بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
ومع النداء السابع والسبعين في الآية الثانية عشرة من سورة المجادلة، قول ربنا تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
[المجادلة:12-13].
سبب نزول الآية
معاني مفردات الآية
المعنى الإجمالي للآية
والمعنى الإجمالي في الآيتين الكريمتين: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إذا أردتم مساررة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور فقدموا أمام نجواكم صدقة تتصدقون بها على أهل المسكنة والحاجة، ولا يفهمن أحدكم أن الصدقة تدفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معلوم لدى كل مسلم أن الصدقة عليه حرام سواء كانت صدقة واجبة أو صدقة تطوعية، فالمقصود: أن هذه الصدقة تتوجهون بها إلى أهل المسكنة والحاجة قبل أن تناجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول الله عز وجل: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، فإذ لم تفعلوا هذه الصدقة التي بها أمرتم فأقيموا شكراً لله على هذا الكرم والحلم الصلاة، التي هي طهرة لأرواحكم وزكاة لنفوسكم ووصلة لكم بربكم، وآتوا الزكاة التي هي نزاهة لأبدانكم وتطهير لأموالكم وصلة بإخوانكم، ولا تفرطوا في شيء من ذلك، فالصلاة نور تهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية، وتعين على نوائب الدارين.
فالله عز وجل ذكر هاهنا أشرف عبادتين: عبادة بدنية وهي: الصلاة، وعبادة مالية وهي: الزكاة.
ثم عمم فقال:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[المجادلة:13]، أي: أطيعوا الله ورسوله في كل ما يأمرانكم به ففي ذلك زيادة في النور والبرهان.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الظلال: يعلمهم القرآن أدباً آخر في علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدو -والله أعلم- أنه كان هناك تزاحم على الخلوة بالنبي عليه الصلاة والسلام ليحدثه كل فرد في شأن يخصه ويأخذ فيه توجيهه ورأيه، أو ليستمتع بالانفراد بالرسول عليه الصلاة والسلام، كل مسلم كان حريصاً على ذلك؛ ولذلك بعضهم كان يحرص على أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي له في بيته رجاء البركة، وكان كل واحد إذا رزق بمولود يأتي به للنبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك إذا مات له ميت فإنه يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحضر عند احتضاره، ويقوم عليه، ويصلي عليه ثم ينزل في قبره، كل هذه كانت تمثل مشقة على النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن هناك تقدير في الغالب لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى وهي مهمة البلاغ،
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
[المائدة:67]، وعدم الشعور بقيمة وقته وبجدية الخلوة به، وأنها ما ينبغي أن تكون إلا لأمر ذي بال مهم، فأراد الله أن يشعرهم بهذه المعاني؛ بأن وقت النبي صلى الله عليه وسلم وقت غال، فلا بد أن تدفعوا شيئاً قبل أن تخلوا به؛ لأن وقته صلى الله عليه وسلم حق للجماعة وليس حقاً للأفراد.
هذه الآية فيها فوائد:
منها: أنه اتفق أهل العلم على أن حكمها منسوخ، فليست آية محكمة بل بقيت تلاوتها ونسخ حكمها.
ومنها: أن في هذه الآية أمر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفع الفقراء
ومنها: تمييز للمؤمنين الخلص من المنافقين المدعين، وتمييز لمحبي الآخرة من محبي الدنيا، قال الفخر الرازي رحمه الله: فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه، وإن وجده بالسهولة استحقره، يعني: الناس لو وزع عليهم كتاب مجاناً فإنهم في الغالب لا يقرءونه، لكن لو قيل لهم: ادفعوا ولو خمسمائة جنيه فإنهم يشعرون بأن لهذا الكتاب قيمة وقدراً، يقول الرازي : فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه، وإن وجده بالسهولة استحقره، ولعل حالنا الآن خير مثال.
ومنها: النهي عن الإفراط في الأسئلة التي لا فائدة منها؛ لأن بعض الناس يسأل عن قميص يوسف الذي قُدَّ من دبر، هل كان من قطن أم من صوف؟ أو يسأل عن كلب أصحاب الكهف ما لونه؟ أو أخت موسى ما اسمها؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي لا يترتب عليها عمل وفائدة.
من الأصوليين من يقول بجواز نسخ الأمر قبل التمكن من فعله.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وليس هذا الاستدلال بصحيح، فإن النسخ لم يقع إلا بعد إمكان الفعل، لكن عندنا مثال آخر وهو أن الله عز وجل أول ما فرض الصلاة كانت خمسين، ولم يفعلها المسلمون؛ بل نسخت قبل الفعل.
قال ابن العربي رحمه الله: وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال:
ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ
[المجادلة:12]، ثم نسخه مع كونه خيراً وأطهر، وفي هذا رد على المعتزلة الذين يقولون: يجب على الله فعل الأصلح، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ! فالعبد لا يوجب على الله شيئاً، فهو سبحانه:
لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ
[الأنبياء:23].
قال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد كانت لـعلي رضي الله عنه ثلاث -يعني: ثلاث خصائص أو مزايا- لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة رضي الله عنها التي هي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي قال فيها : ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويريبني ما يريبها )، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، فإنه لما استعصى على المسلمين فتح بعض الحصون قال رسول عليه الصلاة والسلام: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه )، يقول عمر رضي الله عنه: والله ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، يعني: في ذاك اليوم أحببت أن أكون أميراً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام شهد لذلك الأمير بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يقول عمر : فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تساورت له من أجل أن يراني، يعني: عمر رضي الله عنه تراءى للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه يقول له: أنا موجود لعلك تعنيني! فقال عليه الصلاة والسلام: ( أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا: هو رمد يا رسول الله )، يعني: يشتكي الرمد في عينيه ( فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وتفل في عينيه فبرئ بإذن الله، ثم أعطاه الراية وقال له: انطلق باسم الله، على بركة الله، قاتل من كفر بالله.. )، إلى آخر ما قاله عليه الصلاة والسلام.
فـابن عمر يقول : إن لـعلي ثلاثاً لو كانت لي واحدة منهن لكان خير لي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. هذه الآية التي عمل بها علي ولم يعمل بها غيره.
أيها الإخوة الكرام! وهذا يدلنا على كذب الروافض الذين يروجون أن الصحابة كانوا يحقدون على علي ، وأنهم كانوا يكرهون علياً ، أو يحاولون إخفاء مزايا علي ، فهذا عمر رضي الله عنه يذكر قصة الراية يوم خيبر ويثبت الفضل لـعلي ، وهذا ابن عمر رضي الله عنه يثبت لـعلي ثلاث خصائص.
ثم في الصحيحين في البخاري و مسلم أحاديث كثيرة في فضل علي رضي الله عنه، وليس في الصحيحين حديث واحد في فضل معاوية ، فلو كان أهل السنة يفضلون حسب الهوى أو حسب المصلحة لذكروا أحاديث في فضائل معاوية ، وأخفوا الأحاديث التي في فضائل علي رضي الله عنه.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.