وهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه أنطقه الله بالحكمة، كما قال سبحانه:
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ
[ص:20]، آتاه الله الحكمة، أي: النبوة، وكان نبياً مكلماً، وآتاه الله فصل الخطاب، قيل فصل الخطاب: حسن القضاء والفهم له، وقيل فصل الخطاب: الاستعانة بالبينة واليمين، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر )، وقيل فصل الخطاب: قوله: أما بعد، وقيل فصل الخطاب: أنه كان يبين عن ما يريد ويضمر، أي: الشيء الذي في نفسه كان يستطيع أن يعبر عنه ويبينه بأسلوب واضح.
وقد روى الإمام ابن جرير و ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: قال: أول ما ظهر أمر داود في القضاء أنه قد ترافع إليه رجلان في بقر، يدعي أحدهما على الآخر أنه قد اغتصبها، فأمهلهما داود إلى الصبح، فأوحى الله إليه: يا داود ! إذا جاءك المدعي فاقتله، فلما جاء المدعي قال له داود: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك، وإني فاعل ذلك لا محالة، فاصدقني، فقال له المدعي: والله يا نبي الله، ما ظلمته حين ادعيت عليه في البقر التي اغتصبها، لكني كنت قد اغتلت أباه فيما مضى، فأمر به داود عليه السلام فقتل، وكان ذلك أول ظهوره في بني إسرائيل.
ونبي الله داود عليه السلام لما نزل به الموت كان خبره عجباً! وذلك أنه كان رجلاً شديد الغيرة، كما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا خرج أغلق على أزواجه الأبواب، فلما اطلعت إحدى الزوجات على الدار في ذات يوم، أي: على الفناء؛ وجدت رجلاً قائماً، فقالت: لنفتضحن اليوم بداود، فلما جاء عليه السلام وجد الرجل قائماً في صحن الدار، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا أمتنع من الحجاب, قال له: أنت ملك الموت إذاً؟ مرحباً بالموت، مرحباً بأمر الله! وكان عليه السلام على درج، فطلب من ملك الموت، فقال له: دعني أصعد أو أنزل، فقال له ملك الموت: يا نبي الله! قد فنيت الشهور والسنون والأرزاق، فخر داود ساجداً على إحدى درجات السلم.
يعني: أن داود عليه السلام لما طلب منه أن يدعه يصعد أو ينزل ليس من أجل دنيا؛ وإنما من أجل أن يتهيأ له أن يقبض وهو ساجد، فلما لم يحصل ذلك سجد على السلم.
واجتمع الناس لجنازته واشتد عليهم حر الشمس، فشكوا لولده سليمان عليه السلام فأمر الطير فظللت بأجنحتها من أجل أن تحجب عن الناس حر الشمس، فشكوا إليه أن الريح قد أمسكت عنهم، فأمر الطير أن تظلل ناحية الشمس وأن تزول عن ناحية الريح، وكان ذلك أول ظهور أمر نبي الله سليمان .
أسال الله عز وجل أن يرزقنا الاقتداء بهما.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.