نهى الله سبحانه عبادة عن الخيانة، وأمر بأداء الأمانة، والأمانة تعم كل أمانة، سواء التي بين العبد وربه أو التي بين العبد وغيره، وتضييع الأمانة من علامات النفاق، وهو من علامات الساعة.
تفسير قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فقيل له: يا أبا لبابة ! قد تيب عليك. فقال: والله لا أحل نفسي. يعني: لا أفك رباطي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده ثم قال أبو لبابة رضي الله عنه: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب، وأن أنخلع من مالي، فقال له صلى الله عليه وسلم: يجزئك الثلث أن تصدق به ).
أيها الإخوة الكرام! قد مضى معنا الكلام مراراً في أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء، والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار، اللازمة والمتعدية.
يعني: كل ذنب صغيراً كان أو كبيراً، لازماً -يعني: ضرره قاصر على صاحبه- أو متعدياً -يعني: أن ضرره يتعدى إلى الغير- فالذنوب صغارها وكبارها، لازمها ومتعديها كلها تعد خيانة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [الأنفال:27]، أي: لا تخونوا الله بترك طاعته، ولا تخونوا الرسول صلى الله عليه وسلم بإهمال سنته، والخطاب هنا لجماعة من الناس أظهروا الإيمان والطاعة وأبطنوا الكفر والمعصية، وهم المنافقون والعياذ بالله.
وقوله: وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ [الأنفال:27]، قيل: الأمانات هي الدين كله، فالدين كله أمانة، وقيل: هي الأعمال التي ائتمن الله العباد، وسميت: (أمانة)؛ لأنها يؤمن معها من منع الحق، فالطهارة أمانة، والصلاة أمانة، والصيام أمانة، وسائر شعائر الإسلام وشرائعه أمانة.
وبعض العلماء فسرها بمعنى أخص فقال: الأمانات: هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله. يعني: الصلاة الآن أمام الناس ليست أمانة، لكن غسل الجنابة مثلاً أمانة فيما بينك وبين الله عز وجل، حيث أنه لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى.
المعنى الإجمالي للآية
المعنى الإجمالي للآية:
هذه الآية تنهى عن الخيانة، والنهي عن الشيء أمر بضده، فهي تنهى عن الخيانة وتأمر بأداء الأمانة: وقد كانت خيانة المنافقين بإظهار الإسلام وإبطان الكفر، وكشف أسرار المسلمين وإطلاع المشركين على عورات المسلمين وإخبارهم بما خفي عنهم من خبرهم.
وتفسير الأمانة عند الناس الآن بشيء يسير، فهم يفسرونها بالوديعة؛ كإنسان وضع عندك مالاً واستأمنك عليه، فهذه عند الناس أمانة، لكن الأمانة أعم من ذلك، وأعظم الأمانات: ما يتعلق بحق الله عز وجل من توحيده وعبادته والانقياد لأمره جل جلاله.
وقوله: (إن في بني فلان رجلاً أميناً)، هذه الآن حاصلة في واقع الناس يقال: فلان رجل يؤدي الأمانة، فلان شيكاته لا ترجع، فلان لا تخاف إذا وضعت عنده شيئاً، هذا موجود الآن، فأصبحت الأمانة هي الاستثناء، والغدر والخيانة -نسأل الله العافية- هي الأصل وهي الأساس في معاملات الناس.
لقد بلغ من شأن الأمانة أن يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر أيامه: ( لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً لاستخلفته، فإن سألني ربي لم؟ أقول: يا رب! سمعت رسولك صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ).
ثالثها: أن القيام بالأمانة من صفات المؤمنين كما أن خيانتها من خصال المنافقين، قال عليه الصلاة والسلام: ( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب )، أي: المؤمن يمكن أن يأتي بأي معصية سوى الخيانة والكذب.
رابعها: وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأداء أمانته بامتثال سنته صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، يدل على قبح من كان عالماً بتحريم الفعل ثم أصر عليه. يعني: معصية العالم أعظم عند الله من معصية الجاهل.
أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.