أكرم الناس يوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله، نشأ كريم الأصل في بيئة طيبة، واستقام على أمر الله من نعومة أظفاره، وكان حسن الالتجاء إلى الله، وكان شاكراً لله على نعمه، صابراً على بلائه، لا ينسى ربه طرفة عين، حريصاً على الدعوة إلى الله حتى في أحلك الظروف.
فوائد من قصة يوسف عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يتقبل منا أجمعين.
وحديثنا سيكون عن شخصية عظيمة، ذكرت في القرآن بما هي عليه من مكارم الأخلاق، وحسن المعتقد، والدأب في الدعوة إلى الله عز وجل، مع التحلي بالصبر، وشكر الله على نعمته، إلى غير ذلك من الصفات النبيلة.
وهذه الشخصية هي شخصية الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الخليل، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم: وكل إذا عد الرجال مقدم.
وقصته صلوات الله وسلامه عليه لا يكاد يجهلها مسلم، لكننا في هذا الدرس نستنبط منها بعض الفوائد التي تدلنا على شخصية هذا النبي الكريم، منها:
تأثير البيئة والتربية الحسنة
أولاً: أن كرم الأصل إذا التقى مع طيب البيئة، فإن الإنسان ينشأ نشأة سوية، حتى إنه ليكاد يكون خيراً محضاً لا شر معه، فــيوسف عليه السلام أصله كريم، نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، نشأ على التربية الحسنة، وعلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وعلى الاستقامة على أمر الله عز وجل، فبيئته بيئة طيبة، وقد نشأ بين أبوين كريمين، في بيئة مسلمة تعرف الله عز وجل وتوحده.
ومثله أيضاً سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه نشأ في بيئة كريمة، في كنف عبد المطلب ثم في كفالة عمه أبي طالب وتمتع برعاية أمه حين كان صغيراً.
ثم بعد ذلك صلوات ربي وسلامه عليه أدبه ربه فأحسن تأديبه، وكان له من الأخلاق طرفيها، الخلق الجبلي الطبعي غير المتكلف، ثم الخلق المكتسب، الذي اكتسبه صلوات ربي وسلامه عليه من تأديب ربه إياه.
ثالثاً: الدأب في الدعوة إلى الله، ما كانت دعوته عليه الصلاة والسلام دعوة موسمية، ما كانت دعوته في المواسم، ولا كانت في بلد دون بلد، أو مكان دون مكان، أو جو دون جو، بل كان على كل حال يدعو إلى الله؛ ولذلك المرأة تراوده عن نفسه، وهو يدعوها إلى الله! إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، يذكرها بسنة الله عز وجل، بأن الإحسان لابد أن يقابل بالإحسان، يقول لها: زوجك قد ائتمنني على عرضه، ومكنني من بيته، فكيف أخونه؟! إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].
وهذا أيضاً كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يدعو إلى الله في المسجد الحرام، ويدعو إلى الله في سوق عكاظ، ويدعو إلى الله في موسم الحج، يدخل على الناس فيقول: من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ دعوة ربي، وفي المدينة كان يدعو إلى الله عز وجل في مسجده، ويدعو إلى الله في الطرقات إذا مر بقوم، كما ثبت في صحيح البخاري : ( أنه أردف أسامة بن زيد على حمار، ثم مر على قوم فيهم أخلاط من المشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله ابن سلول رأس النفاق، و عبد الله بن رواحة فنزل صلى الله عليه وسلم من دابته، وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله ).
رابعاً: أيضاً صفة عظيمة نلمحها في ثنايا قصة يوسف، وهذه الصفة لازمت يوسف عليه السلام في أطوار حياته كلها، وهي صفة: الصبر، وهو: حبس النفس على ما تكره، فقد صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على قضاء الله وقدره، يلقى في الجب فيصبر، يخرج من البئر فيباع عبداً رقيقاً وهو الكريم ابن الكريم فيصبر.
ثم بعد ذلك تعرض عليه الفاحشة، دانية قريبة، سهلة هينة، فيصبر ويستعصم بالله عز وجل، ثم يسجن ظلماً وعدواناً فيصبر، ثم يخرج من السجن ويمكن من خزائن مصر فيصبر، وهذه فتنة السراء، وبعض الناس قد يصبر على الضراء، ولا يصبر على السراء، يصبر إذا نزل به بلاء، وإذا أحاطت به فاقرة، لكنه لو كان في سعة ونعمة فإنه لا يصبر.
معنى الهم في قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها ...)
وأما الآية التي يسأل عنها كثير من الناس: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ[يوسف:24]، فالتفسير المرتضى -والعلم عند الله تعالى-: أن الهم هاهنا هو الميل الطبعي، الغريزي، الجبلي، الذي لا يحاسب الله العبد به، مثال ذلك: إنسان صائم يعاني من شدة الحر، وقد تكلم كثيراً مثلاً، أو بذل مجهوداً كبيراً في حمل بعض الأثقال، فرجع إلى بيته في نحر الظهيرة، فوجد أطفاله يشربون الماء البارد والعصير الشهي، فتميل نفسه إلى هذا الشراب بحكم الجبلة، بحكم الطبع البشري، لكنه لا يمد إليه يداً ولا تحدثه نفسه بأن يتناول منه شيئاً.
كذلك يوسف عليه السلام هو شاب، فتي، قوي، غض الإهاب، حديث السن، كامل الفحولة، تام الرجولة، خلت به امرأة ذات منصب وجمال، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك! وبحكم الطبيعة البشرية، تثور شهوته لكنه استعصم بالله عز وجل فعصمه ربه.
وما أجمل ما قاله الفخر الرازي رحمه الله، قال: يوسف بريء بشهادة الله، وشهادة الشيطان، وشهادة الشاهد، وشهادة العزيز، وشهادة المرأة، وشهادة النسوة، وشهادة نفسه، فمن كان من حزب الله، أو من حزب الشيطان فلابد أن يعتقد أن يوسف بريء.
ثم بعد ذلك لم يتورع عن أن يدخل يوسف السجن، وهو يعلم أنه مظلوم، وأنه بريء عليه الصلاة والسلام، و يوسف عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على شرفه، رزيناً، قوياً في الحق الذي يحمله؛ ولذلك لما جاءه الرسول المبعوث من الملك، قال له: اخرج، الملك يدعوك لمقابلته، فأبى أن يخرج! وقال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، أنا لن أخرج وهناك شبهة لحقت بي، وهناك نقطة سوداء تدنس شرفي، لا، لابد أن يعاد التحقيق وأن تفتح القضية من جديد؛ من أجل أن يتأكد الناس أني بريء.
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الموقف من يوسف عليه السلام، حيث قال: ( لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ، ثم دعيت لأجبت الداعي )، يعني: يقول: يوسف جلس في السجن سبع سنين، أو بضع سنين كما قال القرآن، ثم قيل له: اخرج، المفروض يخرج، بل ربما لو سبعة أيام، أنا واحد من الناس لو سجنت سبع ساعات ثم قيل لي: اخرج، سأخرج مباشرة.
فيوسف جلس في السجن بضع سنين، ثم يقال له: اخرج للقاء الملك! عندك مقابلة ملكية، ومع ذلك يرفض صلوات الله وسلامه عليه، مما يدل على رزانة وثبات، وقوة، ورباطة جأش، ومضاء عزيمة.
أسأل الله أن يرزقنا الاقتداء به.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.