يستفاد من هذه الآية فوائد:
الفائدة الأولى: إثبات وصف النجاسة للمشركين؛ لأنهم يجنبون فلا يغتسلون، فالواحد منهم يخرج بجنابته، بل أكثر من ذلك فالمشركون الآن والعياذ بالله! لا يغتسلون من بول ولا غائط، حتى النجاسات المغلظة يكتفون بمسحها بالأوراق، بل في بلاد أوروبا يعيبون على المسلمين أنهم يستعملون الماء لقطع أثر النجاسة، لقطع أثر البول والغائط، فهذا حالهم مع المسلم الطاهر النظيف الذي يستعمل الماء، وقد قال علماؤنا: الماء أفضل من غيره؛ لأن الماء يقطع النجس ويذهب الأثر، أما غيره فإنه يزيل النجس لكن لا يزيل الأثر، فيبقى الأثر.
فهم يعيبون على المسلمين ما هو عيبه عليهم.
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
فالمشركون نجس؛ لأنهم في اعتقادهم وفي قلوبهم متنجسون بأوضار الشرك؛ ولأنهم يجنبون فلا يغتسلون.
الفائدة الثانية: تحقير المشركين وتبعيدهم عن مجامع الخير؛ لأن خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات.
الفائدة الثالثة: أخذ بعض أهل العلم وهو الإمام الشافعي من هذه الآية وجوب الاغتسال على المشرك إذا أسلم، فلو أن إنساناً شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإننا نأمره بأن يغتسل.
الفائدة الرابعة: استدل بها بعض العلماء في أن المشرك نجس الذات، وهو قول الظاهرية والزيدية و الحسن البصري و عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع استدلالاً بظاهر الآية، لكن جمهور العلماء: على أن المشركين ليسوا نجسين في ذواتهم بدليل أن الله عز وجل أباح نكاح الكتابية، وبدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل من طعامهم وكان يتوضأ من مائهم، ولم يعهد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتجنبهم ويباعدهم.
الفائدة الخامسة: أن المشرك لا يمكن من دخول الحرم، قال الإمام القرطبي رحمه الله: ولو دخل مشرك الحرم فمات فدفن فإنه ينبش قبره ويخرج عظمه، فلا يمكّن من الاستقرار في الحرم لا حياً ولا ميتاً.
وكذلك النهي عن حضورهم الحج؛ لأن مناسك الحج كلها تتقدمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها زيارة المسجد الحرام.
الفائدة السادسة: في هذه الآية دليل على وجوب تعلق القلب بالله عز وجل لقوله سبحانه:
إِنْ شَاءَ
[التوبة:28]، وفيها دليل على أن الرزق ليس باجتهاد وإنما هو فضل من الله، وكما قال الأول:
لو كانت الأرزاق تجري على الحجا لماتت إذاً من جهلهن البهائم
يعني: لو كانت الأرزاق بالعقل وحدة الذهن لماتت البهائم جوعاً؛ لأنه ما عندها عقول ولا عندها تدبير لكن الرزق أولاً وآخراً من الله عز وجل.
تنبيه: بلاد المسلمين في حق الكفار على ثلاثة أقسام:
قسم لا يجوز للكفار دخوله أبداً.
وقسم يجوز للكفار دخوله بلا استقرار.
وقسم يجوز للكفار أن يستقروا فيه بعهد وأمان.
فالقسم الأول الذي لا يجوز للكفار دخوله أبداً: الحرمان، الحرم المكي والحرم النبوي، وكما قلت: الحرم المكي بحدوده والحرم المدني بحدوده من عير إلى ثور، يعني: ليس المقصود خصوص المسجد، بل الحرم كله من عير إلى ثور، يعني: من ذي الحليفة إلى أحد فما بينهما حرم لا يجوز لمشرك دخوله، قال أهل العلم: حتى إذا جاء رسول من بلاد الكفار، كسفير ونحوه، لو جاء إلى إمام المسلمين فلا يمكن من الدخول وإنما يرسل الإمام من يسمع الرسالة منه خارج الحرم ولا يمكن من الدخول.
القسم الثاني: الحجاز، يعني: بلاد العرب أو الجزيرة العربية سوى الحرمين فيجوز للكافر دخولها بالإذن لكن لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت يقول: ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، وأخرجوا المشركين من جزيرة العرب )، وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين في بلاد اليمن إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام، يعني: دول الخليج الست واليمن بمخلافيه الشمالي والجنوبي وبلاد العراق، هذه كلها تعد جزيرة العرب.
القسم الثالث: سائر بلاد الإسلام يجوز للكفار أن يقيموا فيها بذمة وأمان لكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم، وقد تعجبون حين تقرءون في أحكام القرآن للإمام القاضي أبي بكر بن العربي هذا الخبر، يقول: ولقد كنت أرى بدمشق عجباً في بلاد الشام، كان لجامعها -ويقصد الجامع الأموي- كان لجامعها بابان باب شرقي وباب غربي، وكان الباب الغربي يجعلونه طريقاً يمشون عليه نهارهم كله، -يعني: في حوائجهم- وكان الذمي -يعني: الكافر- إذا أراد المرور وقف على باب المسجد حتى يمر مسلم يجتاز، فيقول له الذمي: يا مسلم! أتأذن لي أن أمر معك؟ فيقول المسلم: نعم. فيدخل معه وعليه علامة أهل الذمة -وقد كان عندهم لباس خاص- فإذا رآه القيم على المسجد -أي: المسئول عن المسجد- صاح بالذمي: ارجع ارجع! فيقول له المسلم: أنا أذنت له، فيتركه القيم.
طبعاً هذا الكلام نقرؤه الآن ونسمعه، ونقول: اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وإلا تعرفون الآن ما هو حاصل. ونسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.