الناس يختلفون في قبول الوحي والانتفاع به، فمنهم الذي ينتفع به غاية الانتفاع، فينفع نفسه وينفع به غيره، ومنهم من يكون نفعه لغيره أكثر من نفسه، ومنهم الذي لا يقبله أصلاً. فلا ينتفع به ولا ينفع غيره، والوحي بالنسبة للإنسان كالغيث بالنسبة للمطر
تمثيل الوحي بالغيث وأقسام الناس في الانتفاع به
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
والمقصود بهذا المثل: أن الله جل جلاله يشبه نزول الوحي من السماء وما يحيي الله به من القلوب بنزول الغيث من السماء وما يحيي الله به من الأرض وينبت به من الزرع، وهذا في القرآن كثير.
ثم بعد ذلك القلوب متفاوتة في الانتفاع بهذا النازل من السماء، كما أن الأرض متفاوتة في الانتفاع بالغيث النازل من السماء، فهناك الجبال والتلال التي لا تمسك هذا الماء، وهناك الأودية والوهاد التي تمسكه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم قبلوا الوحي الذي جاء به صلوات ربي وسلامه عليه، فعملوا به وطبقوه ونقلوه إلى الناس، مثال هؤلاء مثال الطائفة الطيبة التي قبلت الماء فأنبت الله بها الزرع.
الثاني: قسم آخر من الناس قبلوا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كان في التزامهم به شيء من ضعف، لكنهم نقلوا هذا الوحي إلى غيرهم وبلغوه، مثالهم مثال الطائفة الأجادب التي لم تنبت زرعاً لكنها أمسكت الماء فانتفع بها الناس، منهم من شرب، ومنهم من سقى، ومنهم من زرع.
الثالث: قسم آخر لم يقبل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرفع بذلك رأساً ولم يصغ سمعاً فمثاله مثال القيعان التي لم تمسك ماء ولم تنبت كلأً، عياذاً بالله تعالى.
أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا[الرعد:17]، الأودية جمع واد، وهو المنخفض، أو الأخدود بين جبلين، وهذا الأخدود جعله الله عز وجل مهبطاً لهذا السيل، ومن رحمته جل جلاله أن السيل غالباً ما يكون على قدر هذا الوادي، وهذه الأودية مختلفة في قدرها، منها الواسع العميق، ومنها دون ذلك.
كذلك الناس في قبول غيث السماء الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم في القبول والعمل ليسوا سواء.
ثم يضرب الله عز وجل المثل الناري؛ لأن بعض الناس كأهل مكة غيثهم قليل وأوديتهم قليلة ولربما لا يفهمون هذا التشبيه على وجهه، فأتاهم الله عز وجل بمثل قريب من بيئتهم، واضح في حالتهم، قال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ[الرعد:17]، فالصائغ أو الحداد أو الصانع يجعل الذهب أو الفضة أو الحديد أو النحاس في النار يغلي، ثم بعد ذلك هذا المعدن الذي وضعه في النار أيضاً يحتمل زبداً، كما أن الغيث النازل من السماء يحتمل زبداً، فماذا يصنع الصائغ أو الحداد أو غيره بهذا الزبد؟ يدفعه ويرمي به بعيداً.
قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وأغلب ما يغلى في النار من معدن نفيس، إنما يكون ذهباً أو فضة، لكن عدل ربنا عن ذكرهما وأتى بالاسم الموصول؛ من أجل أن يبين أن هذين المعدنين لا قيمة لهما عند الله، بل الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة، ( ولو كانت تزن جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ).
وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ[الرعد:17]، وعندنا مثل قريب وهو مذهب أرضي وضعي جاء به دهاقنة البشر وشياطين اليهود من أمثال ماركس و لينين وغيرهم، وملئوا الدنيا ضجيجاً ودندنوا زماناً طويلاً بأن عصر الطبقة العاملة قد جاء، وأنه لا فرق بين الأغنياء والفقراء وأن الناس جمعياً شركاء، لا تمييز لواحد على آخر، هذا المذهب الذي اكتسح بلاداً كثيرة بقوة الحديد والنار حتى صارت قوة عظمى تملك السلاح النووي ويعمل لها ألف حساب، تغزو بلاداً وتسقط حكاماً. وبعد سبعين سنة من ظهورها أضحت في مزبلة التاريخ.
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً[الرعد:17]، الدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يعد امتداداً لدعوة الأنبياء من قبله صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، هذا الدين الذي زاد على الألف وأربعمائة سنة إلى الآن، ما زال يمكث في الأرض وفي كل يوم يزداد ثباتاً وقوة، رغم ما يوجه لأهله من ضربات، فالإسلام الآن هو أكثر الأديان انتشاراً.