قال علماؤنا رحمهم الله: النكاح تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة؛ فالزواج تارةً يكون واجباً، وتارةً مندوباً، وتارةً مباحاً، وتارةً يكون حراماً، وتارة يكون مكروهاً.
إذا خشي الإنسان على نفسه العنت مع قدرته على الزواج، يعني: إنسان يستطيع طولاً عنده المال، وفي الوقت نفسه يخشى على نفسه أن يقع في الحرام، فهذا الإنسان يكون الزواج في حقه واجباً، ويحرم عليه أن يؤخره.
ويكون النكاح مندوباً أي: سنة لإنسان لا يخشى على نفسه العنت وعنده القدرة، فهذا يندب له أن يتزوج من أجل أن يحيي السنة؛ لأن هذه سنة الأنبياء يقول الله عز وجل:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً
[الرعد:38]، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( النكاح من سنتي )، وثبت في صحيح البخاري : ( أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سأل سعيد بن جبير رحمه الله، قال له: هل تزوجت؟ قال: لا، قال له: تزوج؛ فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً ) يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثل ذلك أيضاً أنه أحياناً قد يعيش الإنسان في أرض فتنة، في دار بلاء، ربما يعيش في بلاد يكثر فيها الكاسيات العاريات، وتتيسر فيها السبل الحرام -والعياذ بالله- فهذا يخشى على نفسه العنت فهنا يكون الزواج في حقه واجباً. ورب إنسان آخر يعيش مثلاً في مكة أو في المدينة لا يكاد يرى وجه امرأة وهو مشغول بعبادة الله، يقبل ويدبر على حرم الله، وقد استفرغ همه في طلب العلم مثلاً، فلا يخشى على نفسه العنت، نقول: هذا الإنسان الزواج في حقه يكون سنةً، ويكون مندوباً.
ومعلوم أن الأصل في زماننا أنه زمان فتنة، فالإنسان مفتون بما يرى حوله، وبما يبسط من أسباب الفواحش -والعياذ بالله- مسموعةً ومرئيةً ومقروءة، وقل من الناس من يذكرك بالله عز وجل، ولذلك نقول: الأصل في زماننا وجوب النكاح لمن قدر عليه، وقد قال علماؤنا: يجب على الولد أن يزوج والده إن احتاج إلى النكاح، مثلاً: والدك بلغ من الكبر عتياً عمره خمس وسبعون سنة، فيقول لك: أنا أريد أن أتزوج، وأريدك أن تساعدني في ذلك، فهنا يجب عليك أن تساعده إن كنت مستطيعاً، وإذا قلنا: يجب على الولد أن يزوج والده إذاً من باب أولى يجب على الوالد أن يزوج ولده؛ لأن فتنة الشاب أعظم من فتنة الشيخ، فالشاب مفتون أعظم من فتنة الشيخ الطاعن في السن.
ويكون النكاح مكروهاً إذا كان الإنسان عنده زوجة، ويريد أن يأتي بأخرى، وقد آنس من نفسه أنه لن يعدل، ففي هذه الحال يكون في حقه مكروهاً.
ويكون النكاح حراماً إذا لم يستطع طولاً، كأن يكون عنيناً، أو مجبوباً، أو خصياً، أو إنساناً عنده زوجة وقد تيقن بأنه لن يعدل، والله عز وجل قال:
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
[النساء:3]، وهذا الكلام من الأهمية بمكان؛ لأن بعض الناس يدخل في موضوع التعدد، وهو لم يحسن الإعداد للأمر، ولم يهيئ له عدته، فيقرع سن الندم، حيث لا ينفع الندم، فيكون حاله كحال المسكين الذي قال:
تزوجت اثنتين لفرط جهلي بما يشقى به زوج اثنتين
فقلت: أصير بينهما خروفاً أكرم بين أفضل نعجتين
فصرت كنعجة تضحي وتمسي تداول بين أخبث ذئبتين
رضا هذي يهيج سخط هذي فما أعرى من إحدى السخطتين
لهذي ليلة ولتلك أخرى عتاب دائم في الليلتين
فالإنسان الذي عنده زوجة، ويريد أن يأتي بأخرى فلا مانع بشرط أن يأنس من نفسه أنه سيعدل، وليس العدل بالأمر العسير أو الصعب، لو كان كذلك لما أمر الله به؛ لأن الله قال:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا
[البقرة:286]، والعدل معناه: أن الإنسان يعدل في النفقة، ويعدل في المبيت، وكونه يعدل في النفقة ليس معناه أن يسوي في النفقة، فالعدل غير المساواة، وإنما يعدل في النفقة بمعنى أن يعطي لهذه كفايتها، ولهذه كفايتها، فلا مانع أن يسكن واحدةً في بيت فسيح ذي غرف كثيرة، ويسكن الأخرى في غرفة واحدة، ولا مانع أن يعطي هذه ألفاً ويعطي هذه ثلاثمائة مثلاً، أو يعطي هذه ألفاً ويعطي هذه ثلاثة آلاف، لأن كل واحدة منهن يعطيها ما يكفيها، وليس المقصود كما يظن بعض الناس بأنك لو أتيت لهذه بحذاء تأتي لهذه بحذاء مثله، هذه من بنات أفكارنا، وليست من شرع ربنا جل جلاله.
فالعدل في النفقة والمبيت واجب، أما العدل في المحبة القلبية فليس بمستطاع أصلاً، وهو المقصود بقول ربنا:
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
[النساء:129]، والنبي عليه الصلاة والسلام وهو أعدل الناس كان يحب عائشة أكثر من غيرها، وكان يقول: ( اللهم هذا قسمي فيما أملك )، أي: من الأشياء المادية ( فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ).
وهذا الحديث أيضاً بعض الناس يفهمه خطأً، فتجده في ليلة هذه يأتيها منذ غروب الشمس، يأوي إلى بيته، حتى ربما أنه لا يذهب لصلاة العشاء، أما في ليلة الأخرى يأتيها بعد نصف الليل أو قريباً من الفجر، فإذا قالت له: اتق الله، قال: اللهم لا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك. نقول: لا، هذا حرام؛ لأن المبيت المقصود به الأنس، فيجب عليك أن تؤنس هذه وتؤنس هذه، وليس بالضرورة إذا جامعت هذه أن تجامع تلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.