بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، أما بعد:
فيقول الله عز وجل في الآية الرابعة والأربعين من سورة ص:
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
[ص:44].
قرأ الجمهور:
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ
[ص:44]، قبلها قول الله عز وجل:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
[ص:41]، قرأها الجمهور بضم النون وسكون الصاد وهو الشر والبلاء، وقرأ يعقوب بفتحتين: (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب)، على وزن (أسد) وهو التعب والإعياء. وقيل: القراءتان بمعنى واحد، كالرشد بضم الراء والرشد بفتحها.
يذكر ربنا تبارك وتعالى عبده أيوب عليه السلام وما كان من ابتلاء الله تعالى له في جسده وماله بحيث لم يبق له أحد يستعين به على مرضه إلا زوجته حفظت وده بإيمانها بالله ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجر وتطعمه وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة، وكان قبل ذلك ذا سعة في المال والولد، فلما طال في الضر مقامه دعا ربه وتضرع إليه متوسلاً له برحمته التي وسعت كل شيء، فاستجاب له أرحم الراحمين، وأمره أن يقوم حالاً وأن يركض الأرض برجله، فقام ففعل، فأنبع الله له عيناً وأمره أن يغتسل منها، فأذهبت ما به من الأذى، ثم أمره أن يشرب منها، فأذهبت جميع ما كان في بطنه من سوء، وأثابه الله على صبره وثباته وتواضعه واستكانته، فوهب له أهله ومثلهم معهم رحمة منه سبحانه وذكرى لأهل العقول.
وكان أيوب عليه السلام حال بلائه قد غضب على امرأته لذنب فعلته، وأقسم أن يجلدها مائة، ولما شفاه الله وقد رأى من زوجته صبراً وإخلاصاً وشفقة وإحساناً، ما أراد مكافأتها بالضرب، فأفتاه ربه الرحيم أن يأخذ شمراخاً -أي قبضة حشيش يابسة -فيه مائة قضيب ويضربها ضربة واحدة فيبر بيمينه ويخرج من حنثه، وأثنى عليه ربه بالصبر والإنابة إلى مولاه جل في علاه.
وفي الآية أحكام:
الحكم الأول: أن الله تعالى يبتلي من يحبه من عباده؛ ليرفع مقامه ويعلي شأنه، وفي الحديث: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل )، وفي الحديث: ( إذا أحب الله قوماً ابتلاهم ).
الحكم الثاني: في الآية تنبيه على فضل الصبر وعاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة.
الحكم الثالث: مشروعية الفتيا، وهي خاصة بأهل العلم.
الحكم الرابع: وجوب الكفارة على من حنث في يمينه.
الحكم الخامس: مراعاة الأدب في الخطاب مع الله رب الأرباب.
الحكم السادس: استحباب الدعاء والشكوى لله سبحانه عند الإصابة,.
الحكم السابع: في الآية دليل على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديباً.
الحكم الثامن: الرخصة ثابتة عند الجمهور بجواز إقامة الحد على المريض الذي لا يرجى برؤه على الكيفية التي فعلها أيوب عليه السلام.
الحكم التاسع: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق هذه القصص التي لا تتأتى إلا بالوحي.
الحكم العاشر: قال الألوسي رحمه الله: وكثير من الناس استدل بها على جواز الحيل، وجعلها أصلاً لصحتها، وعندي أن كل حيلة أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل، كحيلة سقوط الزكاة.
ومن أمثلة الحيل ما يلي:
إنسان أظله شهر رمضان، فسافر ليأكل، وإنسان كان له مال يقدر به على الحج فوهبه غيره أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف لكي لا يجب عليه الحج، نعوذ بالله من الخذلان، أو إنسان أراد أن يبيع عشرةً نقداً بعشرين نسيئة، فجعل العشرة ثمناً لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل، وهو بيع العينة.
إنسان أراد قتل فلان، فوضع له في طريقه سبباً مجهزاً، أو إنسان يريد أن يفر من وجوب الزكاة بهبة المال أو جمع متفرقه أو تفريق مجتمعه أو الوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: الحيل المنهي عنها: ما هدم أصلاً شرعياً، وناقض مصلحة شرعية، فإذا فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلاً شرعياً ولا تناقض مصلحةً شهد الشرع باعتبارها، فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا الصدق في الأقوال والأعمال، والحمد لله الكبير المتعال، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.