بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
أسأل الله أن يجعلنا من المقبولين.
الربط بين نداءات الإنفاق في البقرة وبعض السور في المفصل
سبب نزول الآية
الحث على الإنفاق من الطيب
الحكمة من الإتيان بلفظ (كسبتم) ولفظ (أخرجنا لكم)
التحذير من قصد الخبيث في الإنفاق
الحكمة من ختم الآية باسمي الله: (الغني والحميد)
أيها الإخوة الكرام! وهذه الآيات عملت عملها في سلف الأمة الصالحين رضوان الله عليهم، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: ( كان أبو طلحة -و أبو طلحة هو زوج أم أنس، زوج أم سليم - واسمه: زيد بن سهل ، كان أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، -بيرحاء يعني: حديقة بستان كبير- وكانت مستقبلة المسجد -أي: مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- وكان النبي عليه الصلاة والسلام يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قول الله عز وجل:
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
[آل عمران:92]، جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله! قد أنزل الله ما قد علمت، وإن أحب مالي إلي بيرحاء فهي لك يا رسول الله! اجعلها حيث شئت. قال عليه الصلاة والسلام: بخ بخ! ذاك مال رابح اجعلها في قرابتك )، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ردها إليه، وأمره أن يقسمها في أرحامه؛ لأن (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة).
وهناك مثال آخر أيضاً لـأبي طلحة رضي الله عنه، حيث جاء رجل ضيفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: مسلم جديد، فلم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم عند أزواجه شيئاً من أجل أن يطعمه هذا الضيف، فقال لأصحابه: ( من يضيف الرجل هذه الليلة؟ قال أبو طلحة : أنا يا رسول الله! فذهب به إلى أهله فوضع بين يديه الطعام، وكان طعاماً قليلاً، وقد أمر زوجته بأن تعلل الصبيان -يعني: تضع ماءً على نار توهمهم بأنها تصنع لهم عشاءً حتى يناموا- فلما وضع الطعام بين يدي الضيف قال لامرأته: قومي إلى السراج وكأنك تصلحينه فأطفئيه- يعني: اجعلي الدنيا ظلاماً؛ لئلا يرى الضيف ولا يتحرج- ففعلت المرأة ذلك وجلس هو رضي الله عنه ومعه زوجه أم سليم وكأنهما يأكلان، لكنهما في واقع الأمر لا يأكلان، حتى شبع الضيف رضي الله عنه، فلما قدم أبو طلحة في الصباح تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وقال: عجب ربنا من صنيعك أنت وصاحبتك البارحة، وأنزل الله عز وجل قوله:
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
[الحشر:9] ).
ومثال ثالث وهو أعجب مما سبق ولسنا مطالبين به: عبد الله بن عمر رضي الله عنه اشتهى سمكاً بعدما مرض مرضاً شديداً فنقه منه، ومن المعلوم أن المريض إذا نقه ربما يشتهي الشيء الذي كان محروماً منه، فاشتهى رضي الله عنه سمكة فالتمست بالمدينة فلم توجد؛ لأنه ليس هناك بحر، فوجدت بعد مدة من الزمن واشتريت بدرهم ونصف ثم شويت، وجيء بها على رغيف لـابن عمر ، فجاء سائل يطرق الباب، فقال عبد الله بن عمر لغلامه: يا غلام! لفها برغيف وادفعها إليه. فأبى الغلام، وقال له: أنت مريض ومحتاج إليها من أجل أن ترجع إليك قوتك. فانتهره وأمره بدفعها إليه، فذهب الغلام ثم جاء بالسمكة والرغيف فوضعها بين يدي ابن عمر وقال له: كل هنيئاً يا أبا عبد الرحمن، فقد أعطيته درهماً بدلها واسترجعت السمكة، فقال ابن عمر : لفها وادفعها إليه، ولا تأخذ منه الدرهم الذي أعطيته إياه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر الله له )، وهذا مثال لا يكون إلا من تربية محمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك مثال رابع: وهو أعجب: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من الصحابة أهدي إليه رأس شاة، فقال: إن أخي فلاناً كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلما وصل إليه قال من بعثت إليه: إن فلاناً -لشخص آخر- كان أحوج مني إليه، فبعث به إليه، فقال الثالث: إن أخي فلاناً.. وهكذا حتى دارت على سبعة أبيات فرجعت للأول؛ قال الله تعالى:
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
[الحشر:9].
وذكر الغزالي رحمه الله في الإحياء: أن عبد الله بن جعفر - وكان رجلاً مشهوراً بالسخاء والكرم - خرج إلى ضيعة له، أي: إلى بستان خارج المدينة، فنزل على نخيل قوم وفيهم غلام أسود يعمل فيه، إذ أتي الغلام بقوته، يعني: هذا العامل جيء له بطعامه، فدخل كلب ودنا من الغلام فرمى الغلام إلى الكلب بقرص فأكله، ثم رمى إليه بالثاني فأكله، ثم رمى بالثالث فأكله، و عبد الله بن جعفر ينظر إلى هذا الأمر ويتأمل، فقال: يا غلام! كم قوتك في كل يوم؟ قال له: هذه الأرغفة الثلاثة، يعني: كأنه رغيف للفطور ورغيف للغداء ورغيف للعشاء. قال له: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال له: ما هي بأرض كلاب، يعني: الأرض التي نحن فيها هذه ليس فيها كلاب، والظاهر أنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده. قال له: فما تصنع ببقية يومك؟ قال: أطوي يومي هذا، يعني: أصبر على الجوع، فقال عبد الله بن جعفر : لا حول ولا قوة إلا بالله، يلومونني على السخاء، يعني: كان عبد الله بن جعفر مشهوراً بالسخاء والكرم، وكان الناس يلومونه، فقال: يلومونني على السخاء، والله إن هذا لهو السخاء، وإن هذا الغلام لأسخى مني، فاشترى البستان الذي نزل فيه ضيفاً واشترى الغلام، ثم أعتقه لوجه الله وملكه البستان.
قال الله عز وجل:
وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
[سبأ:39]، انظروا ثلاثة أرغفة ماذا صنعت؟ نال حريته، وأخذ البستان الذي لم يكن إلا عاملاً فيه!