أمر الله نوحاً بدعوة قومه، فاستجاب لأمر ربه، ودعا قومه بشتى أساليب الدعوة؛ وذكر لهم مرغباً فوائد التوحيد والتوبة في الدنيا والآخرة من غفران الذنوب، ونزول الأمطار، والزيادة في المال والذرية والثمار، ثم جنح إلى الترهيب فذكر الأدلة على توحيد الله من مراحل خلق الإنسان، وخلق السموات والأرض والشمس والقمر؛ كل هذا ليقنعهم بتوحيد الله؛ لكنهم استمرءوا الكفر واستمروا عليه.
تلخيص لما سبق ذكره من دعوة نوح عليه السلام لقومه
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، (مبين) أي: واضح، قد عرفتم سيرتي وصدق سريرتي واستقامة أمري، أو أن يكون (مبين) من (أبان) المتعدي، بمعنى: أنه يبين عن الله عز وجل، قد جاء بالدلائل الواضحات، والبراهين الساطعات.
ثمرة الاستجابة لدعوة نوح إلى توحيد الله وتقواه وطاعته عليه السلام
قال تعالى: أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ[نوح:3]، وهذه هي دعوة جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولو أنكم التزمتم هذه الثلاثة: عبدتم الله عز وجل، واتقيتموه جل جلاله، وأطعتم رسوله نوحاً عليه السلام فإنه سبحانه يجزيكم خير الجزاء: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ[نوح:4]، (من) هنا: إما أن تكون زائدة للتأكيد، وإما أن تكون تبعيضية، فإذا كانت مزيدة للتوكيد فلا إشكال، فإن الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها، وأما إذا كانت للتبعيض فقد قال بعض المفسرين: إنكم إن آمنتم يغفر الله لكم الذنوب الكبار، المتعلقة بالشرك ونحوه، وقال بعضهم: بل المراد ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين، يعني: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ[نوح:4]، أي: يغفر لكم ما لا تعلق له بحقوق خلق الله عز وجل، أما ما كان متعلقاً به سبحانه فإنه يغفره، والأظهر: هو الوجه الأول، بأن (من) مزيدة للتأكيد، والإنسان إذا آمن بعد الشرك فإن الله عز وجل يغفر له ما مضى، كباره وصغاره، ما كان متعلقاً بحقه وما كان متعلقاً بحقوق المخلوقين، ودليل ذلك قول ربنا جل جلاله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ[الأنفال:38]، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن العاص : ( أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله ).
ثم إن نوحاً عليه السلام اعتذر إلى ربه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً[نوح:5-6]، يا رب! قد بذلت جهدي، واستفرغت وسعي، وقمت في قومي داعياً إلى سبيلك بالليل والنهار، لكن هذه الدعوة المتكررة ما أفلحت ولا نجحت في أن تهدي هؤلاء الضالين، ولا أن ترشد هؤلاء الغافلين؛ بل إنهم كانوا يفرون منها كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة.
ولذلك إذا شكى الناس الجدب، فإن أعظم ما تستمطر به السماء وتستنزل به رحمة الله الاستغفار؛ كما حدث في عهد عمر رضي الله عنه حيث خرج الناس يستسقون، فما زاد عمر رضي الله عنه لما صعد على المنبر ليخطب في الناس على الاستغفار، ثم رجع فأمطروا، قالوا: يا أمير المؤمنين! ما رأيناك استسقيت! فقال: إني استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. يقول لهم: الاستغفار هو أعظم سبب يستنزل به المطر.
وكذلك بلال بن سعد رحمه الله ورضي عنه خرج يستسقي بالناس، فقال: اللهم إنا سمعناك تقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ[التوبة:91]، وقد أقررنا بالإساءة، فتغفر لمن إن لم تغفر لمثلنا؟ اللهم ارحمنا واغفر لنا واسقنا، فسقوا.
قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً[نوح:10]، جملة تعليلية، أي: استغفروا ربكم؛ لأنه كان غفاراً، وجزاء الاستغفار: يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً[نوح:11]، (يرسل السماء) قال بعض المفسرين: المقصود: يرسل ماء السماء عليكم مدراراً، وقال بعضهم: بل العرب تطلق على المطر سماء، ومنه قول القائل:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضاباً
(إذا نزل السماء) أي: المطر.
قال تعالى: (مِدْرَاراً)، أي: بغير حساب.
حصول المال والذرية وبركة الزراعة نتيجة المداومة على الاستغفار
ثم قال: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ[نوح:12]، (يمددكم بأموال): يوسع الله عليكم أرزاقكم ويرغد عيشكم ويطيب حياتكم، (وبنين): يرزقكم الله الذرية التي بها تسعدون وتستقوون.
قال بعض أهل العلم: وفي هذا دليل على أن الداعية إلى الله عز وجل يبين للناس منافع الاستجابة الدنيوية قبل الأخروية.
ثم بعد هذا الترغيب لجأ إلى الترهيب، فقال لهم: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً[نوح:13]، (ما لكم): أيها السامعون لدعوتي؟! يا من أراكم الله عز وجل معجزاتي! (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً)، أي: عظمة وقدرة، وقال بعضهم: (لا تَرْجُونَ)[نوح:13]، بمعنى: لا تبالون؟! على لغة مضر، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً[نوح:13]، أي: ما لكم لا توقرون الله عز وجل؟! ما لكم لا تعظمونه؟! ما لكم لا تقدرونه حق قدره؟!
مراحل خلق الله للإنسان
قال تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً[نوح:14]، خلقكم ربنا جل جلاله أطواراً، طوراً بعد طور، ما خرجتم من بطون أمهاتكم هكذا وأنتم طوال الأجسام، مكتملو العقول؛ بل إن الله عز وجل قلبكم، خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم أخرجكم من بطون أمهاتكم ضعافاً، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة، وهذه الأطوار كلها يتقلب فيها ابن آدم.
وقال بعض المفسرين: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً[نوح:14]، أي: أنواعاً، ما بين بصير وضرير، وقوي وضعيف، وصحيح وسقيم، حسب أنواع الناس.
قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطاً[نوح:19]، جعل سبحانه وتعالى هذه الأرض ممهدة للسالكين، وجعلكم تمشون عليها وتتنقلون في فجاجها، وتزرعونها فتخرج لكم أنواعاً من الثمار والأشجار، ثم إذا طعمتم تبتلع هذه الأرض ما يخرج منكم من فضلات، وهذه الأرض جعلها الله بساطاً، تمشون عليها مطمئنين، وتجلسون عليها ساكنين، وتنامون عليها مستريحين، أسكنها ربنا جل جلاله لكم.
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً[نوح:20]، أي: تجعلون فيها طرقاً، وتجعلون فيها فجاجاً تتنقلون وترتحلون من مكان إلى مكان، من غير حرج ولا ضيق، وهذا كله بقدرة ربنا جل جلاله.