إسلام ويب

تفسير سورة الكهف - الآيات [1-8]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ابتدأ الله سبحانه وتعالى سورة الكهف بالثناء على نفسه؛ إذ هو مستحق الحمد والثناء، ذاكراً ما منَّ به على عباده من إنزال الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي لا ميل فيه ولا انحراف، والقائم بمعاش العباد ومصالحهم في الدنيا والآخرة، كما أنه جعله سبحانه منذراً للكافرين المعاندين، ومبشراً للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، كما نهى الله نبيه في الآيات على عدم الحزن على المشركين، مبيناً سبحانه زوال الدنيا وفناءها بما عليها من الكائنات.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

    اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً [الكهف:1-8].

    معنى الحمد وفضله

    هذه السورة المباركة افتتحها ربنا جل جلاله بحمد نفسه، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الكهف:1]، و(الحمد) معناه: الثناء الجميل على الله عز وجل، بجميل صفاته، وجميل أفعاله، أي: الثناء على الجميل بالجميل. وهذه الكلمة المباركة: (الحمد لله) هي كلمة كل شاكر، قالها نوح عليه السلام حين ركب في الفلك، حيث قال الله عز وجل له: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28].

    وقالها إبراهيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [إبراهيم:39].

    وقالها الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111].

    وقالها أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74].

    وقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الكلمة، وعدها من الباقيات الصالحات، التي قال الله فيها: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].

    وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: ( الحمد لله تملأ الميزان )، وأخبرنا صلوات ربي وسلامه عليه: ( أن عبداً قال: يا ربنا! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين كيف يكتبانها، فصعدا إلى الله عز وجل وهو أعلم، فقالا: يا ربنا! إن عبدك قال كلمة لم ندر كيف نكتبها، قال الله عز وجل: وما قال عبدي؟ قال الملكان: قال عبدك: يا ربنا! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، قال الله عز وجل: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ).

    ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه يوماً، فلما قال: سمع الله لمن حمده، قال أحد الصحابة: ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف عليه الصلاة والسلام من صلاته قال: أيكم القائل تلك المقالة؟ فقال الصحابي: أنا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها إلى الله عز وجل ). فهذه كلمة طيبة مباركة حري بكل مسلم أن يقولها في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، وفي الصحة والسقم، وفي الغنى والفقر، فقد ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابته نعمة قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أصابه بلاء قال: الحمد لله على كل حال ).

    وأخبرنا عليه الصلاة والسلام: ( بأن الله تعالى إذا ابتلى عبداً من عباده بداء في جسده، فإنه يقول لملائكته: انظروا ما يقول عبدي لعواده، فإذا قال لعواده: الحمد لله -يعني: حمد الله وأثنى عليه- رجعت الملائكة فأخبرت ربها وهو أعلم، فيقول الله عز وجل: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد ).

    وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبودية

    قال تعالى: الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ [الكهف:1]، العبد هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد وصفه الله عز وجل بهذه الصفة عند ذكر نزول القرآن في قوله سبحانه: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، قال أهل التفسير: التعبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ العبد مضافاً إلى الله عز وجل إضافة تشريف فقوله: (على عبده)، تنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ أعلى المراتب في صفة العبودية، فلا أحد من الناس أعبد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه، فهو أعبد العباد صلوات ربي وسلامه عليه، وقالوا أيضاً: في الآية إن إشعاراً بأن الرسول لا بد أن يكون عبداً للمرسل جل جلاله، لا كما زعمت النصارى في المسيح عليه السلام أنه ابن الله.

    خلو القرآن الكريم من الاعوجاج والانحراف

    وقوله تعالى: الْكِتَابَ [الكهف:1]، هو القرآن، وسمي الكتاب كتاباً من الكَتْب، وهو الضم والجمع؛ لأن حروفه وكلماته مجموع بعضها إلى بعض.

    ثم قال تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، أي: لم يجعل في هذا الكتاب اعوجاجاً، ولا ميلاً، ولا زيغاً، ولا انحرافاً، بل هو مستقيم في أحكامه، مستقيم في أخباره، كما قال الله عز وجل: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115]، وكما قال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، وكما قال سبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:27-28]، أي: لا ميل فيه ولا انحراف.

    حمد الله على نعمة القرآن

    ونعمة القرآن التي أمرنا ربنا جل جلاله بأن نحمده عليها قد ذكرت في آيات كثيرة، كقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء:174]، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقوله: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وقوله سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وقوله أيضاً: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:76-77]، وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51].. إلى غير ذلك من المواضع التي بين فيها ربنا أن أعظم نعمة أنعم بها على عباده هي إنزال هذا الكتاب العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فواجب على كل مسلم أن يحمد الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088971584

    عدد مرات الحفظ

    780261558