وكذلك مقتل عثمان رضي الله عنه سببه إشاعات أطلقت، فقيل: بأن عثمان قد حرق المصاحف، وأن عثمان قد حمى الحمى، وأن عثمان قد ضرب عماراً حتى فتق أمعاءه، وأن عثمان نفى أبا ذر إلى الربذة، وأن عثمان قد قام على المنبر في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انحط عنه أبو بكر وعمر، وأن عثمان قد ولى أقاربه، وقد رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة بعدما نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولى الوليد بن عقبة ، وقد سماه الله فاسقاً.. إلى غير ذلك من الأمور التي لو عرضت على بساط البحث لوجدتم أن بعضها كذب لا أصل له، وبعضها كان عثمان رضي الله عنه فيها متأولاً، وبعضها فهم على غير وجهه، لكن هذه الإشاعات الكاذبة التي قالوها ترتب عليها أنهم حاصروا عثمان حتى منعوا عنه الماء، وهم بغاة ظالمون، ثم دخلوا عليه فجذبه بعضهم من لحيته حتى اصطكت أسنانه، وضربه الآخر بمشقص على رأسه حتى سال دمه، ثم ذبحه الثالث ذبح الشاة، وهو ذو النورين وزوج الابنتين، وصاحب الهجرتين، ومن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، ومن قال عنه صلى الله عليه وسلم: ( ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم )، ومن قال عنه: ( اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض )، ومن قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ).. إلى غير ذلك.
لذلك بعض الناس عنده سوء فهم في بعض الأمور، ويرتب على هذا السوء أحكاماً؛ ولذلك لما جاء بعض هؤلاء الخبثاء إلى مكة، وقف على حلقة الناس فيها جلوس، قال: من القوم؟ قالوا: قريش. قال: من الشيخ فيكم؟ قالوا: عبد الله بن عمر . فقال له: أنشدك الله هل تعلم أن عثمان لم يشهد بدراً؟ قال عبد الله بن عمر : اللهم نعم، قال له: أنشدك الله هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك الله هل تعلم أن عثمان لم يشهد بيعة الرضوان؟ قال: اللهم نعم، قال: الله أكبر، ففرح هذا المسكين بثلاث سوءات يظنها هكذا، ويريد أن يرجع فيقول للناس بأن عثمان ليس بشيء، فقال له عبد الله بن عمر : على رسلك، ارجع، فلما جاء الرجل قال له عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أما غيابه يوم بدر فأشهد أن رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضةً فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى معها يمرضها، وضرب له بسهم رجل قد شهد بدراً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد لـعثمان بأنه شهد بدراً، ولذلك لما قسم الغنائم ضرب له بسهم رجل شهد بدراً؛ لأنه تخلف عن بدر بأمر من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك لما جاء من يبشر الناس بانتصار المسلمين في بدر كان عثمان في البقيع يدفن رقية رضي الله عنها.
وأما فراره يوم أحد فأشهد أن الله قد غفر له، فالله عز وجل في القرآن يقول:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ
[آل عمران:155]، الله يقول: عفوت عنهم، وهذا المسكين يريد أن يحاسب عثمان ، و عثمان ما فر وحده؛ بل فر كثيرون، وما ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى نفر قليل.
وأما غيابه عن بيعة الرضوان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتدب عمر بن الخطاب ليفاوض المشركين، ليذهب إلى مكة ويفاوض المشركين، لما حبسوا المسلمين في الحديبية ومنعوهم من دخول مكة النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا تسألني قريش خطةً يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها )، فطلب من عمر أن يذهب لمفاوضتهم، لكن عمر رضي الله عنه قال: ( يا رسول الله! قد علمت قريش أنه ليس أحد أشد عليهم مني، ولكن ابعث عثمان )، فالمفاوض لا بد أن يكون إنسان له قبول عند الآخرين، فـعمر رضي الله عنه رشح لهذه المهمة عثمان رضي الله عنه، و عثمان من أدبه ذهب إلى مكة، وأهل مكة لأن عثمان كان رجلاً هيناً ليناً عرضوا عليه أن يعتمر، لو شاء أن يطوف بالبيت فعل، فقال لهم: والله ما كنت لأفعله قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا جئت بأمره هو عليه الصلاة والسلام، وبدأ يفاوضهم وتأخر، فأشيع بأن عثمان قد قتل، والنبي صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه تحت الشجرة، وضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: ( اللهم هذه عن عثمان )، فالذي ناب عنه في البيعة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود أن بعض الناس ممن مرضت قلوبهم قد يحترفون إطلاق الشائعات، وهم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( شرار الناس: المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب )، خاصةً إذا كان الكلام في أهل العلم، وأهل الفضل، والمجاهدين في سبيل الله، ومن ظهر خيرهم، فالمصيبة أعظم، والطامة أكبر.