بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المقبولين.
ومع النداء السابع والثمانين في الآية الرابعة عشرة من سورة التغابن؛ قول ربنا جل جلاله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[التغابن:14].
سبب نزول الآية
وسبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً سأله عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى عليهم أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم -أي :بعد مدة- وجاء معهم أزواجهم وأولادهم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين. أي: سبقوهم بالفقه في الدين لتأخر هؤلاء عن الهجرة، فهموا أن يعاقبوهم على ما تسببوا به من سبق الناس لهم إلى الفقه في الدين، فأنزل الله عز وجل هذه الآية حتى قوله:
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[التغابن:14]، وهذا الذي اقتصر عليه الواحدي رحمه الله في أسباب النزول، ومقتضاه: أن الآية مدنية.
وقد ورد سبب آخر عن عطاء بن يسار و ابن عباس أيضاً: أن هذه الآية نزلت بالمدينة في شأن عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه أهله ورققوه وقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق لهم فيقعد عن الغزو، وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية في شأنه.
مناسبة قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ...) لما قبلها
والمناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها: أن كلتيهما تسلية على ما أصاب المؤمنين من غم من معاملة أعدائهم إياهم، ومن انحراف بعض أزواجهم وأولادهم عليهم، وإذا كانت السورة كلها مكية كما هو قول الضحاك ، كانت الآية ابتداء إقبال على تخصيص المؤمنين بالخطاب بعد قضاء حق الغرض الذي ابتدئت به السورة على عادة القرآن في تعقيب الأغراض بأضدادها من ترغيب أو ترهيب، وثناء أو ملام أو نحو ذلك ليوفى الطرفان حقهما.
وكانت تنبيهاً للمسلمين بأحوال في عائلاتهم قد تخفى عليهم ليأخذوا حذرهم، وهذا هو المناسب لما قبل الهجرة، حتى كان المسلمون بمكة ممتزجين بوشائج النسب والصهر والولاء، فلما ناصبهم المشركون العداء لمفارقتهم دينهم وأضمروا لهم الحقد وأصبحوا فريقين، كان كل فريق غير خال من أفراد متفاوتين في المضادة تبعاً للتفاوت في صلابة الدين وفي أواصر القربة والصهر، وقد يبلغ العداء إلى نهاية طرفه؛ فتندحض أمامه جميع الأواصر، فيصبح الأشد قرباً أشد مضرة على قريبه من مضرة البعيد، فأيقظت هذه الآية المؤمنين لئلا يغرهم أهل قرابتهم فيما توهم من جانب غرورهم، فيكون ضرهم أشد عليهم، وفي هذا الإيقاظ مصلحة للدين وللمسلمين؛ ولذلك قال تعالى: (فاحذروهم) ولم يأمر بأن يضروهم.
وأعقبه بقوله:
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[التغابن:14] جمعاً بين الحذر والمسالمة وذلك من الحذر.
معاني مفردات الآية
المعنى الإجمالي للآية
ينادينا ربنا جل جلاله في هذه الآية: يا أيها المؤمنون إن بعض أزواجكم وأولادكم عدو؛ لأنهم قد يصدونكم عن سبيل الله ويثبطونكم عن طاعة الله، فاحذروهم أن تقبلوا منهم ما يأمرونكم به من ترك طاعة الله، ولا يحملنكم ذلك الحذر على أن تعاملوهم معاملة الأعداء بل تعاملوا معهم بالعفو والصفح والمغفرة؛ لأنكم تحبون من الله تعالى أن يغفر لكم؛ لأنه غفور رحيم.
وهذا الذي ذكره ربنا جل جلاله في هذه الآية نجد آثاره ظاهرة في الواقع، فإن بعض الأزواج والأولاد قد يحول بين الرجل وبين إنفاق ماله في سبيل الله، وقد يحول بينه وبين الجهاد في سبيل الله، وقد يحمله على أن يأكل الحرام أو أن يقصر في جنب الله، فحذرنا ربنا جل جلاله من ذلك كله بهذه الآية الجامعة.
من فوائد الآية الكريمة ما يلي:
أولاً: أن بعض الأزواج والأولاد قد يكونون أعداءً للمؤمنين، ومصدر تلك العداوة حملهم المؤمنين على معصية الله أو التقصير في طاعة الله.
ثانياً: وجوب الحذر من هؤلاء الأزواج والأولاد والتعامل معهم بالعفو والصفح والمغفرة.
ثالثاً: إثبات الاسمين الكريمين الحسنين: الغفور والرحيم لله رب العالمين.
اللهم اغفر لنا وارحمنا وأنت أرحم الراحمين، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.