إن الأنبياء هم أشد الناس بلاءً، وقد ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بقومه الذين صبوا عليه وعلى أصحابه أنواعاً وأشكالاً من العذاب؛ فقد أوذي وسُب وشُتم وحوصر هو وأصحابه، فصبروا على ذلك حتى جاء فرج الله، وأذن الله لهم بالهجرة إلى القوم الذين نذروا أنفسهم لنصرة هذا الدين ونصرة النبي عليه الصلاة والسلام.
الهجرة من دار الاستضعاف إلى دار التمكين والعزة
الحمد لله رب العالمين، نحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
ولم يكتفوا بذلك فحسب، بل سلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضوان الله عليهم نوعين من الحروب المؤذية الفتاكة:
النوع الأول: الحرب الاقتصادية، وذلك حين كتبوا تلك الصحيفة الظالمة الخاطئة، وعلقوها في جوف الكعبة: ألا يبيعوا للمسلمين ولا يبتاعوا منهم، وألا يزوجوهم ولا يتزوجوا منهم، فحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في شعب بني هاشم ثلاث سنوات حتى اضطروا إلى أن يأكلوا أوراق الشجر، يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان أحدنا يضع كما تضع الشاة! فإذا أراد أحدهم أن يقضي حاجته فإنه يخرج منه كالبعر الذي يخرج من الشاة من شدة الجوع وقسوة العيش التي كانوا يعانونها، وكل ذلك من أجل أن يردوهم عن دينهم!
النوع الثاني: حرب التصفية الجسدية، فقد كانوا يأتون بالرجل ويجوعونه ويعطشونه، يلقونه في حر الشمس، ويضعون على صدره الصخرة العظيمة، ويضربونه بالسياط، ويدفعونه إلى صبيان مكة يتقاذفونه، ويقولون له: واللات والعزى! لا ندعك حتى تكفر بمحمد وإله محمد، حتى إن بعض الصحابة فقد بصره من شدة التعذيب والأذى، مثل زنيرة جارية رومية فقدت بصرها، فقال المشركون: أذهب بصرها اللات والعزى، فقالت رضي الله عنها: كذبتم وبيت الله! ما تنفع اللات والعزى وما تضر، ما أذهب بصري إلا الله وهو قادر على أن يرده إلي، فرد الله عليها بصرها.
وهكذا كان حال كثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يعانون الأذى الشديد والتعذيب من هؤلاء الكفار الفجار، ولم يسلم من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا النبي الكريم الذي ما آذى أحداً، ولا منه الناس كلمة لاغية، ولا لفظة فاحشة، فقد ناله عليه الصلاة والسلام شيء عظيم من الأذى، ومن ذلك: أنه كان ساجداً عند الكعبة، فقال المشركون بعضهم لبعض: من ينطلق إلى جزور بني فلان فيأتي بسلاها فيطرحه على رأس محمد، فانبعث أشقاهم وهو: عقبة بن أبي معيط ، فأتى بالقذر والنتن وطرحه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد.
وأحياناً يكون ساجداً فيأتي المشركون بالتراب فيضعونه على رأسه.
وأحياناً يكون ساجداً صلوات ربي وسلامه عليه فيأتي أحد المشركين فيضع رجله على عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادت عيناه تندران، أي: تخرجان.
فلما بلغ الأمر بالنبي عليه الصلاة والسلام ذلك المبلغ، أذن لأصحابه بأن يخرجوا إلى المدينة، وإلى خير دار مع خير جيران، وهذا كله بوحي وبأمر وبتدبير الله، فإن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في التوراة والإنجيل هي: عبدي ونبيي محمد، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أميته حتى أقيم به الملة العوجاء، وأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً. ومن صفته صلى الله عليه وسلم أنه مهاجر إلى أرض سبخة، كثيرة الحجارة بين حرتين.
وهذا الوصف ينطبق على المدينة المنورة التي كانت تسمى يثرب، فقد قيض الله عز وجل لبنيه صلى الله عليه وسلم جماعة أخياراً من الأوس والخزرج، فبايعوه البيعة الأولى وهي التي تسمى ببيعة النساء، والتي فيها الأمور الستة: ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم في معروف، هكذا كانت البيعة الأولى.
ثم كانت البيعة الثانية التي شهدها ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وهي بيعة العقبة الثانية، وهي التي طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج مهاجراً إليهم على أن يمنعوه ما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، وأن يدافعوا عنه بكل ما أوتوا.