فأما أمية بن خلف ذاك الخبيث فقد كان له فرس يعلفه، وكان يتهدد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له: ( سأقتلك عليه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا قاتلك إن شاء الله ).
ولما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه إلى هذا الرجل بعدما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وكان يمر على أمية بن خلف إذا مر بمكة، و أمية بن خلف ينزل على سعد إذا كان في طريق التجارة إلى الشام، وكان بينهما علاقة، فقال أمية بن خلف لـسعد: انتظر إلى أن يشتد الحر وتسكن الحركة فتطوف بالبيت، يعني لئلا يراك الناس، فذهب سعد رضي الله عنه يطوف بالبيت، فرآه عدو الله أبو جهل ، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا سعد بن معاذ، فقال: تطوف بالبيت آمناً، وقد أويتم محمداً وأصحابه، فقال له: وما لنا لا نفعل! فقال أبو جهل : والله لا أدعك تطوف، فقال: والله لئن منعتني لأمنعن تجارتك، فجعل أمية بن خلف الجبان يقول لـسعد: لا ترفع صوتك فإن أبا الحكم هو سيد أهل الوادي، فغضب سعد، وقال له: دعني منك، فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه قاتلك، فقال: أنت سمعت محمداً؟ قال: نعم، فكاد الرجل يحدث، ثم قال له: إن قال محمد فقد صدق.
فلما تداعى المشركون لغزوة بدر، بدأ أمية بن خلف يعد العدة، ويجهز سلاحه، فقالت له امرأته: أنسيت ما قال أخوك اليثربي، فتذكر الرجل تلك المقالة فجبن، وقال: أبعث واحداً مكاني، فجاءه أبو جهل بمجمر، بمبخر، وقال له: تجمر أبا علي فإنما أنت من النساء، يعني: فإنهن يقعدن عن المعركة، فأثار فيه حمية الجاهلية، فخرج عدو الله إلى المعركة وقلبه في جناحي طائر؛ لأن الله عز وجل قال:
سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
[الأنفال:12]، وقد أسلم رجل من الكفار فيما بعد، فسأله رجل من صغار الصحابة، فقال له: يا عمي! كيف كان الرعب في قلوبكم يوم بدر؟ فقال له: والله يا ابن أخي، ما أدري ما أقول، فأخذ حجراً ووضعه في إناء ثم رجه، ثم قال له: اتسمع؟ فقال: نعم، فقال: هكذا كانت قلوبنا. رعب من الله عز وجل، فهذا الكافر أمية بن خلف ألقى الله في قلبه الرعب، فبدأ يستغيث بـعبد الرحمن بن عوف وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو ، يقول: يا عبد عمرو ! يا عبد عمرو ، فأبى عبد الرحمن أن يرد عليه، فقال له: يا عبد الرحمن فرد عليه وقال له: ما لك؟ قال: هل لك في سلاحي وأدراعي وتأخذني أسيراً، يعني: خذ السلاح والدروع، خذ هذا كله، من أجل أن أكفى شر المقتلة، فأخذه عبد الرحمن بن عوف ومعه ولده علي ، فأبصر به بلال بن رباح رضي الله عنه، وكان عدو الله هذا يعذبه على الإسلام، فقال: عدو الله أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، فقال له عبد الرحمن : يا بلال ! هذا أسيري، وبدأ يدافع عنه، فقال بلال : يا معشر الأنصار! يا أنصار الله! هذا أمية بن خلف عدو الله، فاجتمع الناس، فدفع عبد الرحمن علياً ، وقال له: انج بنفسك، فبدءوا بـعلي فقتلوه، ثم عمدوا إلى هذا الخبيث فقتلوه شر قتلة، وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: يرحم الله بلالاً ، لقد فجعني في أسيري ودروعي، يعني: فقدت الأسير، وفقدت الدروع.
وهذا الخبيث كان مصرعه يوم بدر على يدي ابني عفراء رضوان الله عليهما.
روى البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: رأيت نفسي يوم بدر بين غلامين صغيرين، فقلت: يا ليتني كنت بين أشب منهما، قال: فغمزني أحدهما في غفلة من صاحبه، فقال: يا عمي، أتعرف أبا جهل ، قلت: نعم، وما شأنك به؟ فقال: لقد علمت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده! لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: ثم غمزني الآخر، فقال لي مثل ما قال الأول، قال: فرأيت أبا جهل يجول بين الصفوف، فقلت: هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، فوثب عليه الغلامان فما تركاه حتى أثبتاه. هذه رواية البخاري رحمه الله.
زاد البيهقي رحمه الله في دلائل النبوة: فلحق عكرمة بن أبي جهل بأحد الغلامين فأطن ذراعه، يعني قطع يده، يقول الغلام رضي الله عنه: فمكثت سائر اليوم أقاتل وأنا أجرها خلفي، يعني: يقاتل ويده معلقه، قال: فلما أثقلتني دست عليها بقدمي وتمطيت حتى خلعتها.
( ولما انجلى غبار المعركة، ووضعت الحرب أوزارها، جاء الغلامان يبشران رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل واحد منهما يقول: يا رسول الله! أنا قتلت أبا جهل ، قال: آلله الذي لا إله إلا هو، قالوا: والله الذي لا إله إلا هو، فخر ساجداً عليه الصلاة والسلام، ثم قال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فقال: أرياني، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى السيفين، وقال: كلاكما قتله، ثم أخرج الغلام ذراعه التي قطعت يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم، فبصق عليها ثم لصقها فلصقت )، مثل ما فعل يوم أحد عليه الصلاة والسلام بعين قتادة التي جاء بها وقد سالت يحملها على كفه، قال: فأخذها فوضعها فكانت والله أحسن من الأخرى، والله على كل شيء قدير.
فعلى الإنسان أن يحذر من أن يتخذ خليلاً فاسداً؛ لأن الصاحب ساحب، ( والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )، فمن كان صديقاً لـأبي بكر انتفع به وأسلم على يديه، من أمثال عثمان و عبد الرحمن و سعد و أبي عبيدة رضوان الله عليهم، ومن كان صديقاً لـأبي جهل و أبي لهب و عقبة بن أبي معيط و أمية بن خلف و عتبة بن ربيعة و الأخنس بن شريق ، وأمثالهم من صناديد الكفر كانوا سبباً لهلاكهم في الدنيا والآخرة.
أسأل الله أن يرزقنا صحبة الصالحين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.