم يعاقب امرؤ إن أهمله
الخلاصة أن غسل اليدين بعد الاستيقاظ ثابت في الحديث: ( فليغسل يديه )، وأما السنة المؤكدة الثانية، وهي غسل اليدين مطلقاً فهذا ثابت بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها علي و عبد الله بن زيد و عثمان ، يعني: فهذا سنة مؤكدة ثابت بحديث، وهذا سنة مؤكدة ثابت بحديث.
فهذه الأفعال من غسل اليدين لم تكن بياناً لمجمل؛ لأن غسل اليدين المجمل هو بعد الوضوء، وإنما هي أفعال مستقلة، وذكر في المقدمة أن الأمر من المجمل، ومعنى أنه مجمل أي: مشترك بين الوجوب والندب، وقد قال أهل الأصول: إن المجمل لا يعين حتى يبين، فلما كان مجملاً رجعنا إلى البيان هل هو للوجوب أم للندب، فبين آخره، وهو قوله: ( لا يدري أين باتت يده )، على أنه أمر ندب لأنه متعلق بأمر غير مجزوم به.
سبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر