وفي الآيتين فوائد:
الفائدة الأولى: في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الرحمن رضي الله عنه بقوله: ( بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت ).
قال الزمخشري رحمه الله: فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً، يعني: أن عبد الرحمن رضي الله عنه لما مات كان له أربع زوجات فكان لهن ثمن التركة، وكان ربع الثمن ثمانين ألفاً.
الفائدة الثانية: أجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يشتق لله تعالى اسم من صفة يوهم ظاهرها نقصاً، فلا يقال في حقه سبحانه: ساخر أخذاً من قوله:
سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ
[التوبة:79]، ولا يقال: ماكر، أخذاً من قوله:
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ
[الأنفال:30]، ولا يقال: كائد، أخذاً من قوله:
يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً
[الطارق:15-16]، ولا: مستهزئ، أخذاً من قوله:
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
[البقرة:15]، ولا: مخادع، أخذاً من قوله:
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
[النساء:142]، بل هو من باب تسمية العقوبة باسم الذنب، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين.
وكانت العرب إذا وضعوا لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاءً ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفاً له في معناه؛ ليزدوج الكلام، فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما.
الفائدة الثالثة: في قوله تعالى:
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
[التوبة:80]، قال الزهري رحمه الله: السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة، لا السبعة التي فوق الستة.
الفائدة الرابعة: قال الرازي رحمه الله: وذلك التعبير -يعني: قول المنافقين: إن الله غني عن صدقة هذا- يحتمل وجوهاً:
الأول: أنه - أي: المتصدق - لفقره محتاج إليه، فكيف يتصدق به، إلا أن هذا من موجبات الفضيلة، يعني: الرازي رحمه الله يقول: بأن هؤلاء المنافقين لو أنصفوا لعلموا أن هذا الرجل فاضل، كما قال تعالى:
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
[الحشر:9].
الثاني: أي أثر لهذا القليل، فالمنافقون كأنهم يقولون: هذا الرجل يتصدق بصاع، فما قيمة هذا الصاع؟!
قال الرازي: وهذا أيضاً جهل؛ لأن هذا الرجل بذل كل ما يقدر عليه، فهو أعظم موقعاً عند الله ممن لم يعمل شيئاً؛ لأنه قطع قلبه عما كان في يده من الدنيا، واكتفى بالتوكل على المولى.
الثالث: جاء الفقير بهذا القليل ليضم نفسه إلى الأكابر من الناس، هذا ظن المنافقين، وهذا أيضاً جهل؛ لأن سعي المرء في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يسعى في أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة.
ويستفاد من الآية الكريمة أيضاً:
أولاً: حرمة لمز المؤمن والسخرية منه.
ثانياً: غيرة الله على أوليائه، حيث سخر ممن سخر بالمؤمنين.
ثالثاً: من مات على الكفر لا يجوز الاستغفار له، وليس الاستغفار بنافعه.
رابعاً: في قوله تعالى:
إِلاَّ جُهْدَهُمْ
[التوبة:79]: ثناء على قوة البدن والعمل، وأنها تقوم مقام المال، وهذا أصل عظيم في اعتبار أصول الثروة العامة، والتنويه بشأن العاملين، وليسمع هذا الكلام أقوام جعلوا الدين كسلاً وبطالة، وظنوا أن ولاية الله تقتضي ترك العمل والانزواء عن الناس، والله عز وجل جعل أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أهل كد وعمل، (ما من نبي إلا ورعى الغنم)، (وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده)، فقد كان حداداً كما قال ربنا:
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ
[سبأ:10]، وكان زكريا عليه السلام نجاراً، وهكذا أنبياء الله ورسله -وهم خاصة القوم وأعلاهم شأناً- كانوا يعملون بأيديهم، فلنقتد بهم.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العمل بما نعلم، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.