إسلام ويب

تفسير سورة الكهف - الآيات [45-50]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شبه الله تعالى الدنيا بالخضرة سريعة الزوال لقصر عمرها وسرعة انقضائها، وذكر شيئاً من زينتها وقرر أن أفضل منها ومن زينتها العمل للآخرة الباقية التي تستحق العمل، وذكر أهوال يوم القيامة وشدتها كالحشر والعرض واستلام الكتب وغيرها مما يكون سبباً لاستغلالها بالباقيات الصالحات.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

    اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    يقول الله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:46-50].

    حكى ربنا جل جلاله في هذه السورة المباركة ما كان من المشركين المستكبرين حين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباعد بينهم وبين الفقراء، وأن يجعل لهم يوماً وللفقراء يوماً؛ لئلا يختلط بعضهم ببعض، وأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه مع أولئك الفقراء؛ لأنهم مخلصون لله، ذاكرون له، حريصون على رضاه، أما أولئك المشركون فقد أغفل الله قلوبهم عن ذكره، وجعلهم متبعين لأهوائهم، ومتجاوزين للحدود في أمورهم، ثم ضرب الله لهم مثلاً بذينك الرجلين اللذين كان أحدهما مؤمناً طيباً مباركاً وإن كان فقيراً معدماً، وكان الآخر كافراً جاحداً متكبراً وإن كان غنياً واجداً، وخاتمة القصة: أن الله عز وجل استجاب لدعوة المؤمن، فأرسل على تينك الجنتين حسباناً من السماء، فأصبحتا صعيداً زلقاً، وأصبح ماؤهما غوراً فما استطاع له طلباً، وأصبح ذلك الغني الكافر يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها، ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:42]، لكنه ندم في وقت لا ينفع فيه الندم، كما قال ربنا سبحانه: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:85].

    ثم يضرب الله عز وجل لأولئك الكفار المشركين المتكبرين مثلاً ثانياً، فيقول الله عز وجل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45].

    معنى الحياة الدنيا وتشبيهها بالجنة التي سرعان ما تنتهي

    واضرب لهم يا محمد! مثلاً لهذه الحياة الدنيا، و(الحياة الدنيا) لفظة تطلق على المدة التي يبقى فيها الفرد على ظهر هذه البسيطة حياً هو وغيره من الأنواع، وسميت (دنيا) لأنها دانية قريبة حاضرة، وفي الوقت نفسه هي قصيرة يسيرة، مقدر زوالها.

    وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ [الكهف:45]، هذا الماء الطهور الذي ينزله الله عز وجل من السماء ليشرب منه الناس، ويسقون، ويزرعون، ويحرثون، وينتفعون، وهو الذي قال الله فيه: وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، هذه الحياة الدنيا كماء أنزله الله من السماء، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ [يونس:24]، اختلاط النبات: التفاف بعضه ببعض بسبب وفرته، وخصوبته، ونمائه، (فاختلط به) أي: بسبب ذلك الماء، ولولا الماء ما نبت نبات، كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ [يونس:24]، وبعدما كان هذا النبات بهياً نضيراً مثمراً بين عشية وضحاها أرسل الله عليه آفةً من الآفات، وسبباً من الأسباب فَأَصْبَحَ هَشِيماً [الكهف:45]، (هشيم) على وزن فعيل بمعنى مفعول أي: مهشوم، يابساً متكسراً، (هشيماً)، ومنه سمي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم هاشماً ، وكان اسمه عمرو ؛ لأن أهل مكة قد أصابتهم سنة، وأصابهم جوع، فذهب ذلك الرجل إلى بلاد الشام وابتاع خبزاً كثيراً حمله على إبل كثيرة، ثم جاء إلى مكة فأمر الطهاة، فنحروا تلك الإبل، وهشموا ذلك الخبز، ثم صبوا عليه من المرق، ووضعوا اللحم، فأطعم أهل مكة وأزال عنهم الجوع، حتى قال عبد الله بن الزبعرى :

    عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

    قوله: هشم الثريد أي: كسر ذلك الخبز وفتته، فهذا النبات أصبح هشيماً يابساً متفتتاً.

    تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45] أي: تفرقه وتطيره وتبدده، من الذرو وهو التفريق.

    وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45]، الله عز وجل قدرته بالغة كاملة، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يرتب أسباب الفناء على أسباب البقاء، وينقل المخلوقات من حال إلى حال، قال أهل التفسير: هذا تشبيه لمعقول بمحسوس، فالشيء المحسوس الذي يراه الناس أن جنةً من الجنان كانت خضرةً نضرة، بهيجةً مثمرة، إذا رآها الناظر أعجب بها، ثم بعد ذلك فجأةً يغير الله عز وجل حالها، ويبدل أمرها، بسبب من الأسباب التي يقدرها، وهكذا الدنيا يا كفار قريش! يا من تكبرتم على عمار و بلال و خباب اعلموا أن هذه الدنيا لا تبقى على حال، بل هي كما شبهها الله عز وجل بالماء في هذه السورة، وفي سورة يونس: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].

    وكذلك في سورة الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ [الزمر:21].

    وكذلك في سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً [الحديد:20].

    أوجه الشبه بين الدنيا والماء

    قال أهل التفسير: وجه الشبه بين الدنيا والماء من عدة وجوه:

    الوجه الأول: أن الماء لا يستقر على حال، فكذلك الدنيا لا تستقر على حال، تارةً تفرح، وتارةً تحزن، تارةً تعطي، وتارةً تمنع، تارةً تصح وتارةً تسقم، تارةً تغني، وتارةً تفقر، فلا تستقر على حال.

    الوجه الثاني: أن الماء لا يستقر في موضع، وكذلك الدنيا، فهي اليوم هنا، وغداً عند فلان، وبعد غد عند آخر، نجد بلاداً كانت غنيةً رخيةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، ثم أصبحت بعد حين فقيرةً معدمة، لا يجد أهلها قوتاً، أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.

    الوجه الثالث: أن الماء يذهب ولا يبقى، وكذلك الدنيا تذهب ولا تبقى.

    الوجه الرابع: أن الماء لا يدخله أحد إلا ابتل، وكذلك الدنيا لا تصيب أحداً بخيرها إلا أصابته بشرها، فلا يسلم منها أحد.

    الوجه الخامس: أن الماء إذا كان بقدر معين فإنه ينفع ولا يضر، فإذا زاد ضر، وكذلك الدنيا إذا أصاب منها الإنسان حاجته فإنه ينتفع بها، فإذا توسع فيها فإنه يتضرر بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قد أفلح من أسلم، ورزقه الله كفافاً، وقنعه بما رزقه ).

    فهذه وجوه خمسة للشبه بين الدنيا والماء وهي: أن الماء لا يستقر بل يتنقل، أن الماء لا يبقى بل يذهب، وكذلك الدنيا، أن الماء لا يدخله أحد إلا ابتل، كذلك الدنيا لا يصيب منها أحد إلا وجد من ضرها ولأوائها، وأن الماء يكون بقدر النفع فإذا زاد ضر، وكذلك الدنيا، وأن الماء لا يستقر على حال، وكذلك الدنيا، وهذا يسميه أهل البلاغة تشبيهاً مركباً؛ لأنها صورة منتزعة من عدة أشياء، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45].

    فيا من فتح الله عليك أسباب الدنيا لا تغتر، واعلم أنها لو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وانظر في القرآن كيف حكى الله قصص أقوام فتح عليهم من أسباب الدنيا كـفرعون ، و قارون ، و الوليد بن المغيرة ، و أمية بن خلف ، و أبي لهب بن عبد المطلب ، وغيرهم، فلم يتقوا الله عز وجل في دنياهم، ولم يعرفوا حق الله عز وجل في أموالهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وكانت الدنيا وبالاً عليهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088967245

    عدد مرات الحفظ

    780213678