إسلام ويب

ديوان الإفتاء [443]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أعظم توفيق الله للعبد أن يوفقه لطاعته، ومن أعظم الطاعات حج بيت الله الحرام الذي جعله الله مهوى أفئدة المؤمنين، فعلى من وفقه الله لأداء هذه الشعيرة أن يقتدي بخير البشر صلى الله عليه وسلم في كل موطن، في الوقوف والمبيت والرمي والنحر والحلق وسائر الشعائر، وأن يتخلق بأخلاقه في التعامل مع سائر الحجاج مع اختلاف أجناسهم وألوانهم، وأن يحفظ حجه من الرفث والفسوق ليعود بحج مبرور جزاؤه جنة الله ومرضاته.

    الحمد لله رب العالمين, حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد, البشير النذير والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين.

    سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[البقرة:32].

    إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته, وفقني الله وإياكم لكل خير, ووقانا جميعًا كل سوء وضير, وأعاننا على فعل الخيرات وترك المنكرات, ويسر لنا أمورنا كلها.

    بعدما انقضت تلك الأيام المباركة, ووفق الله عز وجل من وفق من عباده لحج بيته الحرام, ووفق آخرين لإعمار تلك الأيام بصالح الأعمال: من الصيام والقيام والصدقات، والإكثار من ذكر الله عز وجل وفعل الخيرات, لا بد من كلمة تقال، وهي أنه لا بد للمسلم أن يستصحب طاعة الله عز وجل في شأنه كله, ويواظب عليها في عمره كله, كما قال سبحانه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر:99].

    ولا بد أن نذكر بأن المسلم يعود بعد هذه الشعيرة المباركة التي هي الحج وقد استفاد فوائد جمة:

    من ذلك: أنه يجدد علاقته بربه جل جلاله في الإخلاص له, والحرص على مرضاته، فحين قال: لبيك اللهم لبيك، إنما أخلص العمل لله عز وجل, وهو متشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (اللهم اجعله حجًا مبرورًا لا رياء ولا سمعة).

    ثم إنه اعتاد في حجه أن يكثر من الدعاء والثناء على الله عز وجل, كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة, وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير), كما أنه في حجه حقق توحيد الله عز وجل؛ حين جرد نفسه من كل شائبة، وأخلص عمله لله ابتداءً, ثم إنه أثناء المناسك توجه إلى الله عز وجل بكليته بعدما طاف بالبيت العتيق, فصلى خلف المقام ركعتين قرأ فيهما بسورتي الكافرون والإخلاص, ثم إنه خلال المناسك حقق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف كما طاف, وسعى كما سعى, وبات حيث بات, وأقام حيث أقام, وقصر الصلاة حيث قصر, وتذكر أحواله صلوات ربي وسلامه عليه, وهو يرمي يوم العيد جمرة العقبة وهو على بعيره, ويقول للناس: ( لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).

    وكذلك في الحج اعتاد المسلم تعظيم شعائر الله عز وجل, فها هو يطوف بالكعبة المشرفة معظماً لها, ويقبل الحجر الأسود، ويتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استلمه وقبله, ثم إنه يضطبع ويرمل في طواف القدوم متابعة للنبي صلوات ربي وسلامه عليه, ثم يقيم بمنى يوم الثامن ثم ينتقل إلى عرفة يوم التاسع, ويبيت بالمزدلفة ليلة العاشر.

    ثم في يوم العيد يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو في هذا كله محقق للمتابعة, يشهد يقيناً أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله: فهو الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور, وبصرهم من العمى, وهداهم من الضلالة, وعلمهم من الجهالة إلى غير ذلك.

    ثم من الفوائد كذلك في الحج: أن المسلم يعتاد الخلق الكريم مع المسلمين, حين يتعارف معهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم, فيرفق بهم ويعطف عليهم, ويمد يد العون للمحتاج منهم, وهذا كله تعويد على حسن الخلق مع المسلمين، صغيرهم وكبيرهم, فحين يتحمل ما يصدر من بعضهم من أذى فإنه يتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أصبر الناس على الأذى, وقد شرح الله صدره حتى وسع الناس جميعاً, وهو الذي قال لنا: ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم, فسعوهم بأخلاقكم ).

    كذلك المسلم في الحج أظهر عداوته للشيطان الرجيم الذي أمرنا الله عز وجل بأن نتخذه عدواً فقال: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[يس:60], وقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ[فاطر:6], والمسلم يوم عرفة أظهر عداوته للشيطان حين جأر بالدعاء إلى الله عز وجل, وتاب إليه توبة نصوحاً فما رئي الشيطان في يوم أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ من كثرة ما يعتق الله عباده من النار, ثم بعد ذلك على صعيد مزدلفة أيضاً ذكر الله عند المشعر الحرام, ثم في يوم العيد كانت العداوة الحسية برمي جمرة العقبة بسبع حصيات, ثم حلق الشعر افتتاحاً لعهد جديد فيه الطاعة والإنابة والإخبات، ثم تتالت عداوة الشيطان وبيان مظاهرها في أيام التشريق برمي الجمار واحدة بعد الأخرى.

    هذا كله قد ظهر في الحج, وحري بمن وفق لأداء هذا النسك أن يتقي الله عز وجل فيما بقي من عمره, وأن يتقرب إلى الله عز وجل بصالح عمله, وأن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

    فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله, اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك, مثنين بها عليك قابليها منك, وأتمها علينا يا أرحم الراحمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088960573

    عدد مرات الحفظ

    780177493